ذكر ابن خلدون في سياق بيانه لأسباب تطرق الكذب إلى الأخبار -ومنه أسباب الأخطاء في التصورات والمواقف الإنسانية عامة- ما سمّاه بـ "توهم الصدق"، ويعني به أن يقين الإنسان لا يكون مبنيا بطريقة تضمن أن يقينه ذاك صحيح فعلا، فبيّن ابن خلدون أن من الأسباب المقتضية لهذا التوهم:
1- الثقة بالناقلين: ما يصل إلى سمع الإنسان فيقبله دون طلب الدليل المنطقي أو الواقعي عليه، فيُعامله معاملة المسلمة البديهية التي لا تحتاج إلى برهان، فيبني الإنسان الكثير من سلوكاته التصورية والفعلية على ما يصل إليه ممن يثق فيه، وهذا يعني أن الثقة في أصحاب الخطاب عند ابن خلدون مدخل للغلط والخطأ، والثقة ميل شعوري يصدر عن العاطفة واستبعاد الشك في شخص الناقل شكا في تثبت الناقل نفسه أو في إمكان تعمده التغليط، فإذا تأسس عليها السماع والتلقي جرفت المستمع إلى الخطأ رغم حرصه على بلوغ الحقيقة والصواب(1).
2- العجز عن النقد: فالواقع البشري منقسم دائما إلى:
أ- دعاوى ومزاعم تحصل فقط بالكلام أو السمعة أو الإشهاد.
ب- وتطبيق تلك الدعاوى والمزاعم والادعاءات في الواقع؛
حيث المنطق يتطلب أن يكون عقل الإنسان وإرادته دائما متيقظين، ويقظتهما هي القيام المستمر بقياس المزاعم إلى تحقيقها الفعلي، فإذا نسب أحد ما إلى نفسه كفاءة ما مثلا فليس بالضرورة أن يكون الزعم صحيحا، وهذا يتطلب التحقق التجريبي-الفعلي من هذا الزعم وفق معيار هل يوجد فارق بين الادعاء المزعوم أو السمعة المنتشرة أو الشهادة الممنوحة وبين تحقق ذلك فعليا في الواقع، كمن يمنح شهادة جامعية مثلا وهو لا يحُوز الكفاءة التكوينية المطلوبة حقا في نوالها، وهل أن ما تدعيه مؤسسة من أهداف وغايات هي فعلا تضطلع به وتنجزه وتنفذه فعليا وبحذافيره.
وما يثبت هذه الإشارة الخلدونية تلك الحقائق العلمية المكتشفة حول اللاوعي الذي يحكم أكثر جوانب الحياة الإنسانية، بداية باكتشاف المنعكس الشرطي عند بافلوف، ومقولة اللاشعور عند فرويد، وكذا نظريتا الرواسب عند باريتو والدوافع الغريزية عند ماكدوغال، على أن العلم في حد ذاته أصبح يسلم بأن مهمته الأساسية هي اكتشاف المخفي عن الوعي الإنساني سواء في سلوكاته أو في العالم المحيط به (2)، وكما تنهي هذه التأكيدات الشعور المركزي للإنسان، وأنه ليس إلا مجرد عنصر من عناصر الطبيعة، وبالتحديد جزء من المملكة الحيوانية، فإنه يثبت أهمية عنصر "الحيرة الوجودية" التي تجعل الإنسان دائما شكاكا في أكثر تصوراته وأفعاله يقينية وأعمقها ثباتا، وهي في النهاية حيرة ذات غاية تقوم على مقارنة الإنسان نفسه وموافقة بحقيقة ومبادئ متجسدة متفق عليها.
والواقع أن مشكلة "توهم الصّدق" هي مشكلة مضاعفة، فقد يأتي توهم الصدق من المعرفة المدّعاة علمية، كما قد يأتي من المعرفة المدّعاة بديهية، ووفقا لأطروحة موسكوفيتشي فإن غزو المعرفة العلمية للجماهير يسبب اختلالات كبيرة في الواقع، منطلقها هو أن التلقي العامي للمعرفة العلمية ينطوي على محذور الفهم المباشر الذي لا يراعي تعقيد الواقع ولا تعقيد المعرفة العلمية لذاتها.
كما أن المعرفة العلمية قد تكون غير صحيحة نظرا لخطأ منتجها أو تقادمها وانفصالها عن الواقع، والأخذ بالمعرفة العلمية غير الصحيحة تفسد البداهة العقلية عند الإنسان، فتفسد تفكير الناس وهم يعتقدون أنهم يهتدون بالمعرفة العلمية، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث
وهو غزو المعرفة العلمية للمعرفة البديهية، أي غزوها لتصورات الجماهير، فهو ينطوي على محذور طمس الفطرة الحدسية للإنسان العامي، وهنا يكون العامي متوهما للصدق معتبرا نفسه يتبع المعرفة العلمية وهو متنكب عن الحقيقة التي هي ثاوية في نفسه، فالعامي قد يكون ببديهته أقرب إلى الصواب والحقيقة، وهي بتعبير آخر ما يتناسب مع الطبيعة الإنسانية من مواقف وقرارات، فتجده يؤثر المعرفة العلمية الفاسدة على البداهة الصحيحة.
