كنا قد ركزنا منذ انطلاقة هذه السلسلة على أن المرجعية المعرفية للمنظومة العلمانية لا تعترف مطلقا بما هو خارج الذات، باعتباره مصدرا غير مؤهل لتحرير المعرفة الموثوق بها مما يعني أن العقل (المعبر عن الذات المعرفية) هو الحكم الفصل الذي سينتهي اليه الأمر في المعرفة الموثوق بها حسب هذه المدرسة.
إذا اخذنا هذا بعين الاعتبار فإننا سنجد أنفسنا في مواجهة سؤال واضح وهو:
إذا كان العقل هو مصدر المعرفة التي نبحث في إمكانية تمخضها على معايير تكون أساسا لمنظومة أخلاقية، فإننا سنقرر منذ البداية أننا سنرتمي في أحضان النسبية ونترك خلفنا أي حديث عن الإطلاقية، ذلك أن العقل في حد ذاته في مسائل الميتافيزيقا (التي ينتمي اليها مبحث الأخلاق) يتسم بالنسبية الى حد كبير، هذا طبعا إذا تجاوزنا "كانط" الذي يرى أنه أصلا غير مؤهل للخوض فيها.
نعود فنقول أن أول نتيجة خرجنا بها من هذا المسار هي نسبية الأخلاق تبعا لنسبية المعايير، التي هي بدورها تبع لنسبية الأحكام العقلية، هذه الخطوة مهمة جدا، وتمنحنا الحق في طرح سؤال مهم:
معلوم أن النسبية على ضربين:
- إما أن تكون نسبية معتبرة يمكن معها إنشاء معايير، فرغم كونها نسبية إلا أنها محصورة ومحدودة تسمح بإنشاء منظومة تتسم بشيء من الثبات الذي يمكن ان يُتخذ معلما وإن كان متحركا، إلا أن حركته محدودة وبذلك يمكنك أن تحاكم على أساسه السلوكات الأخلاقية التي ستكون لاحقا مرجعا مفصليا في صياغة القانون الذي ستنشأ على أساسه البلدان وتقام الحضارات، بل بالعكس قد تكون تلك النسبية مصدر ثراء واختلاف وتنوع مفيد.
- وإما أنها ستكون نسبية مفرطة تصل الى حد العدمية، حينئذ سنخرج بنتيجة مع اعتذار أن هذه المنظومة لشدة نسبيتها لا تتسم بأي ثبات فهي في حيز العدمية، فأي الرأيين أرجح يا ترى؟
هل نسبية الأخلاق في المنظومة العلمانية نسبية معتبرة أم هي نسبية عدمية؟
أولا كي لا نقع في مغالطة ابتدائية، دعونا نتفق أن ما نتحدث عنه هنا ليس الدول الحالية التي تقول أنها علمانية، فنحن ندرك منذ البداية أنها لا تلتزم بإلزامات العلمنة المعرفية في مسارها ولا تتبع المسار المعرفي الى آخر مساره، ولذلك اتخاذها حكما منذ البداية سيكون بمثابة وضع العربة قبل الحصان، ونحن في غنى عن ذلك، ما يعنينا هنا محاكمة العلمانية كمنظومة معرفية بشكل مجرد ولسنا بصدد الحكم على دول تقول أنها علمانية، لكنها سرعان ما تتخلى عن علمنتها في أول محك متعلق بالقانون والاخلاقيات الجماهيرية التي هي في الحقيقة من بقايا الأديان وليس من إلزامات العقل المعرفي.
نعود لما نحن فيه، حين يحكم العقل بالحسن أو القبح على الأشياء فإن مدخلاته القبلية في ذلك تعتمد أساسا على العلم الذي هو نسبي مهما حاول البعض القطع بنتائجه، فكثيرا ما بقيت البشرية على يقينها العلمي في قضايا تم الاكتشاف لاحقا انها لم تكن يقينية! المشكلة الأكبر لا تقف هنا، فإذا اكتشفت البشرية ذلك ستعتبره تطورا ملحوظا من مزايا العلم وتمضي.
المشكلة أنه بناءً على تلك اليقينية تمت في الماضي وقد تتم في المستقبل محاكمات جائرة ومجحفة في حق البعض، لم يعد في الامكان تعويضهم عن ما حدث لهم، ثم يأتي العلم ليعتذر بأنه كانت هناك معطيات مجهولة، بل قد تكون النتائج العلمية في المرة القادمة مناقضة تماما لما كانت عليه في الحالة الأولى، وهكذا كما ترى قد تجمع هذه المنظومة بين الحكم ونقيضه تحت مرجع واحد فهي في كلتا الحالتين تحتكم الى ما تسميه علما، وهو في حد ذاته أمر غير ثابت ولا متوقف خاصة في تلك القضايا التي لا يقدم العلم فيها أكثر من مقدمات تحتاج الى مكملات فلسفية لترجح المسلك القانوني لاحقا.
إن العقل التجريبي وحده أو ما يسميه البعض العقل الأداتي لا يمتلك أية صلة بالاخلاق، فهو لا يمتلك أدوات تصف هذا بالحسن وذلك بالقبح، كل ما يمتلكه هو تفسيرات محدودة بما يتاح من ظروف قد تساهم لا شك في تطور العالم المادي لكنها قطعا لا تمتلك أية صلة بالبعد الأخلاقي.
