السياسة، الاقتصاد والإدارة
دعونا في البداية نُصارح أنفسنا بأن البيئة في الجزائر صعبة حقيقة، وأن ثقافة العمل مُنهكة والمهنية تقريبًا منعدمة، وغير قابلة لصناعة قصص نجاح، وأولى المؤشرات هو انعدام قيمة "دعم النجاح" في هذه البلاد وحتى من الأصدقاء المقربين، حيث كلما حقق أحد ما النجاح تترقبه أعين بدافع الغيرة لا عيون التفاؤل والدعم، وهذا معروف لأن "كل ذي نعمة محسود" وهي ثقافة يجب على الجيل الحالي التخلص منها، بالإضافة إلى وجود بيروقراطية وعراقيل إدارية ضخمة من جهات تتحكم في مصيرك ومستقبلك المهني، تكدست منذ رحيل الاستعمار لغاية الآن، ويتعامل معها الجيل الحالي بصعوبة وعدم القدرة على التغيير.
ولهذا فالمواهب والكفاءات لا تنتظر التفات الناس إليها، ولا تنتظر تكريم الدولة إلا من يفكر بعاطفة تجاه وطنه، فمئات الآلاف من الجزائريين موجودون في مدن العالم بالقارات الخمس، يصنعون نجاحات عظيمة، وكذلك بالنسبة للجنسيات الأخرى التي تعاني من دول متخلفة بفكرها وتنظيمها وسلوكها تجاه أبنائها. فمن المؤكد أننا نعرف عشرات ومئات الشركات والمشاريع الناجحة حتى داخل الجزائر، ومن المؤكد أن الذي أقامها هم جزائريون بنسب متفاوتة من الاجتهاد، لكنهم في النهاية ناجحون ورواد أعمال يُقتدى بهم.
ولهذا فسوق الجزائر هي بيئة خصبة وممتازة لوجود أعمال لأنها بكل بساطة منعدمة الإنتاج المحلي.
جوهر التغيير هو الثروة
وكذلك لأن تغيير النمط الاقتصادي وتهيئة بيئة العمل المساعدة تتطلب جهدًا سياسيًا شرطه الأول هو "الحرية"، التي تمنحنا النزاهة والشفافية والرقابة في المعاملات المالية والاقتصادية وكل ما له علاقة برفع الاحتكار ومكافحة الفساد. والشق الاقتصادي له علاقة كبيرة بالسياسة، ولذلك كانت هذه الأخيرة هي الثقافة والسلوك والقناعة التي يزرعها كل من يقاوم التغيير، النظام السياسي، الفاسدون والمُتحكمون، الإداريون والبيروقراطيون، حتى بعض المنتمين للتيار السلفي لهم شعار واحد نفخ باستمرار "اخطيك من السياسة" وتعني العبارة في الدارجة الجزائرية "لا تهتم بالسياسة" في حين أنها -في الحقيقة- مفتاح كل مجال وقطاع لأجل التحرر، وتطبيق قيم العدل فيه بين جميع الناس، حيث الكل سواسية.
ولهذا إدارة "الشأن العام" بشكل صحيح وحوكمة راشدة، كانت تحارب بشدة، وهي المعطل الحقيقي للتنمية والابتكار ومحاولة تطبيق الأفكار الريادية، فمن غير الممكن لفرد مبتكر أن يهزم لوبيات الفساد وسلطات قائمة على الفشل؛ في مثال بسيط لا أريد ان نتوقف عليه هو أننا في عام ألفين وعشرين، تجد صحفيين ومثقفين يتساءلون ما هي حاضنات الأعمال؟ وما معنى الاقتصاد الرقمي؟ في عالم يتوجه نحو تقنيات جديدة ومجالات الجيل الخامس من الثورة الصناعية، حيث تم تجاوز كل هذا قبل عقد من الزمن. هؤلاء كوريون شماليون في شمال أفريقيا.
