يأخذ كثير من المتملصين من الدين على أهل التدين أنهم منقوصو الحرية لانقيادهم الى تعاليم الدين بشكل موغل في الانضباط، مما يفقدهم الشعور بالحرية ويضع أمامهم الحواجز الكثيرة للإنجاز والابداع، وفي رمضان يرى كثير من العلمانيين والملاحدة أن الصيام ليس أكثر من انقياد لتعاليم مجحفة تجبر المسلم على التضحية بحريته في التعاطي مع غرائزه الطبيعية كإنسان له الحق في التعامل معها بكل حرية.
لكن فلسفة الاسلام لا تنظر للموضوع من هذه الزاوية على الاطلاق، وإذا أردنا أن نفكك هذه الشبهة بشيء من التحليل العقلاني سنجد كيف يرتقي الاسلام بالمنتسبين اليه بشكل أكثر تحررا مما يعتقد بعض الذين تناولوا القضية بشكل سطحي.
سنتناول في موضوع اليوم بعض المفاهيم المتداخلة في حقولها الدلالية، ما يجعل الكثيرين يقعون ضحايا الفهم المغلوط في هذا الموضوع. وفي هذه السطور سنوضح الفرق بين الانقياد والالتزام اولا، ثم بشكل تلقائي سنتعرف على الفرق بين الحرية والانفلات وهو ما يوضح أهمية رمضان في حياة المسلم.
يختلف مفهوم الالتزام بشكل كلي عن مفهوم الانقياد ، فالالتزام بتعاليم الدين معناه الاختيار الواعي لهذا الدين أولا، و الالتزام بتعاليمه بشكل مبدئي هي خطوة أولى في الالتزام ، ثم بمزيد من الفهم في تفاصيل التعاليم يجعل المسلم يختار بشكل طبيعي الالتزام بهذه التعاليم التي فهم مغزاها في حياته، فالالتزام الاول هو مستوى طبيعي يشمل كل مسلم ذلك أنه ابتداء اختار ان يكون مسلما، و بمجرد ذلك الاختيار الحر لدين الاسلام فمعناه بشكل تلقائي أن التزامه بكل تعاليمه تختلف عن الانقياد، و هذا المستوى الأول يشترك فيه كل المسلمين.
وحين يبذل المسلم جهدا معتبرا في فهم مغزى التعاليم التفصيلية للإسلام فإنه يزداد مع كل تعليمة من تعاليمه اختيارا حرا زيادة على الاختيار المبدئي للإسلام، ذلك ان الفهم التفصيلي لتلك التعليمة ساهم بشكل كبير في زيادة حرية الاختيار، بينما يأخذ مفهوم الانقياد شكلا مختلفا تماما.
فالانقياد معناه أن ينصاع للتعاليم دون اي اختيار فهو مرغم على الانقياد لذلك، فالإنسان منقوص الحرية او معدوم الحرية بشكل كلي هو الذي ليس لديه أية قدرة على الاختيار، ومن هذه الزاوية يفقد اي معنى للالتزام، لأن الالتزام معناه الانضباط مع الاختيار بينما الانقياد معناه الانضباط دون الاختيار وهو فرق جوهري.
إذا أدركنا هذا الفرق بين الانقياد والالتزام، سندخل به كمقدمة لتوضيح الفرق الثاني بين الحرية والانفلات، فالحرية هي ان يمتلك الانسان القدرة على الاختيار، وبمجرد ان تتاح الخيارات امام الانسان فيختار، ثم يلتزم بمالات خياراته فإنه يسعى بذلك الالتزام لتحقيق الانجاز الذي هو الغاية الكبرى من التحرر.
بينما حين يتخلى الانسان عن الالتزام بخياراته فإنه بشكل طبيعي سيفقد القدرة على الانجاز ذلك أنه ما من انجاز الا ويسبقه التزام، فيكون الانسان فقد معنى الحرية ودخل في مفهوم الانفلات وليس التحرر. وهذه المفاهيم مداخل مهمة جدا لإدراك أهمية الالتزام بتعاليم الدين في تحقيق الانجاز وارتباط ذلك بالحرية من ناحية والفهم والادراك من ناحية أخرى. فالفهم اولا يؤدي الى الاختيار ثانيا، إذا تحقق الاختيار نكون قد حققنا الحرية ثالثا، والالتزام بما تم اختياره بكل حرية، يؤدي الى الانجاز رابعا والانجاز هو الغاية من الحرية أصلا.
على العكس من ذلك، فإن عدم الفهم يؤدي الى عدم القدرة على الاختيار فيكون الانضباط بذلك الذي لم يُفهم، انقيادا لا التزاما، وهنا يكون معنى الحرية قد فقد فلا معنى للحديث عن الانجاز اصلا. لكن إذا تحقق الفهم مع الاختيار، تكون الحرية قد تحققت، فإذا تم الاختيار، ولكن دون الالتزام، يكون معنى الانجاز قد ضاع وبالتالي لا معنى لمفهوم التحرر هنا، بل يكون المعنى هو الانفلات.
في رمضان يزداد مفهوم الحرية اتساعا عند المسلم كلما ازداد فهمه وازداد التزامه، فيزداد بذلك إنجازه، ويضيق انجاز المسلم في رمضان حين يضيق فهمه فيضيق بذلك معنى التحرر تبعا لضيق الاختيار.
التزام المسلم بالصيام يعلمه القدرة على التحكم في غرائزه بشكل اختياري وهذا انجاز لا يقدر عليه من لا يلتزم بذلك، والتحكم في الغرائز فرق جوهري بين الانسان وغيره، بل يمكن القول إن الحضارة الانسانية كلها قامت على قدرة الانسان في التحكم في غرائزه وتوجيهها بما يخدم مبتغاه في تحقيق انجاز من نوع ما يساهم في صناعة الحضارة بشكل عام، ولو أطلق الانسان العنان لغرائزه لما وُجد اي معنى للفرق بينه وبين الحيوان الذي يفتقد القدرة المبدئية على صناعة الحضارة.
إن اهم ما يخرج به المسلم في رمضان هو أن يتعلم مفهوم الالتزام الذي هو العصب الأساسي الذي يسبق كل انجاز والذي يعطي الفرق الجوهري بين الحرية والانفلات، فإذا أدرك الانسان اهمية الالتزام في رمضان وخرج به كغنيمة يشتغل بها طيلة السنة يتحول مفهوم الصيام في رمضان بشكل كلي ويغدو رمضان شعيرة للالتزام لا للانقياد ويعطي معنى للحرية أكثر اهمية وأعمق معنى من مجرد الانفلات.