تعرضت قِبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسول الله (ﷺ)، ومهوى أفئدة الأنبياء (عليهم السلام) في هذه الأيام المباركة من رمضان، وفي ليلة الأربعاء الموافق لـ 14رمضان1444ه/ 05 إبريل 2023م، لاعتداء عبثي سافر من قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي استباحتباحات المسجد المبارك أثناء صلاة التراويح؛ اعتدت على المصلين والمعتكفين، ثم قامت بملاحقتهم حتى اقتحمت حرم المسجد، واعتدت على من بداخله، وانهالت على العُزل بأنواع من الضرب والإهانة، ثم باعتقال مئات المعتكفين، إتماماً لخطتها الجائرة بإخلاء المسجد الأقصى من المعتكفين، وإثبات الهيمنة على المسجد والتحكم فيه.
إن ما حدث في المسجد الأقصى لهو دلالة واضحة من عشرات الأدلّة على عدوان اليهود (الصهاينة)، وبطشهم وتوحشهم وإجرامهم، وبغيهم على مقدسات المسلمين من أبناء فلسطين، وحقوقهم في العبادة والتنسّك في هذا الشهر الفضيل، فهم قوم لا عهد لهم ولا ميثاق ولا يحترمون مقدسات ولا أعراف ولا قوانين، ويدوسون في كل مناسبة على الحق الديني والتاريخي والحضاري الثابت للعرب المسلمين في المسجد الأقصى المبارك.
ومع ذلك، فإن الاعتداء على المسجد الأقصى ليس اعتداءً مستغرباً أو سابقة لم تحدث من قبل، وإنما هو اعتداء من ضمن سلسلة الاعتداءات التاريخية التي تعرض لها هذا الحرم الإسلامي العظيم، إذ تعرض للاعتداءات الصليبية مع الغزو الصليبي لبلاد الشام، ودنَّسه الصليبيون زمناً طويلاً (مئتي سنة)، ومن ثم مع الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، ومن بداية تأسيس الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين الإسلامية حتى وقتنا الحاضر، فالأقصىمحور الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، وصاحب الأرض والمعتدي الدخيل الطارئ.
أولاً: فضائل فلسطين والمسجد الأقصى ومكانتهما عند المسلمين
لهذه الأرض الطيبة مكانة خاصة في ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وصراعنا مع قوى الشر قديماً وحديثاً، وليست مجرد أرض كأيّأرض، وليست هي بقعة كبقع الأرض الأخرى، إنها بقعة ارتبطت بديننا، وارتبطت بعقيدتنا ارتباطاً وثيقاً، كيف لا وفيها المسجد الأقصى، وما أدراك ما المسجد الأقصى الذي لربما كثير من المسلمين يجهلونرمزيته ومكانته التاريخية العظيمة.
وإن من أسمى فضائل هذا المسجد العظيم أن الله أسرى بنبيه من المسجد الحرام إليه، وأنه صلى بالأنبياء إمامًا، فقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]. فهو مسجد مبارك وما حوله مبارك، ولو لم تكن فيه فضيلة إلا هذه الآية لكانت كافية؛ لأنه إذا بُورك حوله، فالبركة فيه مضاعفة. (من فضائل المسجد الأقصى، أمين الشقاوي، 2018).
ومن فضائله: أنه مقدس، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾(المائدة: 21).
ومنه: أنه مهاجر الأنبياء ومقرهم، قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71]، وقال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 81]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ (سبأ: 18).
ومن فضائله في السُّنة، أنه قبلة المسلمين الأولى، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا، ثم صُرف إلى الكعبة» (مسند أحمد، 2991).
ومنه: أنه ثاني مسجد وُضع في الأرض، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيه» (صحيح البخاري، رقم 3366، ومسلم، رقم 520).
ومنها: أنه ثالث المساجد التي تشد الرحال إليها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى. (صحيح البخاري، رقم 1189، وصحيح مسلم، رقم 1397).
ومنها: أنه مهوى أفئدة الأنبياء، وبوب البخاري في صحيحه: باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ (ضربه) فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ - قَالَ: - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَي رَبِّ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (البخاري، 11/220).
ومنها: أن زيارته بنية الصلاة مغفرة للذنوب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عليه السلام سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا، فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ؛ فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ﮎ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» (مسند أحمد، رقم 6644).
ومنها: أن الصلاة فيه مضاعفة، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أيهما أفضل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الأَرْضِ، حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا» - أو قال: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (الحاكم في المستدرك، رقم 8600، 5/712) وفي (صحيح الترغيب، 1179).
