"معامل القابلية للاستعمار" من المصطلحات المفصلية التي ارتكزت عليها دراسات الأستاذ "مالك بن نبي"، كما أنها تدخل أيضا ضمن الدراسات لما بعد الاستعمارية، فهو يشير في هذا المصطلح بقوله: "... ينبعث -أي المعامل- من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصيغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد فيها حركاته وأفكاره وحياته"، ومنه فقد صير النظام الاستعماري كمعامل خارجي شروطا مادية كانت لها انعكاساتها السيكولوجية على الفرد المستعَمَر، حتى يمسي قبوله لأي سياسة استعمارية قبولا لا شعوريا، وبالتالي فقد أمسى أرضية مهيئة وقابلة للتحكم فيها إذا ما توفرت الشروط الضرورية. ومع مجيء مرحلة الاستقلال فقد ورثت العديد من الدول المستقلة فردا مضطربا داخليا لا زال يعاني من ترسبات معامل القابلية للاستعمار بالرغم من انتهاء الوجود المادي للإستعمار.
هذا المصطلح ساهم وساعد إلى حد ما على فهم جانب من عمل نظام معين وكيفية تفاعله مع بيئته وأفراده، إلا أن صلاحيته قد لا تختص بظروف زمكانية معينة، خاصة في ظل المشاكل والتداعيات التي ترتبت على تجاهله وعدم الاهتمام بمغزاه، كما أن هذا المعامل بالرغم من أنه عالج أنظمة(الاستعمار)وشعوب معينة(المستعمرين)، إلا أن هذا لا يجعله يتوقف أو ينتهي بمجرد الاستقلال أو نهاية نظام ما.
فالأنظمة قد تتغير كما أنها قد تتعدد، إلا أن الممارسات والسلوكيات تبقى إلى حد ما نفسها أو تتشابه معها تحت مسميات عصرية تركن وراء غطاء نظام آخر. في المقابل أيضا تأخذ قابليات الشعوب في التمايز طبقا للظروف التاريخية، فتسير على نمط معين من التفكير والقناعات للتعاطي مع قضايا العصر، فتارة تناصر أو تقبل وتارة هي تعارض وترفض، وكثيرا ما تتدخل الأنظمة السياسية بطبيعتها في التأثير بتوفير الشروط الخارجية لتوجيه هذه القابليات التي لدى هذه الشعوب وحتى توظيفها.
وقابليات هذا العصر تعددت وجوهها ومبعثها يكاد يكون واحد، تعددت مشاربها ومنبعها واحد، اطرح ما شئت من القضايا فالباب مفتوح خاصة عندما يتعلق الأمر بدول عالمنا، ضف له عدم إسناد الأمر لأهله فتأخذ النقاشات مجراها حول الوطنية حول الهوية حول التخلف، حول الأخلاق…
ويا حبذا لو تكون باسم الأمة! فكلها أمست في حكم المقبول والمعقول وإن كان في إثارتها الكثير من الشك والمجون، ومن هذه القابليات:
"قابلية القهر والظلم"، وكأنك خرجت من حفرة لتقع في بئر، أو من ظل نظام استعماري إلى ظلام أنظمة بلغ بها الحال من الظلم والاستبداد مبلغا عظيما، فلا تكاد تعرف فيه الحق من الباطل ولا الخطأ من الصواب، فطال الأمد بهذه الأنظمة واستكانت شعوبها فدخلت في سبات توسدت فيه القهر وتدثرت بالظلم لعلها تدفئ، ولكن هيهات هيهات، فتربت ونضجت القناعات في النفوس والعقول وماتت الضمائر في أحضان لم تألف من المثل العليا كالحق والعدل والحرية شيئا، فلا عجب من أن يقال "مستبد مستنير" من قبل فرد لا يجد حتى قوت يومه، أو من فلان يقنع بالفتات في أرض تعيل قارات، أو من يمجد ويحابي حاكم ظالم لا لشيء إلا حاجة في نفسه لأنه مثله أو خوفا من البطش، أو من يناهض الظلم والقهر في الظاهر وهو في السر ألد الخصام لا يعدل حتى مع نفسه فما بالك مع ابنه وزوجه وعمله، وقس على ذلك من الأمور. هذه الأخيرة تصبح مسألة وقت حتى يتم تقبل بعضها واستسهال أخرى، ويمسي ما كان مرفوضا مقبولا والعكس صحيح.
