نناقش في هذا الحوار صحبة الدكتور خالد حنفي عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية بألمانيا والأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعض المسائل التي تتعلق بشهر رمضان واِرتباطه بالمسلمين في بلاد الغرب وسنحاول أن نسلط الضوء على بعض المشاكل التي يُعايشها المسلمون في دول الغرب والتي لا يتعرضون لها في الدول الإسلامية والعربية. وسنتناولُ بعض المسائل من زاوية نظر مختلفة لنتحدّث قليلا على الوضع الوبائي الحالي ومدى تأثيره على المسلمين في الغرب وخاصة أوروبا.
- شهر رمضان المعظّم هو فرصة لتجديد الإيمان ومراجعة العلاقة مع الله عز وجل ونعيشه للسنة الثانية على التوالي في ظروف استثنائية، فكيف عمّق الوباء العالمي شعور"الغربة" لدى مسلمي الغرب وبالتحديد أوروبا؟
يترقب المسلمون في أوروبا شهر رمضان بشغف وحب أكثر من غيرهم من مسلمي العالم؛ والسبب أنه يمثل محطة إيمانية واجتماعية فريدة في العام؛ بروحانياته من صلاة وصيام ودعاء وصدقة يخرجون بها من طوفان الحياة المادية القاحلة إلى جمال وسكينة الربانية الحانية، كما يشكِّل شهر رمضان فرصة كبرى للاجتماع والتلاقي على مستوى الأسر والعائلات أو التجمعات المسجدية في الإفطارات الرمضانية اليومية، وكذا الإفطارات الجامعة لغير المسلمين والسياسيين في كثير من المدن، ومما يضفي فرحة خاصة بهذه الإفطارات أنها تقع والناس في أعلى درجات الصفاء النفسي والسمو الروحي فتتعانق القلوب والأرواح قبل الأيادي والأجساد.
جاءت جائحة كورونا وتعطلت المساجد كلياً أو جزئياً فانقطعت العلاقات الاجتماعية وحُرم الناس من هذه المظاهر، فكان الأثر السلبي على مسلمي أوروبا أكبر من غيرهم، ونحن نتضرع إلى الله أن يعجل برفع الوباء لتعود الحياة إلى المساجد والقلوب، فعسى أن يكون قريباً.
- يتعامل أغلب المسلمين مع الصيام وكأنه عادة توارثوها من مجتمعاتهم المسلمة فتغيب عنهم كثير من المعاني والمقاصد، فهل هنالك خلل في هذه المسألة وما هي المقاصد التي يعيّن على المسلمين تحقيقها بصيام شهر رمضان؟
في تقديري أن أكثر ركن من أركان الإسلام يحرص المسلمون من مختلف أنحاء العالم في الحفاظ عليه هو الصيام، لذلك يصوم من لا يصلي ولا يزكي، وتصوم غير المتحجبة، ويصوم الصغار قبل سن التكليف بكثير فرحاً وتسابقاً لا إكراها وتعنتا، ويصوم كثير من المرضى حرصا على بركة الصيام وطاعة الرحمن، وهو أمر عظيم حسن لو اتصل بمعرفة مقاصد الصيام ومعانيه، والله تعالى ذكر التعليل في آيات الصيام ثلاث مرات فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] في إشارة واضحة إلى أهمية وضرورة التفكر في مقاصد ومعاني الصيام المفقودة في صيام المسلمين اليوم، وقد أوصلتُ هذه المقاصد والحكم للصيام إلى عشرين مقصداً نشرت بعضها ولعلي أخرجها كاملة في كتاب قريبا بحول الله.
فلا تعارض بين التعبد والامتثال لأمر الله بالصيام وبين البحث عن الحكم والمقاصد، وفي مقدمة تلك المقاصد تنمية ملكة المراقبة لله عز وجل واستشعار المسلم أن الله يراه ويراقبه في كل الأوقات والشؤون والأعمال كما يراقبه في وقت الصيام والإمساك وبلع ريقه أو قطرة الماء، يراقبه كذلك في إتقان وتحسين عمله ورد الحقوق إلى أصحابها وإتقاء المظالم بأنواعها.
- يعيش مسلمو أوروبا خلافات واختلافات كثيرة للأسف، على عكس مسلمي البلدان العربية، نضرب مثالا اختلاف أوقات الإمساك والإفطار وحتى خلافات المشارب الفقهية والمذاهب الأربعة، فكيف يكون رمضان فرصة لتوحيد الأمة ونبذ هذه الاختلافات وفرصة لتجاوزها؟
من أهم مقاصد الصيام الاجتماع والوحدة على مستوى البلدان والأقطار وعلى مستوى العالم؛ فالأصل أن يبدأ المسلمون صومهم وعيدهم في يوم واحد، وأن يمسكوا عن الطعام والشراب ويفطروا في المدينة الواحدة في لحظة واحدة فيحصل الاجتماع المعنوي والحسي ويتجلى في أبهى صوره في اجتماع يوم العيد.
