تتعطّر عقولُنا وأرواحُنا بمناسبة المولد النبوي الشريف من كلِّ سنة، وهو ما يجرّنا إلى الحديث عن جانبٍ من جوانب علاقتنا المقدّسة والمطردة به صلى الله عليه وسلّم، متجاوزين حُجُب الزّمان ومخترقين حدود المكان، لنكون على موعدٍ نادرٍ مع خير البريّة، تتطلع قلوبُنا وتشرئبُّ نفُوسُنا للوقوف على أسرار هذه البعثة وحِكمة هذا الوجود البشري له عليه الصّلاة والسّلام.
فعندما نرحل إلى السّيرة النبوية - للاقتداء - فنحن نقف على قمّة التجربة التاريخية الكاملة والمؤيَّدة بالوحي، ولابدّ من القدرة على استلهام الأنموذج التطبيقي له، بل لابدّ من العمل على استمراره وامتداده، تعبيرًا عن خلوده وفاعليته وتجدّده، مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرّهم من خالفهم ولا مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
كان بالإمكان أن ينزّل الله تعالى القرآن الكريم جملةً واحدةً دون واسطةٍ ملائكية أو بشرية، كمشروعٍ نظريٍّ متكاملٍ ومعصوم، "يهدي به الله مَن اتبع رضوانه سُبل السّلام.."(المائدة:06)، ولكن من رحمته سبحانه وتعالى أن قدّم لنا نموذجًا واقعيًّا وتجربةً بشرية جسّدت لنا عالم القيم في دنيا النّاس، مثّلت الفقه التطبيقي والتجسيد الفعلي والتنزيل العملي لقيم الكتاب والسُنّة على الواقع، وهي البيان الواقعي لكيفيات التعامل البشري القاصر والمحدود مع الوحي المعصوم والمطلق، ومن حِكمة ذلك: الإغراء بتمثّل أنموذج الإقتداء ليكون أدْعَى للإتباع وتحمّل مسؤولية الانتماء، وهو من عطاءات السّيرة لتحقيق الشّهادة علينا، كما قال تعالى: ".. ليكون الرّسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على النّاس.." (الحج:78). هناك سِّرٌّ في بشريته صلى الله عليه وسلّم، وفي ظِلالها التفسيرية في حدود العصمة وأبعادها، ولهذا المنطلق أهميةٌ قصوى في مجال العقيدة والعبادة والسّلوك والاقتداء، قال سبحانه وتعالى على لسانه صلى الله عليه وسلم: "قل سبحان ربّي هل كنت إلا بشرًا رسولاً." (الإسراء:93)، وما تناوله علماء الأصول في التفريق بين تصرّفاته صلى الله عليه وسلم التشريعية كنبيٍّ معصومٍ وجب الاقتداء به في وظيفته الدّينية، وبين تصرّفاته غير التشريعية كشخصٍ له اجتهادته البشرية وحياته الاجتماعية في قضاياه الدّنيوية، وقد روى الشيخان البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلّم: "إنّما أنا بشرٌ مثلكم، أنسى كما تنسُون فإذا نسيتُ فذكروني."، وقال الإمام النّووي رحمه الله في شرحه على صحيح الإمام مسلم لحديث تأبير النّخيل، باب: وجوب امتثال ما قاله صلى الله عليه و سلم شرْعًا، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرّأي.
إنّ الخطأ في فَهْم "بشريته" عليه الصّلاة والسّلام إمّا أن تؤدّي إلى إلغائها والمغالاة في العصمة والوصول إلى مقامات يتعذّر الاقتداء به فيها، كونه فوق الطبيعة الانسانية والقدرة البشرية، وهو ما نهانا عنه بقوله فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه: "لا تُطْرُوني كما أطْرَتْ النّصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله."، وإمّا المغالاة في التركيز عليها حتى تُنفى عنه الصّفة النّبوية والصّبغة الرّسالية المتصلة بالسّماء والمرتبطة بالوحي، فيُصوّر بالتصوير الاستشراقي بالزّعيم والقائد والبطل والعبقري، كغيره ممّن صنعوا التاريخ وغيّروا مجراه، وبالتالي لا يتميز بخاصية الاقتداء والتأسّي.