ومنها: أن الدجال لا يدخله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جنادة بن أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال، ولا تحدثنا عن غيره وإن كان مصدقًا، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَنْذَرْتُكُمُ الدَّجَّالَ- ثَلَاثًا -، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ، وَإِنَّهُ فِيكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، وَإِنَّهُ جَعْدٌ آدَمُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، وَمَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، وَإِنَّهُ يُمْطِرُ الْمَطَرَ وَلَا يُنْبِتُ الشَّجَرَ، وَإِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا وَلَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّهُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ فِيهَا كُلَّ مَنْهَلٍ، وَلَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدَ الطُّورِ، وَمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَمَا يُشَبَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (مسند الإمام أحمد، 39/ 89 – 90). ومنها: أن هلاك يأجوج ومأجوج فيه.
ثانياً: الغزو الصليبي والمقاومة الإسلامية
لعل الحملات الصليبية على بيت المقدس هي من الأكبر المحن التي واجهتها أرض بيت المقدس وفلسطين في تاريخها؛ حيث نجح الصليبيون في احتلال أرض بيت المقدس وإقامة المستوطنات فيها، وذلك نتيجة لجملة من الأسباب؛ كانقسام الصف الإسلامي وفقد القيادة الموحدة وضعف الأمة بشكل عام، وتناحرها مذهبياً. وعلى الرغم من كل ذلك فإن حركات المقاومة الشعبية لم تتوقف مذ دخل أول جندي صليبي إلى أرض بيت المقدس. وذكرت المصادر التاريخية صوراً من المقاومة والجهاد، فإن أعدادا كبيرة من المجاهدين دافعوا عن بيت المقدس من أهله ومن سكان الريف المجاور له الذين لجأوا إليه لصد هجوم الصليبيين. وقد قاد حركة الجهاد هذه قاضي المدينة أبو القاسم مكي بن عبد السلام، الذي أقام على تحريض الناس على الجهاد والمقاومة إلى أن أسر وقتل. وعملت المقاومة على إفساد وطمر ما يقع حول مدينة القدس " من الينابيع والعيون " للتضييق على الصليبيين ونشر المرض في معسكراتهم، بالإضافة إلى تدمير صهاريج وأحواض مياه الأمطار.
دفعت هذه المقاومة الشعبية والإسلامية بأساليبها المتنوعة بأعداد كبيرة من الصليبيين إلى مغادرة الأرض المقدسة إلى الغرب الأوروبي؛ إذ لم تترك لهم المقاومة الشعبية مجالاً للشعور بالهدوء أو الإحساس بالأمن والاستقرار فيها. وهذا ما عبر عنه ويليام الصوري واصفًا الوضع الأمني المتدهور في القدس بقوله: فنادراً ما كان هناك مكان يستطيع المرء أن يرتاح فيه بأمان حتى داخل أسوار المدينة، وفي المنازل ذاتها... كما أن حالة الأسوار المخربة تركت المدينة معرّضة للعدو، فقد اقتحموا المدن وبطشوا بالكثيرين في عقر منازلهم. (الاستيطان الصليبي لبيت المقدس وتهجير المقدسيين، مصطفى قداد، مجلة دراسات بيت المقدس، العدد عشرين، 2020، ص 379).
وبعد عقود من الاحتلال وفي عام 583 انتصر السلطان صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وفتح بجيوشه المدن المقدسية ثم وصل إلى مدينة بيت المقدس في منتصف شهر رجب وما إن بدأ بمهاجمة الصليبيين فيها حتى استسلموا وطلبوا الأمان. ودخل المسلمون بيت المقدس في يوم الجمعة الموافق للسابع والعشرين من شهر رجب سنة 583ه. أما سكان المستوطنات الأخرى من الصليبيين فقد هربوا بعد سماعهم بانتصارات صلاح الدين وكان مصير مستوطناتهم الزوال. (الاستيطان الصليبي لبيت المقدس وتهجير المقدسيين، مصطفى قداد، مجلة دراسات بيت المقدس، العدد عشرين، 2020، ص 379).
نؤمن أنّ الأيام دول، وأن التاريخ يُعيد نفسه، وأن الله تعالى سيطهر بيت المقدس من دنس هؤلاء الأشرار المغتصبين، وأن الله تعالى كما طهر بيت المقدس من دنس الصليبيين المعتدين سيطهر بيت المقدس والمسجد الأقصى من عدوان اليهود والصهاينة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].(عبد الله شاكر، فضائل المسجد الأقصى المبارك، 2017).