وأحوج الناس إلى هذا الاجتماع هم المسلمون في الغرب؛ لأنه وجود هش ضعيف والتفرق والاختلاف يزيدهم ضعفا على ضعف، والواقع أن الاختلاف حول وقت الإمساك وتحديد بداية الصيام ويوم العيد في الغرب هو إشكال في العالم الإسلامي أيضا لكنه لا يظهر ولا يشعر به أحد؛ لوجود السلطة الملزمة للناس في الشأن الديني وهذه السلطة الملزمة ليست موجودة في أوروبا، فالدولة لا تتدخل في عبادة المسلمين وتترك لهم حرية تنظيمها وهذا أمر محمود ونعمة من الله.
لكن للأسف صدَّر بعض المسلمين مشكلات بلادهم إلى أوروبا ولم يقع الاستيعاب الدقيق لهذه القضايا بأبعادها الفقهية والواقعية والمآلية، كما وُظف التمذهب الفقهي أو العصبية المذهبية أو العرقية توظيفا أضرَّ بأمر اجتماع كلمة المسلمين.
ورغم كل هذه التحديات فقد خطا المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث خطوات متقدمة جدا في جمع الكلمة ونأمل أن تنحصر دائرة الاختلاف والافتراق بمزيد من التثقيف والوعي للمسلمين في الغرب وهم أهل لذلك إن شاء الله.
- يستطيع المسلم أن يدعو إلى الله عز و جل ويقدم صورة جيدة عن الإسلام بطرق متنوعة فكيف يجسد المسلم في هذه القيمة في المجتمعات الغربية من خلال صيام شهر رمضان، وهل بالإمكان أن تمدنا بمثال عن ذلك؟
يعتبر الصيام مدخلا مهما للتعريف بالإسلام والحديث عنه في السياق الغربي؛ لأنه صار معروفا للأوروبيين وصار حديث وسائل الإعلام الغربية، وكثير من السياسيين ورؤساء الحكومات الأوروبية يهنئون المسلمين بشهر رمضان، لكن عموم الأوروبيين يستغربون الصيام ويسألون عنه ويستثقلون الامتناع عن شرب الماء لهذه الساعات الطويلة وبعضهم يعتبره ضرباً من التعذيب لا يأمر به الإله الرحيم.
ويمكننا اغتنام شهر رمضان في التعريف بالإسلام بأمرين: الأول: رفع منسوب الوعي الفكري والعلمي للصيام ومقاصده عند المسلمين حتى يكون لديهم مادة ثرية منطقية عقلية تناسب الشخصية الأوروبية إذا ما فُتح حديث عن الصيام. الثاني: ترجمة مقاصد الصيام بصورة عملية على مستوى الأفراد أو صورة مشروعات يتبناها مسلمو أوروبا انطلاقاً من مقاصد الصيام.
وأذكرُ مثالاً عملياً حدثني به شاب يعمل مهندسا في شركة ألمانية كبيرة، لاحظتْ رئيسته في العمل أن معدل إنتاجه يرتفع في شهر واحد على مدار العام لسنتين متتابعتين، ولما سألَته، وفكّر طويلا وانتبه إلى أن هذا الشهر في السنتين هو شهر رمضان وشرح لها عبادة الصيام. فردَّت زيادة معدل الإنتاج إلى عدم الأكل والشرب والذهاب للخلاء وإنفاق الوقت في العمل، فقال له: لا، السبب أني أعيش بمعنى أن الله يراني وأنا صائم ويراني وأنا أعمل فأخاف على صيامي فأجوِّد عملي وأحاسب نفسي على الدقيقة وأخاف أن أكسب مالا من حرام بسبب التقصير في العمل.
وهذا يلفت النظر إلى القيمة الحضارية للصيام على العمل والإنتاج يفتقر إليها العالم اليوم. ومما يؤسف له أن يكون شهر رمضان عند كثير من المسلمين في العالم الإسلامي هو شهر النوم والكسل وقلة العمل والإنتاج على عكس النموذج الذي جسَّده هذا الشاب.
- يعيش العالم كله تحت وطأة وباء كورونا الذي استطاع أن يغير كثيرا وأحيانا بعمق في كثير من الجوانب الحياتية للأفراد والمجتمعات ولم يستثنِ، أحدا فهل أثر الوضع الوبائي على النسيج الإسلامي بالغرب وما هي انعكاسات ذلك و هل هنالك أيضا أمور إيجابية حصلت نتيجة هذه التغييرات؟
المسلمون في الغرب هم جزء من المسلمين في العالم وبالطبع فهم يتأثرون بما يتأثر به غيرهم، وقد تضررت المؤسسات والمراكز الإسلامية في الغرب كثيراً بسبب هذا الوباء على المستوى الاقتصادي والرسالي وتغيرت خريطة المترددين على المساجد بعد انتهاء الإغلاق. لكن كما قال الله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] ، أتت الجائحة بكثير من الأمور الإيجابية منها: القبول الفعلي بأمر تلقي الدرس الديني عن بعد والانفتاح على علماء ودعاة من بلدان أوروبية مختلفة بل من خارج أوروبا واستفادة بعض المسلمين من خارج أوروبا مما يطرح في النشاطات الأوروبية، ومنها اجتماع الأسرة
في رمضان على صلاة التروايح واستفادة الأولاد تربويا من هذه الفرصة، وبالتالي حمل المسلمين همَّ مراكزهم ومساجدهم واستنقاذها من أزمتها المالية.