إن اتفاق الجماعة العلمية على الوهم في المعرفة العلمية، يجعل كل مشكك فيها منبوذا غير منظور إليه، وإنما التشكيك في المتفق عليه عند جمهور العلماء من طرف عالم منفرد، يعني -غالبا- أنه استخدم حدسه البدهي فتوصل إلى المعرفة الصحيحة، وكذلك تحدث الثورات العلمية، التي ليست إلا منطقا جديدا ينقلب على المنطق السائد، لما فيه من حس البداهة.
وعليه فإن علاج المسألة يقوم على اصطحاب مبدأ الشك في كل قضية علمية أو إنسانية، ومبدأ الشك هنا لا يعني أكثر من محاولة تلمس البداهة، ومقارنة الحاصل من السائد في المعرفتين العلمية والعملية بأبسط أشكال المنطق الإنساني، والتي يمكن الرمز لها بالمنطق الأرسطي الثلاثي أو بالمنطق البيرسي البراغماتي، وأن المنطقين في النهاية لا يمكن أن يتحققا إلا بوضعهما ضمن سياقهما المحيط بهما وفقا لمبدأي التحقيق والترجيح كما صاغه أبو يعرب المرزوقي في مقالة قيم العقل ومبادئه، والله أعلم وأحكم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
اضافات
(1) في المنهج العلمي الحديث تعتبر "الثقة" في كبار العلماء من الإثباتات والأدلة المقبولة في إطار البرهان على أطروحة ما، بل وحتى لا تتطلب الإحالة والتأكيد على المصدر المستقى منه إذا كانت من الأفكار الشائعة والمتفق عليه، وإن كان هذا ليس من المتفق عليه بين علماء المنهج، لكنه في النهاية موجود ومستعمل، إذ هنا نقع في إشكالية الخلط بين ما هو من المعرفة البشرية المكتسبة وبين ما هو من البداهة البشرية المعطاة، حيث المشترك بينهما هو عدم حاجتهما إلى الدليل، أي تسقط أحقية طلب الدليل عليهما، على أن الأمر البديهي هو أولى بعدم طلب الدليل منها من المعرفة المنقولة من عالم أو مفكر كبير ومعترف له بالنباهة والأصالة العلميين، وقد عالج سيرج موسكوفيتشي هذه الإشكالية، إشكالية التداخل بين المعرفة العلمية والبداهة، معتبرا أن المعرفة العلمية المتفق عليها لا تؤتمن في كثير من الأحيان بسبب إما إمكان الاتفاق على الخطأ بالاستناد إلى الثقة، أو بتقادم المعلومة أو الفكرة المنقولة عن المصدر الموثوق فيه، وانتهى إلى حقيقة مهمة جدا مفادها أن كثرة الاستناد إلى المعلومة العلمية التي قد تصل إلى الجمهور غير المتخصص الذي لا يدرك أبعادها فيسعى لاستعمالها بشكل مباشر فيحدث خلل واضطراب كبير على المستوى الواقعي، إما لخطأ الفكرة المنقولة عن العالِم في حد ذاته أو لعدم استيعاب الفكرة بالشكل المطلوب من طرف العامة من الناس.
(2) العلم عموما، خاصة في صيغته التجريبية الحديثة، يقوم على معاملة موضوعاته المبحوثة باعتبارها كائنات صماء وغير مدرِكة، بما فيها دراسة الإنسان، وقد انقسم التفكير العلمي راهنا إلى من يعتبر العقل الإنساني مميزا له عن بقية الموجودات، ومن يعتبر الخصوصيات الإنسانية -بما فيها العقل والدين والأخلاق- بأنها كلها معطيات طبيعية ولا تمس بمنهج اعتبارها معطيات صماء غير واعية، وهذا يتناسب مع دعوى "توهم الصدق" الخلدونية، وعنصر "الحيرة الوجودية" التي تترك الإنسان دائما بين حالة شك ويقين فيما تجبره عليه الحياة من مواقف وقرارات.
(3) يؤكد الدين على حقيقة إمكان توهم الصدق، وذلك في النص الصريح الوارد في الآية 104 من سورة الكهف: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أو حتى الآية 204 من سورة البقرة: ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام، يمكن أن تُحمل أيضا محمل غفلية الذي يشهد الله على ما قلبه، ويمكن إيراد أمثلة على ذلك من المجال الديني الذي يعالج المشكلة بالتلميح أو بالتصريح، كما تفضل أستاذنا أبو يعرب المرزوقي في كتابه شروط النهضة بالتمييز بين الكفر الصادق والإيمان الكاذب، وأن الأول مفضل في الدين على الثاني، لكون الأول نتج عن عدم اهتداء بعد بحث وهو يحمل دلالة الضالين في الفاتحة، أما الثاني فهو اعتناق منفعي للدين يفسد أكثر مما يصلح، وهو يحمل دلالة المغضوب عليهم في الفاتحة.