التوظيف والأزمة
لنخرج من السياسة التي نختلف حولها كثيرًا، ونعود إلى التجارة التي نحن بحاجة ماسة إليها، أين توجد ثقافة خطيرة تتمثل في التوظيف وتوافد الملايين من الجزائريين تجاه طبيعة الدولة الاجتماعية والقائمة على احتكار الثورة وتوزيعها بما يوافق سياستها ورؤيتها الأحادية، نحن ندرس مجاناً من أجل أن نعمل عند الدولة، حيث هي الاقتصاد والتنمية والسكن والحليب والتعليم والإدارة والحالة المدنية والصحة والبنية التحتية وحتى التزويد بالأنترنت، ونحن ندرس من أجل الشهادة والحصول على وظيفة، حيث دائمًا نسمع وجود خمسة آلاف ملف مدفوع، مقابل عشرة مناصب في وظيفة ما. وهنا تتضح الورطة التي وقعنا فيها جميعًا.
نحن دائما نختار عند نجاحنا في الباكالوريا التخصصات التي بها عمل، واسأل أي شاب جامعي لماذا اختار تخصصه، ستجد الغالبية تجيب لأنها مقتنعة بذلك، والقليل منا توجه إلى الجامعة لأجل طلب العلم وفقط، وعليه فإن نظاما كاملا للدولة بسياسته وثقافته ونمط سلوكه قائم على زرع قيم خاطئة لدينا، تحولت فيما بعد إلى مجموعة أزمات علينا بتفكيكها وإعادة تشغيلها بالطرق السليمة والصحيحة.
يوجد الآلاف من الشباب توقفوا عن الدراسة ونجحوا في التجارة، في حين أن طبيبا متخصصا درس اثنتي عشرة سنة من العلم الأفضل على الإطلاق بالمجتمع يتحصل على راتب يساوي أجرة سكن بحي في العاصمة؛ هذا هو الفرق بين العمل الحر والوظيفة.
النجاح هو ما تنجزه!
وبالرغم من كل ما سردته الآن، هناك نماذج نجاح مبهرة، بدأت من الصفر وهي الآن تتلمس أرباح كبيرة، وأعرف الكثير شخصيًا وفعلا نجحت في ذلك بعد جد واجتهاد. وهناك من فشل وتعثر في مشاريعه وأعرف صديقا من ولاية داخلية، خسر في مشاريع متعددة وغيرها أكثر من ملياري سنتيم، ولا يزال يبحث عن مشروع يليق به، وغير ذلك من الأعمال الحرة التي يرغب أصحابها في المخاطرة والمغامرة التي تعكس القدرة على التكيف والمرونة طبعًا.
وليس صحيحًا من يروج بأن التجارة والعمل الحر، هو راحة مالية واستقلالية دائمة، فمن حيث الإرهاق والتعب والمخاطرة والمغامرة والخسائر فأنت أقرب لذلك من الموظف العادي على بساطة عمله، لكنه من حيث مهارة الحياة والتعلم والاستمتاع والقدرة على العيش بذاتك عند الأزمات فأنت أفضل منه بكثير، والدول مراحل زمنية فيها بحبوحة وفيها شدة وتخبط. وللعلم أن كل رجل أعمال مهما علت مداخيله فهو في تهديد مستمر، لكنه أفضل من الموظف في نفسيته واستقلالية قراره وقدرته على التنقل والتحكم في شؤونه، حتى وإن كان في أولى مراحل مشروعه الخاص.
ولذلك فمن أراد أن يستعد لأي أزمة أو يتجاوز مرحلة اقتصادية صعبة، عليه أن يجد لنفسه مشروعًا وتجارة وعملا حرًا ومهنة مستقلة بذاتها غير مرتبطة بالآخرين، عليه أن يسبق أقرانه بمراحل في قدرته على الاستقلال العملي وأن ينجز خارج دائرة الريع التي أفقدت العمل قيمته وأنهت للكفاءة وجودها بهذه البلاد، حيث لم يعد هناك فرق بين عامل مجتهد وبين بطال متكلس.
أثبت كفاءتك..
