الحمد لله رب العالمين مزين الكون ببديع صنعه وإتقانه، والصلاة والسلام على خير من جلى جمال الدين بأقواله وأفعاله. وبعد،
فإن هذا الدين جميل جمال منزله وزيادة، ومن صور الروعة في ذوقه الفني تصويرا وإخراجا، أنه أبدع خطابا يجمع بين ثنائيات متقابلة رائعة تبقي على زينة الدين، ومن ذلك نهج القرآن أسلوب الوعد والوعيد.
-
فمن الوعد قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" النور 55.
-
ومن الوعيد الشديد قوله تعالى: "بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" البقرة 81.
-
ومن ذلك: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" الكهف، 29ـ 30.
وغيرها من الآيات التي شملت على وعد الله لعباده المؤمنين ووعيده لغيرهم من الكفار والمنافقين ومن شاكلهم.
كما نجد أن الوحي الرباني يوازن بين الترغيب والترهيب في الخطاب ، قال تعالى: "إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم" الأنعام:165 وقوله سبحانه: "وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب" الرعد:6، وقوله عز وجل: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول" غافر:3.: وقوله جل شأنه "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم" الحجر:49، فهذه الآية فيها ترغيب، ثم يأتي الترهيب في قوله تعالى: "وأن عذابي هو العذاب الأليم" الحجر:50. وقوله سبحانه "إن بطش ربك لشديد" البروج:12، فهذه الآية فيها ترهيب، ثم يأتي الترغيب بعدُ في قوله تعالى: {وهو الغفور الودود} البروج:14.
إن المتأمل لما سبق ذكره من الآيات يلاحظ أن القرآن الكريم جمع بين التبشير والتنذير، قال تعالى "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ" الكهف:56.
تلك بعض الآيات الدالة على تنوع الخطاب القرآني والتي يبرز مدى جماليته، وهي كثيرة وافرة لا يتسع المقام للوقوف عليها جميعا، ويكفي في الدلالة عليها ما سلف ذكره. كما أن الذي يعنينا منها في هذا الموطن ما يساعدنا على كشف جمالية الخطاب القرآني البديع الذي يستجيب وحاجة النفس الإنسانية، فمتى احتاج الإنسان إلى الترغيب رغب، ومتى طغى وتجبر كان الترهيب خير خطاب رادع له.
ثم إن الوعد يكون مدعاة للزيادة في الخير والإقبال عليه في الأغلب الأعم شريطة تحقيق شروطه، والوعيد يجعل النفس تحجم عن كل قبيحة ومنقصة وبهذا تصير الحياة البشرية جميلة وفيها من النظام البديع الذي يحفظ الكون من الاضطراب حفظا.
إن الغرض عندنا من هذا التبيين والبيان السالف الذكر، ليس الوقوف على حقائق الخطاب القرآني من حيث تنوعه الذي يعكس جماله، وإنما الأهم هو كيف يكتشف الإنسان عامة والمسلم منه على وجه أخص هذه المعاني فيحاول التأسي بما حوت من معاني الجمال في كلام الله عز وجل في سلوكه ومنهجه في الحياة.
