شهد العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين موجتين جديدتين من الموجات المتكررة على مر الزمان لنقد علم الاقتصاد. وقد تجسدت الموجة الأولى في حركات احتجاجية شارك فيها طلاب وأساتذة الاقتصاد في جامعات عدد من الدول الغربية، تعبيرا عن عدم الرضا عن حالة علم الاقتصاد على العموم، وعلى طرق تدريسه على الخصوص.
بينما جاءت الموجة الثانية كردة فعل للصدمة الفكرية التي أحدثتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي وقعت في 2008 والتي لم يبرأ العالم بعد من آثارها السلبية.
الموجة الأولى لنقد علم الإقتصاد
بدأت الموجة الأولى لنقد علم الاقتصاد في يونيو 2000 في فرنسا عندما أصدر عدد من طلاب الاقتصاد في جامعة باريس (1) نداء لإصلاح مقررات الاقتصاد؛ فقد وجدوا بأن هناك فجوة كبيرة بين محتوى هذه المقررات الأقرب إلى عالم الخيال، وبين الوقائع الاقتصادية في العالم الحقيقي، وطالب أصحاب النداء (الطلاب) بإخراج هذه المقررات من الدائرة الضيقة التي انحصرت فيها، وهي دائرة الاقتصاد النيوكلاسيكي التي تشكل ما يعرف بالفكر الاقتصادي السائد أو الغالب، إلى الفضاء الرحب الحافل بالكثير من المقاربات غير التقليدية، لفهم الوقائع الاقتصادية، والتي لا يجدون لها صدى في المقررات الجاري تدريسها.
وسرعان ما تجاوب طلاب الاقتصاد في سائر الجامعات الفرنسية مع هذا النداء، كما تجاوب عدد متزايد من الاقتصاديين الفرنسيين مع حركة الطلاب، واصدروا بيانا خاصا بهم، ولم يمض وقت طويل حتى استجابت الحكومة الفرنسية لنداء الطلاب والأساتذة والممارسين، وذلك بتشكيل لجنة رفيعة المستوى لبحث شكواهم والنظر في مطالبهم.
وفي يونيو 2001، أي بعد عام واحد من بدء حركة الطلاب في فرنسا، أصدرت 27 طالبة من طلبة الدكتوراه في الاقتصاد بجامعة كمبردج بإنجلترا بيانا يطالبون فيه بإنهاء انغلاق علم الاقتصاد على المقاربة النيو كلاسيكية، وبضرورة انفتاحه على المقاربات الأخرى الجاري تجاهلها.
وفي أغسطس 2001 وجه جمع من طلاب الاقتصاد الذين يدرسون بالولايات المتحدة الأمريكية، والذين ينتمون إلى 17 دولة، خطابات مفتوحة إلى أقسام الاقتصاد في مختلف دول العالم، يطالبون فيها بإصلاح تعليم الاقتصاد وبحوثه عن طريق تبني "مقاربة ذات نطاق عريض". ففي رأيهم أن هذه المقاربة يجب أن تحل محل المفهوم الضيق للإنسان الاقتصادي، الذي يتصرف بمثالية تحقيقا لرشادة مفهوم أوسع وأقرب إلى السلوك الاقتصادي الواقعي، الذي يتأثر بالغرائز والعادات والقيم والجنس والعرق وغير ذلك من العوامل الاجتماعية والنفسية.
كما تضمن الخطاب نداء بضرورة مراعاة البيئة الثقافية التي يعمل فيها الاقتصاد، وما تزخر به من قيم وأعراف ومؤسسات من أجل التوصل إلى فهم أفضل للظواهر الاقتصادية.
كما شدد الخطاب على ضرورة الاهتمام بالتاريخ الذي يبرز ما تتعرض له الحياة الاقتصادية من تغيرات عبر الزمن، وعلى وجوب توجيه عناية أكبر لدور القيم والأخلاق والعوامل الذاتية في الدراسات الاقتصادية، وذلك بدلا من إسدال الستار عليها بدعوى حصر الاهتمام فيما هو موضوعي.
ودعا الخطاب إلى تنويع مناهج البحث الاقتصادي وأدواته بحيث تشمل البحوث التشاركية، ودراسات الحالة، وتحليل الخطاب وما إلى ذلك، جنبا إلى جنب مع تحليل البيانات بأدوات الاقتصاد الرياضي والاقتصاد القياسي، شريطة تجنب الإسراف في استعمال هذه الأدوات. كما تضمن الخطاب دعوة إلى حوار تفاعلي بين علم الاقتصاد والعلوم الأخرى، بما ينهي عزلة الاقتصاديين عما يجري في هذه العلوم ويمكن أن يكون له أثر حميد في طريقة تفكيرهم ومناهج بحوثهم.
