ما رأيت شيئًا قريبا منّا لهذا الحدّ، كقرب الموت!
ذراعاه ممتدة، كثير "الكلاكيب" يخطفنا من الدنيا أم يريحنا منها هذا هو ما نقف عنده! السؤال الغامض الذي لا نعرف جوابه. تتساقط كل الأشياء ويبقى السؤال معلّقًا ثابتًا، كيف رحلوا وتركوا مقاعدهم خلفهم، ملابس في الأرفف تحمل رائحتهم، جدران حجراتهم عالقة بين ثناياها ذكرياتهم؟ كيف رحلوا وتركوا لنا أبواب الحنين مفتوحة، أصواتهم تطرق الآذان من حين لآخر، وقلب لم يعد فيه سعة من الطاقة ليستوعب رحيلهم؟ غادروا دون سابق إنذار، دون أن نكمل لهم آخر القصة ونعانقهم آخر عناق، رحلوا وتركوا وراءهم كوبا من القهوة لم تبرد حرارته، تركونا للبرد البائس، والليل الموحش، نصيح عليهم لكن ما قيمة هذه الصيحات الخافتة؟!
عيون تذرف الدمع، ووجوه شابت من اللهفة، متوهجة أكثر من وهج الظهيرة، كآبة المنظر، كلما نظرنا في مكان يحمل ذكراهم تُلقي على النّفس ظلالًا محزنة، تحمل أعباء الحياة على اشتداد قسوتها واسوداد صورتها، الذاهب والآيب لا يرحل إلا بقدر، لكن هيهات لقلوب أصابتها الفاجعة فغفلت!
نعم؛ إن المجاهدة في تجاوز وخز الآلام لا ينجح فيه إلا القليلون، يحتاجون لآية من السماء تسقط عليهم فتربط على قلوبهم كما ربط الله على فؤاد أم موسى: "لوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا"، فالفاجعة سكّينٌ حادٌّ تُمزق الفؤاد إربًا إربًا، والصّبر هبة لا يملكها الجميع، والمرء منّا يُجيد فنّ المواساة ما دامت الفاجعة لم تصب عقر قلبه.
لا شكّ بأننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، ونعلم منذ أن خلقنا في هذه الدنيا أنها ليست دار الخلود، وأن الموت هو الحقيقة الثابتة وسط هذا العالم المزيّف منذُ الأزل. "واتّقُوا يَوْمًا ترجعُون فيهِ إلى الله ثم تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبَت وهُم لا يُظلمُون"، لكن فكرة أن تكون بصحبة أحبابك الآن وبعد بضع دقائق قد يأخذهُم الموت منك هي فكرة مرعبة، وكأنك تعيش في فيلم رعب أنت بطله، لكن في الحقيقة نحن لسنا أبطالاً!
نحن نخاف الفقد نهاب شعوره، نحب السماء في غروبها وشروقها، في غيومها وصفائها، تستريح لها قلوبنا وقت هطول المطر، لكن نخاف حين تنفتح أبواب هذه السماء لتأخذ منا فردًا، أو وفدًا من الشهداء الجدد. شعور صعب وصفه حين تقف أمام قبور التي تُخفي عنا أشخاص كانوا ملاذًا لنا يومًا. وما يزيد من الألم أننا نعيش في زمن كثر فيه الهرج واشتعلت فيه الحروب ولا يدري المقتول منا لم قتل وفيما قُتل؟!
أصبح يمر الأستاذ على قبر تلميذه ويقول في نفسه لقد سبق سبقًا بعيدًا، لم يكن الموت يومًا عنصريًا في اختياراته ولا يفرق بين أحدٍ بيننا، لم يصطَفِ أحدًا على أحد، لم يعرف صغيرًا أو كبيرًا، لكن مع كل راحل عزيز علينا يرحل معه جزءٌ منّا، ونبقى نحن مُعلقين ما بين السماء والأرض، كنت أتمنى لو أنّ ملك الموت يسألنا قبل أن يقبض كل روح مُقربة لدينا، أتتحملون غيابهم؟
لو أنه يعطينا إشارة قبل أخذهم إلى هذه الرحلة الأخيرة، لنرتب نحن أنفسنا للوداع والمشهد الأخير، فنجلس معهم وقتًا أطول، وعلى الأكيد كان سوف يكون الحديث الأخير مختلفًا، نتأمل ملامحهم أكثر لحفظها جيدًا، نرسم لهم لوحة، نُهديهم باقة من الورد، نعانقهم عناقًا أشد، نسير تحت المطر، نعيد ذكريات الطفولة، نشاهد مسلسل كرتون، نأخذهم في جولة بين أرجاء المدينة، نتناول العشاء في مكاننا المفضل، نجلس في الليل نتسابق في عدّ النجوم لنتذكر بعد ذلك أنها لا تُعد ولا تحصى.
لكن للأسف يطرق الموت أبوابنا بلا استئذان ولا موعد سابق!
يأخذنا على حين غفلة، ويتركنا لصدمة، فيقف الكلام في الحلق، وباقة الورد تسقط من اليد على القبر، والحديث يخرج على شكل همهمات ودعاء، نعم لقد رحلوا وتركوا داخلنا أسئلة كثيرة، تركونا لبقايا من الماضي، وصور صامتة، وشوق لا يبرد، رحلوا وتركوا فراغاً لا يملؤه غيرهم، أدركنا الحقيقة ببطيء شديد بعد فوات الأوان، لكن رغم رحيلهم ما زالوا هنا مرابطين في قلوبنا، نُجيب على كل من يسأل عليهم رغم اشتياقنا إلى لقائهم وحديثهم.
علمني الفقد كيف تمضي الساعة الواحدة بعد فقدهم دهرًا، واللحظات الجميلة تنقصهم، والجَمعات تفقد حضورهم، والصورة لا تكتمل في غيابهم، عرفت أن للفقد مرارة العلقم بل أشد، مُجبرين على ابتلاعِها حتى نستطيع إكمال الحياة من بعدهم.
أدركت أننا مثل أوراق الخريف مهما حاولت التمسّك بالغصن، مصيرها السقوط، من لم يسقط في هذا الفصل، سوف يسقط في الفصل القادم، هكذا الموت؛ لذلك كلما وجدت الدنيا تشدني لأعماقها، حاولت التعلق بقشة لأنجو من ذلك الغرق. فكلما نقص من حاولي فردًا، كان موته بمثابة منبه لي يوقظني من نوم عميق وغفلة، ليقول لي لربما أنت القادم، وموعد رحلتك قد اقترب، أتراجع بقدمي للخلف، وأوقف السير، كلما رأيت جنازة تسير من أمامي، لأسأل نفسي، هذه الدنيا التي نركل ونهرول لها تستحق كل ذلك من النزاع والبغض تستحق كل ذلك من آهات وحسرات؟!
ولعل ما يهون علينا هذه الرّحلة، أن الحياة ما هي إلا محطة رحيل، الجميع راحل منا من يرحل بأمر الله، ومنا من يرحل زُهدًا، ومنا من يرحل خوفًا، ومن يرحل مُجبرًا، لا أحد فيها باق... ولذلك هانت الدنيا في عيني وهنتُ في عين نفسي، كلما مررت وئيدًا من أمام القبور المتراصة الهادئة في ذلك الوادي الصامت، وعلمت أن يومًا هذا هو مكاني ومرقدي، ومع أنني أحب العتمة لكن تخيفني فكرة عتمة القبر، وأميل للعزلة وانغلاق الأبواب، لكن تصيبني حالة من الارتباك كلما تذكرت أنني سأنعزل يومًا في هذا القبر.