كان للقاضي الفاضل دورٌ بالغُ الأهمية أثناء حصار الصليبيين لعكَّا، وكان متواجداً بمصر آنذاك يدبِّر شؤونها نيابةً عن صلاح الدِّين، وكان من خلال موقعه هذا يرتِّب للسلطان أموره من تجهيز العساكر وتعمير الأسطول وحمل المال ونقل الميرة إلى عكَّا، والسلطان يكاتبه في مهمَّاته، وترجع أجوبته بأحسن عباراته مشيراً وناصحاً ومسلِّياً، وباحثاً عن مصالح الإسلام متقصِّيا،وكانت مكاتباته تتواصل إلى صلاح الدين أثناء حصار الفرنج لعكَّا بصفةٍ مستمرَّةٍ، مليئةٍ بالعبارات الصَّادقة بكلِّ مشاعر الحبِّ والإخلاص للتخفيف عنه من صعوبة هذا الحصار، ومشاركته أحزانه وآماله، فكان يشجِّعه فيها ويحثُّه على الصَّبر، ويقوِّي من عزيمته لمواصلة الجهاد وعدم اليأس، وعدم القنوط من رحمة الله وكرمه، ويدعوه للتمسُّك بالأمل في نصر الله.
وكانت هذه العلاقة مبنيةً على الأخوَّة في الله ووحدة الهدف، وليست قائمةً على تابعٍ ومتبوعٍ، وسيِّدٍ وخادم، فجاء في إحدى هذه الرسائل: "ولا يكره المولى أن تطول مدَّة الابتلاء بهذا العدو، فثوابه يطول وحسناته تزيد، وأثره في الإسلام يبقى، وفتوحاته بمشيئة الله يعظمُ موقعها، والعاقبة للتقوى، ولينصرن الله من ينصره، والله تعالى يشكر لمولانا جهاده بيده وبرأيه وبولدهوبخاصته، وبعامة جنده".
وكان من ضمن الرسائل الأخرى التي كان يرسلها القاضي الفاضل إلى صلاح الدين، تلك التي أوضح فيها اعتذاره عن تأخُّر وصول الأسطول المصري إلى الشَّام بالإمدادات؛ التي طلبها صلاح الدين من مصر، موضحاً: أنَّ ذلك مرجعه اشتداد الرياح المعاكسة، وليس تقصيراً منه(دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، آسيا نقلي، ص 169).
وممَّا لا شك فيه أن هذه الرسالة تعتبر تأكيداً للدور الذي كان يقوم به في مصر هذا القاضي الأجلُّ وغيره من الفقهاء والعلماء لمساعدة صلاح الدين والجند المحارب معه بعكَّا.
 

وجدير بالذكر: أن القاضي كان يحاول بكلِّ الطرق والوسائل الممكنة أن يساعد صلاح الدين والمسلمين أثناء هذا الحصار، فأرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد كتاباً يستحثه فيه بأقوى العبارات وأوقعها على النَّفس والقلب، مهيباً به أن يقف بجانب صلاح الدين والمسلمين في هذا الموقف الصَّعب، نصرةً لدين الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإعلاءً لشأن المسلمين.

