التاريخ هو مجموعة من الأحداث والوقائع التي وقعت منذ مدة من الزمن، فالتاريخ يُدَون كل خمسين عام، ولولا أهميته لما كان هنالك مدونون ومؤرخون ومتابعون، فمن لا يملك تاريخه لا يملك حاضره ولا يتحكم في مستقبله. التاريخ في العالم الإسلامي يلقى ما تلقاه بقية العلوم الطبيعية من إهمال مثل الجغرافيا والفلك والدراسات العسكرية وغيرها، فإذا كانت الجغرافيا هي أم العلوم فإن التاريخ هو والدها، فحتى فيما يتعلق بالعلوم الفيزيائية والكيميائية وغيرها لابد للدارس لها من دراسة تاريخ تطورها.
تلقى هذه العلوم في العالم الإسلامي إهمالا شديدا فنجد أنه من ليس مختصا بأحد هذه المجالات لا يُلقي لها بالا مع أن الواجب فيها هو أن تكون من العلوم الأساسية الملازمة لكل فرد أيا كان مجال عمله أو تخصصه، عزيزي القارئ من وقت لآخر قم بقراءة كتاب تاريخي أو حتى مقالة تاريخية وحتما ستشعر بالفرق فستجد أنه من الأفضل معرفة ما يدور خلف كواليس مسرح الحياة هذه بدلا من الاكتفاء بمتابعة المسرحية.
في تعاملنا مع التاريخ نأخذ فقط الخطوط العريضة ونستخدمها كشعارات وذكريات نحتفل بها ونتذكرها كل عام ولكن لا نحييها، تصبح الوقائع والأحداث مجرد تواريخ وبذلك تضيع أهميتها ويصبح من الممل جدا الالتفات لها، في حين أن هذه الأحداث لو تأملناها فهي تكرر نفسها ولنا أن نستفيد من دراستها في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والجغرافية. المؤسف في الأمر أن كثيرا من الأحداث تأتي ذكراها فيعيش الناس حاضرها ولا يدرون مناسبتها وكأبسط مثال على ذلك، يأتي عيد الأضحى كل عام ونحتفل به ونتهلل، والفاجعة أن تجد من الناس من لا يدري قصة فداء سيدنا إسماعيل ولا يدرك تماما شعائر هذه المناسبة.
كيف للتاريخ أن يكون أزمة الحاضر والمستقبل؟؟!
بداية دعونا نضرب مثالا بشركة معينة اُضطُرت ولظرف ما أن تقوم بتعيين مدير جديد لها، أول ما يقوم بفعله هذا المدير الجديد هو دراسة المنهجية التي كانت تعمل بها الشركة والأساليب المتبعة في تسييرها وكل ما يدخل ضمن دائرة مهامه، ليتمكن من تحديد ما يجب أن يُبقي عليه وما يجب أن يُثني عليه وليعرف أين الأخطاء لمعالجتها وعدم تكرارها.
ذلك تماما هو التاريخ، وبالضبط هذه هي أهميته، فلا بد في كل أمر أن تتم دراسة تاريخه لمعرفة كيف جاء هذا الحاضر وكيف استقر الأمر على هذا الحال مع إمكانية إدارة المستقبل أو حتى التنبؤ به.
إن الناظر للتاريخ ولو نظرة خاطفة سيلاحظ أن التاريخ يكرر نفسه، فمثلا ما يجري الآن على الصعيد السياسي هو ما جرى قبالة الحرب العالمية الثانية إلا أن الحروب تطورت وأصبحت أكثر برودة ودهاء لضمان أقل خسائر لمن يدير هذه الحروب.