ولنعد إلى بيئتنا الخاصة، فالعمل موجود وبقدر ما توجد مشاكل كثيرة وكبيرة فهناك مشاريع وحلول تدخر علينا أموال طائلة، والمطلوب هو الاجتهاد والإنجاز والقدرة بالاعتماد على الذات، فهناك طرق ووسائل كثيرة للتعلم والتدرب والإنجاز والتجربة وبناء الخبرة المطلوبة، ولا يمكن لأي عمل أن ينجز بشكل جيد إن لم يأخذ منك وقتًا وكلفة وجهدًا بدنيا وذهنيًا، ولذلك لا وجود لأحلام وردية مجانية في كلا المجالين (القطاع الوظيفي أو الحُر). ولهذا أنصح بالابتعاد عن الدورات والورشات التي تروج للشعارات الرنانة. ولذلك يقال أن الانتقال من الوظيفة الى العمل الحر هو انتقال من دائرة الراحة إلى دوائر التهديد.
الفرق يكمن في أن الكفاءة تثبت نفسها أينما وجدت، والفاشل يبدو كذلك في النهاية حتى وإن كان المال موجودًا والإمكانيات متاحة وبيئة العمل مساعدة للنجاح، وهناك من أعرفه ضخ أموال كبيرة في مشاريع عديدة لكنه فشل لأنه لا يحب التعلم وليس لأنه لا يستطيع أن ينجح.
وهناك مهارات وخبرات تحتاجها في كل مكان لكي تتقدم خطوات للأمام، ولهذا ليس العمل الحر أفضل دائمًا لكنه ذو جدوى كبيرة عند المقدرة عليه، وأفضل في جوهر الحياة من الوظيفة عند تغير المعطيات وتبدل الأوضاع، وهو الأنسب لكل من يريد الاستقرار والاستمرار في نمو مداخيله بالمقارنة مع الوظيفة، حيث لا يوجد "موظف ثري" إلا في الحالات الاستثنائية، وأغلبها مرتبطة بالفساد.
أعدموا التعويم والتشويه لكل جديد
في النهاية سنكون أمام وضع يتحتم على الجميع فيه القيام بخطوات تجاه المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويتحتم علينا جميعًا الخوض في هذا المجال الذي يجب أن يشيع بشكل واسع ويتحول إلى ثقافة لدى الكبار والصغار، فقط لا يجب أن نظلمه من خلال الكل يدرب والكل يُعلِم فيه، ولنحاول أن نميز الإنجازات من الأوهام.
والخلاصة هي أن نخوض التجارب وأن لا نتأخر في فتح ورشات صغيرة، القيام بمهن وأعمال حرة، توظيف التكنولوجيا بشكل أوسع، الاهتمام برفع الكفاءة والقدرات لمستويات عالية، التعلم والسرعة في ذلك وعدم تضييع الوقت في شبكات التواصل الاجتماعي إلا فيما يفيد، الاستفادة من المهارات الذاتية والمتوفرة مجانا عبر منصات التدريب الالكترونية، لا تتردد في التفكير المستمر من أجل تنويع وتوسيع الموارد المالية الخاصة والإنفاق برشد وبالشكل الصحيح، إشاعة التغذية الصحية والتقليل من النفقات التي تنزف من دون فوائد ملموسة، مع مراعاة التوكل على الله والقيم التي يبارك لنا فيها الله الرزق والسعي إليه.
وأؤكد مرة اخرى، أنه لن يكون هناك نجاح في مجال "العمل الحر" وإيجاد البديل المالي للريع النفطي، إلا برفع الدولة ومؤسساتها سلطتها على الاقتصاد وفتح السوق أمام الجميع من أجل المنافسة وعدم التحكم في الأسعار ورفع الاحتكار، وتطبيق القوانين التي تحمي صغار التجار والمخترعين والمبدعين عبر تسهيل تسجيل الملكية الفكرية والصناعية لدى الهيئات المختصة، كما يجب إصلاح النظام البنكي والتعاملات المالية لتحويل المواطن من عبء على الدولة إلى منتج يضيف لها قيمة مالية عند أي جهد يقوم به. والجزائري ليس استثناء أمام غيره من الجنسيات العاملة، فبإمكان العقول الصغيرة أن توفر ملايير الدولارات لخزينة الدولة، لو يفقه القائمون على السلطات ذلك.