"القابلية للتخلف والجهل"، وإن كانت امتداد أو تحصيل لما قبلها فإن التأثير بينهما متبادل، وبما تحمله من معنى فقد زادت الطين بلة كما زادت من عمر مشاكل هذه الشعوب وآلامها، فطغى عليها عامل الخوف مولدا بدوره الشعور بمركب النقص، لماذا! بسبب الجهل؟ ربما هل مازال الاحتكام إليه جائزا؟ نعم إذا كان هروبا وجبنا من حقيقة ما أو واقع معين! وفي ذلك أوجه لا تحصى: جهل بالانتماء والدين، جهل بالحقوق والواجبات، جهل بالذات ...الخ، ولك أن تتخيل نتائج تراكمها، فحقيقة "من جهل شيئا عاداه..." تبدو صائبة إلى حد ما، فالخوف يبسطه الجهل ويرفعه العلم، والخوف في ظل بيئة مستبدة ظالمة أشد وطأة من غيرها.
فكما يقول الكواكبي حول جهل العوام: "الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين إذا علموا قالوا، وإذا قالوا فعلوا"، فلا غرابة من وجود فئات مثلهم كمثل غثاء السيل أمسوا عالة على شعوبهم بدل أن يأخذوا بأيديهم إلى بر الأمان، فما أكثر المتعالمين وما أكثر الأشباه والأنصاف: أنصاف رجال، أنصاف مثقفين، أنصاف معلمين، أنصاف مشايخ...
فلا عجب إذا أن تسمع في بعض المجتمعات أو تشاهد على وسائل الإعلام المسموعة أو المكتوبة، أو حتى في الأماكن العامة عند حدوث أمر شاذ وخارج عن العرف والتقليد ولو بسيط كلمة "متخلف" أو إحدى مشتقاتها كثيرا، وكأن القوم فطروا وفطموا عليها، فتارة هي بالجمع وتارة هي بالمفرد، في محل أو في غير محل، ويا ليتها تكون على علم.
وعلى غرار العديد من قضايا ومسائل العصر التي برزت، مسألة التطبيع، هل يمكن أن تكون من ضمن هذه القضايا؟ هل يمكن إدراجها ضمن "القابليات"؟ ربما، لم لا؟ فبعدما تم تهيئة أنظمة وحكام الشعوب-المناهضة للكيان-بضرورة "رجوع المياه إلى مجاريها"، بالرغم من الرفض الشعبي إلا أن المهمة ستكملها سياسات هذه الأنظمة تحت الضغط والوقت لتهيئة شعوبها والدفع بها للقبول والرضوخ، وإن طابور التطبيع قد نصب وإنه لطويل طويل.
وعليه فطبيعة الظروف كمعامل خارجي تساهم في تهيئة بيئة القابلية، وكثيرا ما تساهم سلوكيات الأنظمة خاصة إذا كانت فاسدة في تذليل بيئة وبداية الطريق بسياساتها تجاه شعوبها، هذه الأخيرة تستجيب لا شعوريا بتفعيل معامل القابلية من داخلها لاستكمال الطريق، فتتمايز السلوكيات والاستجابات وردود الأفعال، فتتحدد بذلك مضامين وملامح القابليات في أشكال مختلفة، على غرار الاغتراب بأنواعه، وحتى القضايا ذات الطابع المقدس لما تحمله من مكانة في المخيال الجمعي لهذه الشعوب تمسي محل شك وتساؤل، لتدخل بذلك ساحة المزايدات والتنازلات إلى غاية الاقتناع والقبول.