وعليه، ومن خلال ما سبق، يمكن استخلاص بعض القواعد الناظمة لسلوك الإنسان المسلم حتى تصير حياته مليئة وغنية بالجمال، ولو من حيث ما يصدر عنه هذا الأخير من خطاب في مختلف المناسبات، وإليك بعضا من هذه القواعد الذهبية:
أولا: تمرين النفس على الجمع بين خطاب الوعد والوعيد متى تأكدت الحاجة الى كل منهما سواء في التربية داخل الاسرة، أو باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالمدرسة والمسجد وجمعيات المجتمع المدني، فمن الجمال في الخطاب أن يكون متنوعا جامعا بين ثنائية الوعد والوعيد، فتلك عين الجمالية التي ينبغي أن تسري في أوساط العمل التعليمي والتربوي الأسري وغيره، وليس من الصواب في شيء إشاعة خطاب واحد مغرق في الوعد يجعل الحياة كل وعد حتى أنه قد للنفوس نوع من الاتكال والتقاعس عن العمل الصالح والجاد، بل لا بد من التذكير بالوعيد ولو أحيانا حتى ينطبع هذا الامر في النفس فلا تنساه على الأقل. نفس الأمر يمكن قوله على خطاب التدريس والتعليم والإرشاد والوعظ فليس من الجمالية فيه الإفراط في خطاب الوعيد حتى يبلغ بالنفس درجة اليأس والقنوط من هذا الدين بل يلزم لزوما لا محيد عنه أخذ الناس بشيء من الوعد حتى تفرج الغموم على الناس، وما قصة قاتل تسعة وتسعين نفسا وما وجد في جواب العالم الذي دله على التوبة فهي سبيل محو تلك الخطايا كلها إلا دليل واضح على أن النفس تحتاج إلى خطاب جميل يخرجها من الغم الذي يصيبها. فلو تلقى القاتل خطابا عدميا مغرقا في الوعيد لما كانت فائدة وقد علمنا ما فعله القاتل بالعابد الذي إجابه بألا توبة لها كيف أغلق هذا الخطاب الذي عدم الجمال، أغلق في نفس القاتل جمالية الحياة فكأن أتم به ما سبق من الإثم.
ثانيا: إن الكتابة نوع من الخطاب الموجه من صاحبه إلى عموم القراء لتحصل به الفائدة في الأغلب الأعم، ولما كان الأمر كذلك يحسن بكل ذي قلم جميل يحمل هم الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله الى الناس، أن يحاول جهده الجمع بين التبشير والإنذار في تأليفه وإنتاجاته العلمية تبشيرا يبرز مشاهد الجمال في هذه الرسالة الخاتمة حتى يقبل الناس عليها ويعملوا بمقتضاها، لا يأل جهدا في اعتماد كل وسيلة تبلغه الى هذا القصد، وفي المقابل لا بد له من الإشارات الدالة على الإنذار متى قضت بذلك ضرورة شرعية واضحة، فإنما الرسل مبشرين ومنذرين لا مبشرون أو منذرون فقط، فيكون مقتضى التأسي بهم الجمع بين الأمرين أثناء كل عمل فني يرمي إلى بيان جمالية الدين .
ثالثا: الممارسة الدينية بما هي مقصود منها بيان الدين وإظهاره للناس تعد بذلك نوع خطاب إليهم فهو خطاب بلسان الحال ، وإذا صح ذلك قلنا إنه من صور إضفاء الجمالية على تلك الممارسة أن تصدر أفعالا دالة على الترغيب في هذا الدين والسير على هداه، وذلك بالمسارعة إلى تمثلها تصرفات جميلة تظهر للغير يراها فيسارع إلى الاقتداء بها لما ظهر عليها من الأناقة والجمالية الباهرة التي تشد الناس إليها شدا، وعلى العكس من هذا إذا رأى الناس من المؤمن سلوكيات تنأى عن الجمال فلا محالة من أنهم ينفرون منها كما تنفر النفس من كل رائحة نتنة لا تستطيع تحملها فتهجر ذلك المكان وتلك الطريق لا تفكر في الرجوع إليها ولا النظر إليها. وعليه فالحذر والاحتياط في هذا كله أمر مطلوب لكل إنسان مسلم يروم توقيع الأحكام في الأرض عن رب العالمين وتحقيق الخلافة في الأرض وإعمارها بالخير. فالسلوك البشري بهذا المعنى الذي ذكرناه دين من حيث هو محاولة تطبيق عملي لهدي القرآن الكريم.
وأخيرا، لقد حاولت الوقوف على بعض مظاهر الجمال في الخطاب القرآني ـ أزعم ـ وما يمكن أن يستفاد منها في سياق تجويد سلوك الإنسان المسلم وهو يحاول تصيير حياته جميلة، وليس في المقال ما يدعي الكمال وإنما هو اجتهاد بشري قد يخطئ صاحبه وقد يصيب. وبالله التوفيق.