وعندما تقرأ قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.."(الأحزاب:21) تدرك بأنه لابدّ من امتلاك القدرة على تجريد السّيرة النبوية من ظرفيْها الزّماني والمكاني، وتقديمها كقيمٍ تتجاوز ذلك في قراءاتٍ تجديدية تتناسب مع كل عصر، فتولّد الرّؤية التي تعالج الواقع وتجيب عن الأسئلة وتحلّ المشكلات وتجسّد فاعليتها في الحياة، باستدعاء قيمها وتنزيلها كنماذج بشرية تمثّل صدقية: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين."(الأنبياء:107)، بحيث ترتقي إلى عالم الأفكار وتترفّع عن عالم الأشياء، وقد كفانا الأوّلون أمانة الرّواية والنّقل والسّرد التأريخي لها، وبقي علينا الدراسة الاستراتيجية المتحرّكة والناطقة لها.
إننا نسيء إلى "الاقتداء" به صلى الله عليه وسلّم عندما نكتفي بمجرد الاحتفالات الفولكلورية والمادية والشّكلية، وننسى أنّ العبرة هي في امتداد المنهج وتوسّع عطاء السّيرة ومعرفة أسرار قوله تعالى: "..واعلموا أنّ فيكم رسول الله.."(الحجرات:07)، إذ الاقتداء نزوعٌ فطريّ بشريٌّ في الإنسان، وعندما تمليه هدايات القرآن الكريم يصير عقيدةً وتعبّدًا..
إنّ التكليف الرّباني بالاقتداء به صلى الله عليه وسلّم يعني أنّ السّيرة (وهي أشمل من السُّنّة) قد بلغت ذروة الكمال في بناء أنموذج التأسّي، وحازت على معيارية الشّهود على كلّ النّاس، وقد استوعبت كلّ أقضية الحياة، وهذا يعني أنّ تلبية حاجات الأفراد والجماعات والمجتمعات من معين النّبوة موجود، تحتاج فقط إلى فقه الواقع الذي تعيشه وفقه مرحلة السّيرة التي تناسبها، باجتهادٍ مقاصديٍّ عقلي واستنباطي يستنطق الأنموذج ليُسعد الإنسان والبشرية الحائرة.
إنّ الاقتداء يستند إلى المعرفة اليقينية والاطمئنان القلبي والأمان العقلي والفعل الإنجازي، وهو يختلف عن التقليد الذي يفتقد إلى ذلك، وهو من ابداعات ودقّة التعبير القرآني وقوّته الدلالية حين يسمو بالاقتداء إلى مرتبة "الأسوة" والتي تعني: تحريم الاتباع دون مشروعية الدليل، وهو نوعٌ من التكريم الإلهي للعقل الانساني.
ولا يمكن لهذا الإقتداء أن يتحقّق إلا إذا استوعب المنهج النبوي بكلّ أبعاده الإنسانية، ولا يمكن لأحدٍ تحقيق ذلك إلا إذا تكاملت فيه حقائق التديّن الصحيح، وذلك بالمستويات الثلاثة التالية:
1) سلطان النّبوة على القلب بالمحبّة: بتحرير القلب وتصويب توجّهه إلى أنوار النبوّة، وقد جاء فيما رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحبّ إلي من كلِّ شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك."، فقال عمر: فإنّه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر."
2) سلطان النّبوة على العقل بالعلم: وهي المعرفة التي تقتضي حضور النّبي صلى الله عليه وسلّم في حياة المسلم، تنزيلاً للنّص في قوله تعالى: " .. واعلموا أنّ فيكم رسول الله.."(الحجرات:07)، إذ لا تتمّ محبّته ولا يمكن الاقتداء به مع الجهل بجماله وكماله وروعة هداياته..
3) سلطان النّبوة على الجوارح بالاتباع: وهي تحتاج إلى قدرة العقل على الامتداد في النّص لاستخراج السّر والجوهر فيما يجب الاقتداء به، دون الارتهان إلى الزّمان (التاريخ) والمكان (الجغرافيا)، لنعيش حاضرنا ونتطلع إلى مستقبلنا. قال صلى الله عليه وسلّم: "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجد.."، والسُّنّة هي الطريقة والمنهج، وهي تختلف عن مجرد النوافل والفضائل، إذ هي تعبّر عن الحقيقة في الاعتقاد، والطريقة في التّخلّق، والوسيلة في التعبّد، والمنهج في العلاقة مع الله والكون والإنسان والحياة على هديه صلّى الله عليه وسلّم.