وفي مارس 2003 أصدر طلاب الاقتصاد بجامعة هارفارد نداء إلى قسم الاقتصاد، بضرورة إصلاح مقرر مبادئ الاقتصاد على نحو يتاح معه تغطية أوسع وأكثر توازنا للمقاربات المختلفة، لقراءة الواقع الاقتصادي، وتفسير الظواهر الاقتصادية.
وتوالت حملات طلاب الاقتصاد والاقتصاديين في بقاع مختلفة من العالم، من أجل إصلاح تدريس الاقتصاد، ومناهج البحث الاقتصادي. وهو ما أسفر عن بلورة الدعوة إلى بناء "علم اقتصاد ما بعد الشفاء من مرض التوحد". كما طالبت هذه الحملات بأن يجمع علم الاقتصاد بین "سلامة العقل والإنسانية والعلم"
الموجة الثانية لنقد علم الإقتصاد
وكانت تلك الحملات نقطة الإنطلاق لتكوين "شبكة علم اقتصاد ما بعد الشفاء من مرض التوحد PAE " التي دعت إلى فتح علم الاقتصاد أمام البحث العلمي الحر، وجعله أكثر اتصالا بالعالم الحقيقي. ومنذ مارس 2008 أصبح لشبكة PAE مجلة علمية كانت تحمل اسم The Post
- Autistic Economic Review، ولكن تعدل هذا الاسم فيما بعد إلى The Real - World Economics Review، وذلك استجابة للاعتراضات التي أثيرت على الاسم الأول، لما له من ارتباط بوصف قديم للاقتصاد الاشتراكي في كتابات لودفيج مايزيس - أحد رواد المدرسة النمساوية في الاقتصاد، ولما له من ارتباط أيضا بمرض التوحد، حيث اعتبر أن استخدامه ينطوي على إساءة أو إهانة للمصابين بهذا المرض، وقد قاد عملية إنشاء هذه الشبكة برنارد جوربان من جامعة باريس، وشاركت فيها مجموعات ذات توجهات مختلفة كأنصار الاقتصاد التجريبي، والاقتصاد السلوكي، والاقتصاد العصبي، والاقتصاد الأخلاقي، واقتصاد السعادة، والاقتصاد النسوي، والاقتصاد الأخضر، والفيزياء الاقتصادية، وغيرهم ممن يطلق عليهم الاقتصاديون الخوارج.
وقد استخدم لفظ الخوارج للدلالة على معارضة ما هو سائد، وذلك على سبيل الاستعارة من التراث الإسلامي، حيث الخوارج – بحسب الرأي الراجح - هم تلك الطائفة التي خرجت على - أي عارضت - علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم في معركة صفين.
الاقتصاديون الخوارج هم الاقتصاديون الذين ينتمون إلى ما صار يعرف في الأدبيات الغربية بعلم الاقتصاد غير التقليدي، أو علم اقتصاد الخوارج، وينتمي هؤلاء إلى جماعات متعددة، منها ما هو قديم كأصحاب المقاربة التاريخية، والمقاربة المؤسسية اللتين ظهرتا في منتصف القرن التاسع عشر. ومنها ما هو حديث نسبيا، كأصحاب المقاربة التجريبية التي تعود إلى خمسينيات القرن العشرين، وأصحاب المقاربة ما بعد الكينزية التي ظهرت في سبعينيات ذلك القرن، ومنها ما هو أحدث من ذلك كالمقاربة النسوية، وتتفق هذه الجماعات في الاعتراض على مجمل المقاربات التقليدية أو النيو كلاسيكية (وأحيانا على المقاربة الكلاسيكية كما هو الحال مع أنصار المقاربة التاريخية)، أو على بعض افتراضاتها أو نظرياتها، أو منهجية التحليل المميزة لها.
ولكن ثمة اختلافات بين هذه الجماعات في المنطلقات وفي نقاط التركيز، وفي رسم حدود علم الاقتصاد وفي اختيار المنهجية المناسبة للبحث الاقتصادي، وفيما يطرح من بدائل لبعض عناصر الفكر التقليدي السائد، ومن أبرز النقاط التي تركز عليها المدارس والجماعات المختلفة لاقتصاد الخوارج ما يلي:
- إدماج المؤسسات في التحليل الاقتصادي كفاعل أساسي في الحياة الاقتصادية.
- مراعاة البعد التاريخي للظواهر الاقتصادية، وفهم محركات التطور الاقتصادي، والعناية بالدراسات المقارنة
- اعتبار التغيير واللاتوازن من السمات الرئيسية للنظام الاقتصادي، ومن ثم العناية بتحليل ديناميكيات النظم الاقتصادية.