إذا أردت أن تدمر جيلا شوه نظرته تجاه التاريخ، فكلما بعدت الأجيال عن التاريخ وعن دراسته وأهميته كلما طُمست هويتهم وتزعزعت انتماءاتهم، ومثال ذلك كمن فقد ذاكرته فيظل يهيم متخبطا على وجهه ترتفع به موجة وتهبط به أخرى، لا يدري من هو ومن أين جاء وأين هو ولا يدري إلى أين يجب أن يذهب، هذا بالضبط ما تعانيه بعض الأجيال الحاضرة وما قد تعانيه الأجيال القادمة لو لم يُتدارك الأمر، يمر تقريبا كل العالم بهذه الحالة من الغيبوبة التاريخية والانغماس في الحاضر، فحتى في العالم الغربي يتم تشويه تاريخه بصورة أو بأخرى وتلقينه للأطفال بصور مغايرة لما حدثت، ويتم إخفاء جزء و إبداء الآخر في المدارس والمعاهد وفق ما تراه جهات معينة وما يخدم مصالحها، وحتى أمريكا قد دخلت في هذه الغيبوبة منذ زمن بعيد ولم تفق منها بعد، فهي ومثيلاتها في العالم الغربي في طريقهم إلى الموت ويمكن أن نرى ذلك في كلمات كُتَّابهم وفي تاريخهم وحاضرهم فهذا من صنيع أقلامهم وليس افتراءً عليهم، إنما ما يعنينا ويهمنا نحن هو الأمة الإسلامية ونهضتها وضرورة استفاقتها من هذه الغيبوبة.
ما يُهم من دراسة التاريخ للحكومات والمنظمات هو معرفة كيف يسير هذا العالم وكيف يمكن أن يسايروه وفقا لما يُعلي شأنهم، وهذا الأمر يستوي في أهميته كذلك بالنسبة للعامة من الناس في أمور حياتهم وأعمالهم، فهو أولى لهم معرفة إلى أي جهة ينحازون وإلى أي أمة ينتمون، فنحن في زمن كل ما يظهر فيه مغاير تماما لما يبطن، فالأفضل تحري الأمور من ماضيها وبالتالي معرفة حاضرها وتوقع ما قد تقدمه وما قد تأخذه مستقبلا.
وبما أنه في هذه الفترة من الزمان دول العالم الغربي هي المسيطرة على باقي دول العالم وتتدخل في جميع شؤونه وبالنسبة للعالم الإسلامي خاصة بعد أن انطفأت هيبته وغفت عزيمته مما سمح بالتخلخل إلى داخل صفوفه من قبل هذه الدول، سنقوم في هذه السلسلة بالتعرض لشيء من تاريخ دول العالم الأول بصورة مُبسطة ويسيرة، وكيف وصلت إلى ما هي عليه الآن ومن هو القابع خلف ظلالها وكيف تُدار الحياة فيها لينعكس واقع تاريخها على واقع حاضرنا، حيث أنه بعد أن كانت دُولاً تحت الاستعمار والاضطهاد أصبحت دُولاً مُستعمِرة ومُضطَهِدة.
لذلك يجب علينا نحن كأفراد على الأقل مُحاولة دراسة التاريخ وأن نسعى لتكوين ذخيرة تاريخية مُميزة صافية لتؤدي إلى إتخاذ قرارات سليمة مبنية على وقائع وأحداث تجول في فكرنا دائما وتمنعنا عن الانقياد والمعية ومعرفة مع من نتصالح ولماذا ومن هو عدونا وفيما يتمثل، وعند الدراسة لابد أن نتأكد من أن نكون بالوعي الكافي الذي يجعلنا نُميز بين ما هو خُرافة وبين ما يجب علينا تصديقه وبين ما يجب علينا التخلي عنه واعتباره مُجرد معلومات عابرة، وأن لا ندعها تؤثر في عقيدتنا وإيماننا بقضيتنا.
يجب علينا أن ندرس التاريخ لأن التاريخ فعلا يكرر نفسه، وذلك لأن هدف الصراع هو نفسه منذ أزمنة سحيقة (جاي كار)، تقول مي زيادة: "لا يقوم الحاضر إلا على قاعدة الماضي، فليذكر هذا أولئك الذين يقولون بالهدم "المطلق". فكما كان التاريخ أزمة للحاضر والمستقبل، يمكن أن يكون منقذا للحاضر وخلاص المستقبل، فتحليل الحاضر وما يحدث فيه لن يكون ذا جدوى دون الرجوع للماضي والتاريخ وربطه بأحداث ووقائع، فما يحدث الآن لابد أن يكون نتيجة لها، ولبناء مستقبل متين لابد من البناء على أسس معروفة والإمساك بزمامها ليكون من أثبت البنيان.