ثالثاً: على خطى الملك العادل نور الدين محمود الزنكي في توحيد كلمة المسلمين
إنّ ما نعاني منه اليوم من تشرذم وتفرق في صفوف الأمة الإسلامية، يجعل من الضروريّ أن نبحث عن حلول التوحد والالتحام من جديد حتى نحقق وعد الله الذي قضى أن ينصرنا على عدونا ولا يجعل المهانة فينا، وإن من خير النماذج التي كان لها الأثر البليغ في توحيد صفوف الأمة، المجاهد الكبير والملك العادل نور الدين محمود الزنكي؛ حيث كان يؤمن بضرورة التحام القوى الإسلامية وتوحيد الصفوف المفككة، حتى تكون سدًا منيعًا أمام أطماع الصليبيين؛ لكن حُكّام ووزراء دمشق الذين ربطتهم علاقات ودية مع الصليبين حالوا دون تبلور مشروع الوحدة المنشود، وقد عمل نور الدين جاهدًا على توحيد دمشق، وهو ما حدث فعلا سنة 1154م وذلك بعد وفاة وزيرها الداهية "معين الدين أنر" الذي عرفت البلاد في عهده مرحلة من الذل والمهانة أمام الصليبين، وقد استقبل سكان دمشق نور الدين زنكي بالترحيب البالغ، وتوحدت في عهده بلاد الشام، وتوسعت الدولة النورية وأصبحت تحيط بالقوات الصليبية من الشمال والشرق والجنوب! (هكذا مهد نور الدين الزنكي لتحرير القدس، وداد زراعي، مقالات الجزيرة)
وبذلك لم يبقَ للصليبيين مكانٌ للتوسع سوى مصر التي مثلت ثرواتها حافزاً لهم على ضمها لملكهم، خاصة في ظل الخلاف والضعف الذي عرفه البلاط الفاطميّ في مصر آنذاك. وبالفعل قام الإفرنج باجتياح مصر ولم تعقهم أي مقاومة تذكر! فبعث نور الدين جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي لطرد الصليبيين منها، وكان ذلك عام 1169م، وقد حققوا نصرًا مبينًا كسروا به شوكة الصليبيين وألحقوا بهم هزيمة نكراء، فتولى شيركوه منصب الوزارة؛ لكنه توفي بعد شهرين من ذلك، فجعل نور الدين مكانه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، وامتدت بعدها الدولة النورية من الموصل إلى مصر فصارت قطعةً واحدة، وفُصِلَ بيت المقدس عن بقية الإمارات الصليبية وأصبح معزولا واضح المصير. أدرك الصليبيون أنهم أمام رجل من نفسِ طينة أبيه، قائد عظيم لا يقهر، عمل على توحيد صفوف الأمة الإسلامية، فأعدَّها إيمانيًا وفكريًا واجتماعيًا وجهاديًا واقتصاديًا. (هكذا مهد نور الدين الزنكي لتحرير القدس، وداد زراعي، مقالات الجزيرة).
رابعاً: على خطى القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي في تنشئة الأجيال وتحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى
فتح القائد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، بجيل فريد أُعد لسنوات طويلة نفسياً وخلقياً وروحياً وتربوياً فلم يظهر هذا الجيل الذي انتصر في حطّين من فراغ، وإنما سبقته جهودٌ علميَّة، وتربويةٌ على أصول منهج أهل السُّنَّة، والجماعة، وأصبح ذلك الجيل؛ الذي أكرمه الله بالنَّصر في حطِّين تنطبق فيه كثيراً من صفات الطائفة المنصورة، والتي من أهمها:
1. أنَّها على الحقِّ؛ وللطائفة المنصورة من ملازمة الحق، واتِّباعه ما ليس لسائر المسلمين، وهي إنما استحقَّت الذكر، والنَّصر؛ لتمسُّكها بالحقِّ الكامل حين أعرض عنه الأكثرون.
2. أنها قائمة بأمر الله؛ وهـذه الخصيصة بارزةٌ جداً في الوصف النبوي لهـذه الطَّائفة، فهم أمَّةٌ قائمة بأمر الله، واسمهم: «الطائفة المنصورة»، فقد تميَّز صلاح الدين بحمل راية الدَّعوة إلى الله، وإلى دينه، وشرعه، وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم والقيام على نشر السنة بين الناس بكل وسيلةٍ ممكنةٍ مشروعةٍ، ووظف إمكانات الدولة لذلك، ولدفع الشبهات عن منهج أهل السنة، والردِّ على مخالفيه. وكانت دولة صلاح الدين قائمةً بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر باليد، واللسان، والقلب، معارضةً لكل انحراف يقع بين المسلمين؛ أيَّا كان نوعه: سياسياً، أو اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو علمياً، أو اعتقادياً.