- مراعاة السياق الاجتماعي والسياق الثقافي الذي يتخذ فيه الأفراد والمنظمات والحكومات قراراتهم الاقتصادية.
- فهم مصادر علاقات القوة غير المتكافئة في الاقتصاد، وعوامل تجددها؛ وهو ما يقتضي في نظر بعض (الخوارج) اهتمام بالتحليل الاقتصادي، بالطبقات الاجتماعية وبما ينشأ بينها من علاقات قد تؤدي في مرحلة ما إلى تحول جوهري في طبيعة النظام الاقتصادي.
- الجمع بين مقاربات ومنهجيات متعددة كإدماج الاقتصاديات الإيكولوجية والاجتماعية والتضامنية مع الاقتصاد السياسي، والسعي للتكامل بين المنهجيات التاريخية والتطورية والمؤسسية والنفسية والإفادة من نتائج مختلف الحقول المعرفية.
- توسيع نطاق علم الاقتصاد بحيث لا يتوقف عند مسألة تخصيص الموارد النادرة على الاستخدامات البديلة المتعددة، ليشمل قضايا الإنتاج والنمو والتوزيع والاستهلاك والتبادل، وكذلك قضية الاستدامة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والمؤسسية وبصفة عامة، فإن غالبية الاقتصاديين الخوارج لا يرفضون النظام الرأسمالي من حيث المبدأ، وإنما يميلون إلى تبني صيغة أخرى من صيغ الرأسمالية مثل "دولة الرعاية الاجتماعية" الشائع الإشارة إليها بدولة الرفاه، أو "اقتصاد السوق الاجتماعي". وهذا ما يميز هذا الفريق من الخوارج عن الاقتصاديين اليساريين أو الماركسيين الذين يرفضون النظام الرأسمالي ويدعون إلى إقامة نظام اشتراكي. غير أن بعض التصانيف يدرج الأخيرين ضمن الخوارج انطلاقا من مفهوم أوسع لاقتصاد الخوارج، وذلك تماشيا مع معيار الافتقار إلى مشروعية الاندراج في الفكر الاقتصادي التقليدي من جانب أنصار هذا الفكر.
ومع ذلك فإن الحكم بعدم مشروعية الانضمام إلى الفكر التقليدي ليس حكمة أبدية، إذ أن بعض ما يطرحه الخوارج من أفكار، قد يجد طريقه للاستيعاب في الفكر الاقتصادي السائد بعد مدة قد تقصر أو تطول، وفي الواقع أن الاحتجاجات من جانب الطلاب والحركات الإصلاحية من جانب بعض أساتذة الاقتصاد لم تتوقف عند القليل الذي عرضناه منها، فما كثر هذه الاحتجاجات التي تواصلت واستمدت زخما جديدة عندما وقعت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008.
الكويت والتوحد الاقتصادي
وبناء على ما سبق، يتضح أن هناك في الكويت تیار اقتصادي يعاني من التوحد مدعوم من السلطة بشكل لا يخفى على أحد، يسوق لأدوات محدودة في معالجة الأزمات الاقتصادية "كالدين العام، وفرض الضرائب، والتخلي عن التوظيف في القطاع العام، وهكذا" ويقومون بتصوير تلك الأدوات كأنها طوق نجاة لأي أزمة اقتصادية، وذلك نتيجة النظرة الضيقة للأمور، التي تنحصر في اتجاه واحد فقط بالنسبة لهم دون القدرة على ربط المتغيرات ببعضها البعض والتوسع في التحليل وتنوع الحلول.
فمثلا يسوق تيار التوحد الاقتصادي في الفترة الراهنة إلى اللجوء للدين العام لإنقاذ الدولة من أزمتها الاقتصادية الكاذبة، وفي المقابل لم يضعوا في الاعتبار قدرات الدولة المحدودة في مجال إدارة الدين العام، والتي تفتقد الكفاءة المالية والكفاءة المؤسسية والمساءلة والحوكمة، مما سيؤدي إلى دخول الدولة لما يعرف بالحلقة المفرغة للدين العام، المسبب الرئيسي للكوارث المالية لأي دولة، ولم يطرحوا أي حلول غير تقليدية لمعالجة المشكلات (الكاذبة) كتأسيس صندوق استثماري داعم للموازنة العامة، وغير ذلك من حلول.
فلذلك أدعو كل اقتصادي يعاني من التوحد (الاقتصادي) أن يقوم بمراجعة نفسه ومنهجه وأسلوبه في التعاطي الاقتصادي، أو يعيد تأهيل نفسه، لأن تلك التوجهات والآراء ما هي إلا تخاريف ضارة، وللأسف لها من يسمعها ويتبناها من مسؤولي الدولة الذين هم في تصوري الشخصي في جهل عميق، حفظ الله الكويت وشعبها من شرهم وجهلهم.