وبناءً على ذلك تجاوز القاضي الفاضل بالسُّلطان صلاح الدين تلك المحنة القاسية؛ الَّتي مرَّت بها عكَّا، وكان وحده بمثابة جيشٍ ثانٍ يحارب جنباً إلى جنب مع صلاح الدِّينومما جاء في رسائل القاضي الفاضل لصلاح الدين من النُّصح والإرشاد قوله: .. وهذا دينٌ ما غُلب بكثرةٍ، ولا نُصر بثروةٍ، وإنما اختار الله تعالى له أربابَ نيَّاتٍ، وذوي قلوبٍ معه وحالاتٍ، فليكن المولى نعم الخلفُ لذلك السَّلف:﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾[الأحزاب:21] واشتدي أزمة تنفرجي، والغَمرَات تذهب، ثم لا تجيء، والله تعالى يُسْمِعُ الأُذُن ما يُسرُّ القلب، ويصرف عن الإسلام وأهله غاشية هذا الكرب، ونستغفر الله العظيم، فإنه ما ابتلى إلا بذنب.
وجاء في كتاب آخر له: إنما أتينا من قِبَل أنفسنا، ولو صَدَقناه؛ لعجَّل لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه؛ لما عقابنا بعدوِّنا، ولو فعلنا ما نَقْدِرُ عليه من أمره؛ لفعل لنا مالا نقدر عليه إلا به، فلا يستخصمْ أحدٌ إلا عمله، ولا يَلُم إلا نفسه، ولا يَرْجُ إلا ربَّه، ولا ينتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر، ولا فلانٌ الذي يعتمد عليه: أنه يُقاتل، ولا فلان الذي ينتظر: أنَّه يُشير، فكلُّ هذه مشاغل عن الله ليس النَّصر إلا بها، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنَّصر به واللُّطف منه، والعادة الجميلة له، ونستغفر الله سبحانه من ذنوبنا، فلولا أنَّها تسدُّ طريقَ دُعائنا؛ لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السَّابق  واللاحق(كتاب الروضتين (4/179).
وفي كتاب آخر: وعسكرنا لا يشكو ـ والحمد لله ـ منه خوراً إنما يشكو منه ضجراً، والقوى البشرية لا بدَّ أن يكون لها حدٌّ، والأقدارُ الإلهية لها قصدٌ، وكلُّ ذي قصدٍ خادمٌ قصدها، وواقفٌ عند حَدِّها، وإنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خَاطره مَقْتَ المتقاعس من رجاله، كما يثبت فيه شكر المسارع من أبطاله. قال الله تعالى: ﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ [آل عمران:159] .
وقال في كتاب آخر: .. ولنا ذنوبٌ قد سَدَّت طريق دُعائنا، فنحن أولى بأن نلوم أنفسنا، والله قَدَّر، ولا سلاح لنا في دفعِهِ إلا أن نقول: لا حول ولا قُوَّة إلا بالله، وقد أشرفنا على أهوال {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}، وقد جمع العدوُّ لنا، وقيل لنا: اخشوه، فقلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل، متنجِّزين بذلك موعود الإنقلاب بنعمةٍ من الله وفضل، فما نرجو إلا ذلك الفضل العظيم، وليس لنا إلا الاستعانة بالله، فما دلنا الله في الشدائد إلا على الدُّعاء له، وعلى طرق باب كَرمَه وعلى التضرُّع إليه، ﴿فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِنقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾[الأنعام:43] .

ونعوذ بالله من القسوة، ومن القنوط من الرَّحمة، ومن اليأس من الفرَج، فإنه لا ييأس منه إلا مسلوب الرَّشَد، مطرود عن الله، مقطوعٌ الحظُّ منه، ولا حيلة إلا بترك الحيلة، بل قَصْدُ من تمضي أقداره بلا حيلة، سبحانه وتعالى.

إنْ علم الله من جند مولانا أنَّهم قد بذلوا المجهود؛ فقد عَذَرهم فيعذرهم المولى، وإن علم أنهم قد ذخروا قوةً، أو قصَّروا في نُصْرة كلمة الله؛ فيكفيهم مقتُ اللهوالمملوك يذكِّرُ المولى بصبره وبرحب صدره وبفضل خُلُقه، وبتقواه لربِّه، وبمداراة مِزَاجه، وببرء القلوب الإسلامية ببرء جسمه ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِيَ نَفَقٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمٗا فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأۡتِيَهُم بِ‍َٔايَةٖۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾[الأنعام:35].
وكتب السلطان إلى القاضي الفاضل كتاباً من بلاد الفرنج يخبر عمَّا لاح له من أمارات النَّصر، ويقول: ما أخاف إلا من ذنوبنا أن يأخذنا الله بها. فكتب إليه الفاضل: فأما قول مولانا إنَّنا نخاف أن نؤخذ بذنوبنا؛ فالذُّنوب كانت مثبتةً قبل هذا المقام، وفيه مُحِيَتْ، والآثام كانت مكتوبةً، ثم عُفي عنها بهذه السَّاعات وعُفِّيتَ، فيكفي مستغفراً لِسانُ السَّيف الأحمر في الجهاد، ويكفي قارعاً لأبواب الجنَّة صوت مقارعة الأضداد، وبعين الله موقفك، وفي سبيل الله مقامك ومنصرفك، وطوبى لقدمٍ سَعَتْ في مِنْهاجك، وطوبى لوجهٍ تَلَثَّم عَجَاجك، وطوبى لنفس بين يديك قَتَلَتْ وقُتِلَت، وإنَّ الخواطر بُشكر الله فيك عن شُكرها لك قد شُغِلَت (كتاب الروضتين (4/190).
هذا هو القاضي الفاضل العالم الربَّاني، صاحب البيان البديع والفهم العميق لسنن الله في تحقيق النصر، ولا نستغرب بعد هذه المكاتبات من قول صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي، ولكن بقلم القاضي الفاضل. إنَّ وجود نوعية القاضي الفاضل بجوار القيادات السياسية والعسكرية له أثره المعنوي، فيها يفتح الله أبواب الأمل للقيادات، وتحرص على الثواب فيما عند الله، وتكون سبباً في صبرها وثباتها.