3. أنَّها تقوم بواجب الجهاد في سبيل الله؛ فالطائفة المنصورة جاءت الأحاديث النبوية في وصفهم بأنهم «يقاتلون على الحق» أو «يقاتلون على أمر الله». وكان صلاح الدين وجيشه قاموا بالجهاد الشرعي في سبي الله، وقتال أعداء الله من الكفار، وغيرهم.
4. أنَّها صابرة؛ فقد خصَّ الله الطائفة المنصورة بالصَّبر، وقد رأيت، وسوف ترى ـ بإذن الله ـ كيف تسلَّح صلاح الدين، وجنوده بالصَّبر الجميل في جهادهم، ولم تستطع القوَّة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم، وهدفهم الذي يسعون إليه، ولهـذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم بأنهم: «لا يضرهم مَنْ كذَّبهم، ولا مَنْ خالفهم، ولا يبالون بمن خالفهم». وهـذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى هؤلاء العاملين الذي عرفوا أهدافهم، وسلكوا طريقهم، فلم ينظروا إلى خلاف المخالفين، وعوائق المخذِّلين، ولا تكذيب الأعداء الحاقدين. وكانوا يواجهون كلَّ المتاعب بصبرٍ، وثباتٍ، ويقين. فهـذه الصفات التي جاءت في الأحاديث النبوية لوصف الطائفة المنصورة قد انطبقت على جيل صلاح الدين الأيوبي.
وكان صلاح الدين يوصي جنوده بالوصايا النافعة، فقد قال ـ رحمه الله ـ ذات يوم: اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم، ومنعته، وأنتم تعلمون: أنَّ دماء المسلمين، وأموالهم، وذراريهم في ذممكم معلَّقة والله ـ عز وجل ـ سائلكم يوم القيامة عنهم، وأنَّ هـذا العدو ليس له من المسلمين من يصدُّه عن البلاد، والعباد غيركم، فإن توليتم ـ والعياذ بالله ـ طوى البلاد، وأهلك العباد، وأخذ الأموال، والأطفال، والنساء، وعُبِد الصليبُ في المساجد، وعُزل القران منها، والصلاة، وكان ذلك كلُّه في ذممكم، فإنَّكم أنتم الذين تصدَّيتم لهـذا كلِّه، وأكلتم أموال المسلمين؛ لتدفعوا عنهم عدوَّهم، وتنصروا ضعافهم، فالمسلمون في سائر البلاد متعلِّقون بكم. والسلام. (القائد صلاح الدين الأيوبي، علي محمد الصلابي، ص 300).
إن الاعتداء على المسجد الأقصى في شهر رمضان المباركهو بشارة الصابرين والمرابطين والمصابرين من إخواننا، ونبشرهم بأن المسجد الأقصى من قديم الزمان تعرض لكل أشكال المحن والأزمات والاعتداء من يد الغدر وأعوان الشيطان وحوصر وحُرق ودُمرت أجزاء منه واستبيح بالقذارات، ولكنه صمدَ، وانتصر بهمة وعزيمة أهله المرابطين حراس العقيدة والدين والتاريخ، وتاريخنا يشهد بأن عوامل النصر والتمكين تأتي من قلب المحن، وإن نصر الأمة واسترجاع مجدها وصون مقدّساتها، مرتبط بعد الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به، بسيرها على نهج هؤلاء القادة العظام في توحيد كلمة الأمة ورصّ صفوفها، كما فعل الملك العادل نورد الدين محمود الزنكي، وعلى تنشئة أجيال كأجيال الرعيل الأول من صحابة رسول الله ﷺ كما انتهج القائد صلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعاً. إن هذه الغايات العظمى تحتاج جهوداً مكثفة من الأمة الإسلامية لتكون على قلب واحدوكلمة واحدة، بتوحيد شعوب الأمة الإسلامية وحكوماتها، حتى نتجاوز هذه المعضلة الكبرى ونحرر المسجد الأقصى، وننصر الشعب الفلسطيني المجاهد. كما نناشد إخواننا المجاهدين والمرابطين في المسجد الأقصى أن يصبروا ويصابروا، في دفاعهم عن أرضهم ومقدّساتهم فإن الله ناصرهم ومؤيدهم من عنده، قال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].