- كثير من المراكز الاسلامية والمساجد -التي تعتبر حاضنة للمسلمين و لأبنائهم حيث يتعلم الناشئة ببلاد الغرب اللغة العربية وحفظ القرآن وعقيدتهم أيضا- تعاني على غرار الكثير من المؤسسات من تبعات كورونا وقلة الرواد وأعداد المصلين خاصة على المستوى المالي، فكيف نحافظ على هذه المكتسبات التي تقدمها هذه المراكز في ظل هذا الوضع الصعب؟
هذا صحيح، فهناك مساجد توقفت كليا وهناك مساجد سرحت موظفيها لعجزها عن تسديد رواتبهم، وهناك تراجع وتغيير في أعداد المصلين خوفا من العدوى أو لعدم استيعاب المساجد بسبب التباعد أو لتفضيل صلاة التراويح في البيوت بعد تجربة العام الماضي. وأقترحُ للحفاظ على هذه المكتسبات:
- تطوير برامج المساجد والمراكز في الغرب بما يلبي الاحتياجات ويواكب التحديات.
- خلق روافد مالية جديدة لتمويل المؤسسات وسد حاجتها مثل إحياء الأوقاف ودعم وجودها.
- اجتهاد فقهي عصري يفتح آفاقا جديدة تدعم استمرار المراكز وتطور رسالتها بدلا من تكبيلها وتقييدها.
- اِنطلاقا من قول الله تعالى "واِستعمركم فيها " يعدّ شهر رمضان المعظم إنطلاقة روحانية متجددة للفرد المسلم، فكيف ننقل هذا العُمران الروحاني إلى العُمران الحضاريّ الملموس في واقعنا ونمدّد فضائله لسلوكنا اليومي؟
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن وموضوعها الرئيس هو الاستخلاف وتعمير الأرض، ويلفت النظر أنها السورة الوحيدة التي شملت أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة، كما تناولت منظومة الأحكام والتكليفات الشرعية كلها كمنظومة الأسرة والأحوال الشخصية، ومنظومة الاقتصاد والإنفاق، ومنظومة القتال والدفاع.
في عمق هذه التكاليف جاء الحديث المفصل عن الصيام وكان بدؤه وختامه بالحديث عن التقوى كما شاع في السورة كلها رغم طولها، إلى حد أن قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: كأنَّ اسمها سورة التقوى أو الأتقياء، وهذا كله يعني أن تحقيق مهمة الاستخلاف وتعمير الأرض إنما يتم بالتقوى وأفضل سبيل للتحلي بالتقوي هو الصيام، والسبب هو السرية فيه.
قال تعالى في الحديث القدسي:" كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، فإدراك القيم الكامنة وراء التكليف بالصيام هو الذي يجعلنا نرى أثره واقعا ملموسا في حياتنا؛ كقيمة تحرير الإنسان من عاداته وشهواته التي وقف عليه المفكر الألماني الدكتور مراد هوفمان رحمه بعد أن صام فقال: "وبالنسبة لي لعل أهم أثر جانبي لصوم رمضان أن اختبر ما إذا كنت ما أزال سيد نفسي أم أننى صرت عبداً لعادات تافهة، وما إذا كنت ما أزال قادراً على التحكم في نفسي أم لا؟ وأتمنى أن يكون فرحاً وليس غروراً ذلك الذي أشعر به بعد انتهاء آخر أيام رمضان أي عند صلاة المغرب، من أننى استطعت بعون الله أن أصومه". خذ مثلا معرفة قيمة الزمن وأن يحاسب المرء نفسه على الدقيقة من حياته، كما يعلم أنها يمكن أن تذهب بتعب يومه الذي صامه إنْ أفطر قبل الغروب أو أمسك بعد الفجر ولو بدقيقة.
- في الأخير هل هناك رسالة أو نصيحة شيخنا الفاضل تريد التوجه بها إلي المسلمين عامة ومسلمي أوروبا خاصة؟ ونحن في هذا الشهر الفضيل المعظم وشكرا لكم على هذا الحوار ونفع الله بكم وبعلمكم.
نصيحتي لنفسي وللمسلمين في كل مكان أن يراقبوا إصلاح قلوبهم في رمضان، وأن يتحسسوا أثر العبادة في ترقيق القلب ومحو الران من عليه، بعد أن تراكم عليه الصدأ لكثرة النكات السوداء المتراكة على مدار العام في عالم المادة والأهواء، وأن لا يقتصر عملنا في رمضان على تكثير الختمات وتسديد الركعات والقلوب خربة قاسية الحجارة ألين منها، فالفائز الحقيقي في رمضان من تغير قلبه تجاوبا مع آيات الله، فالقلب هو النافع الوحيد يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، والله تعالى نسال أن يغير حالنا إلى أحسن حال وأن يعجل برفع البلاء والوباء عن البشرية جمعاء.