فحين تلقي رضيعا في الفرن، فإن العلم لا يجيبك بأن هذا الفعل حسن أو شنيع، كل ما يخبرك به أنه بعد فترة زمنية معينة يمكنه حسابها حسب درجة الحرارة المعينة، سيتحول الرضيع الى فحم أو زيت أو أي شيء وأن صراخه ليس أكثر من نتيجة آلام الاحتراق التي ارسلتها أعصابه الى دماغه، فاستجاب بصراخ له صوت يمكن حساب مداه حسب سرعة الصوت والمجال الذي ينتشر فيه الصوت!!
العلم يجيبك أن ذلك المريض لا نمتلك في الوقت الحالي أدوات كافية لجعله يفيق من غيبوبته، كل ما يمكننا فعله هو حقنه بالمادة الفلانية حتى يتوقف قلبه عن النبض فيموت دون أن يشعر، بدل أن يبقى عقودا من الزمن يستهلك الأدوية دون فائدة.
العلم لا يمتلك حُكما على أن المادة التي تحقن بها الحامل فتسقط جنينها في الشهر الفلاني أن هذا حسن او قبيح، كل ما يخبرك به أن التحاليل المخبرية تقول كذا وكذا، والعلم نفسه لا يجيب عن أخلاقية القاء قنبلة هيدروجينية أو ذرية أو انشطارية في بقعة ارض بها ملايين السكان. كل ما يجيبك به هو حجم الدمار الذي يمكن ان تحدثه هناك، ولك انت القرار الذي لا يستمد من العلم بل من المنظومة الفلسفية التي تأخذ بعين الاعتبار ما يقوله العلم.
إذن واضح جدا أن العلم الذي تتكأ عليه العلمنة في رسم معايير أخلاقية هو فقير تماما فيها، لأنها باختصار ليست مجاله ولا علاقة له بها، انما مردها كلها الى معايير فلسفية أخرى قد تستأنس بالعلم كمقدمات أولية لا أكثر ولا أقل، وإذا كان العلم غير قادر على الفصل في نسبية الاخلاق العلمانية هل هي نسبية معتبرة أم هي نسبية عدمية فلم يبق لنا الا استشارة الفلسفة العلمانية ذاتها فهي آخر خط في هذا البحث الطويل.
في الفلسفة العلمانية السائدة، المعيار الاخلاقي هو القانون، فالامتثال للقانون حسن والاعراض عنه قبيح، والقانون كما كنا قد وضحنا مرارا وتكرارا أنه هو الذي يحتاج الى فلسفة سابقة تحكم بالحسن والقبح حتى يوضع ويعتمد أو لا يوضع ولا يعتمد، لا أن يكون هو نفسه الحكم، فما هو المرجح الذي جعل هذا قانونا وهذا مرفوض؟
لا تمتلك الفلسفة العلمانية إجابة على ذلك الا بقولها سنعود الى العلم من جديد، فهو الذي سيخبرنا هذا حسن وهذا قبيح، ولقد فصلنا قبيل قليل في عجز العلم عن ذلك، لنكون هنا قد وصلنا الى نهاية بئيسة أن العلمنة في منظومتها المعرفية تعجز تماما عن صياغة معايير أخلاقية فضلا عن أن تكون متينة!
لذلك يمكننا القول بكل أريحية أنها فلسفة لا أخلاقية من أصلها لأنها حشرت نفسها منذ البداية في الذاتية المعرفية التي تعتمد على العقل الذي يعتمد على العلم، الذي هو بدوره متبرئ من الخوض في مسألة ليست من اختصاصه!
المنطومة الأخلاقية عند الفلسفة الاسلامية
إذا كنت قد ألممت بكل هذه الجولة الفكرية حول الاخلاق العلمانية، تعالى معنا لنلقي نظرة سريعة على المنظومة الاخلاقية عند الفلسفة الاسلامية وتجلياتها في رمضان:
لا يسع المقام للحديث عن التكافل والتضامن والصدقات والاحسان وغيرها من فضائل الاعمال المعروفة بنصوصها الكثيرة في منظومة المعرفة الاسلامية المتعلقة برمضان، فتلك كلها من جنس الفضائل التي يبادر بها المسلم كزيادة من عنده، ومنظومة الاسلام الاخلاقية لا تقف عند هذا الحد، فهو حد متاح حتى قبل رمضان و بعده. انما يعنينا هنا اشارة واحدة تكفي للفصل في التباين بين المنظومتين.
كان من قول النبي محمد:《إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ》ففي الحديث إشارة إلى أن الأخلاق المطلوب التمرن عليها في رمضان ولمدة شهر كامل، أن يتعود المسلم على الاغضاء والتعفف والترفع حتى عن المطالبة ببعض ما يحق له وليكتفي بالقول أنه صائم، صائم عن كل هذا، فيمكن للمسلم في فلسفة الاسلام أن يرد عن نفسه الشتم الذي تعرض له، لكنه في رمضان يترفع عن ذلك ويمرن نفسه على التخلي عن بعض حقوقه حتى لا يفكر مطلقا في غير رمضان في التعدي على حقوق الآخرين.
وهي رسالة في غاية العمق ترشدنا لها الاخلاق الاسلامية، التي تسعى لتجفيف منابع الجريمة والظلم وغيرها مما يتسبب فعلا في انهيار المجتمعات و استقرارها، ولك بعد كل هذا التطواف أن تقارن بين منظومة أخلاقية ترى أن المسلم مطالب بالتمرن شهرا كاملا في التعفف عن المطالبة ببعض ما يحق له حتى يقضي بقية السنة متمسكا بأخلاقه التي تحرم عليه التعدي على الآخرين، وبين منظومة لا تمتلك أي معيار أخلاقي أصلا الا القانون الذي يعتمد على العلم الذي لا يملك من أمر الحسن والقبح أي شيء يقوله.
كل ما ذكرناه مرتبط بلوازم معرفية مأخوذة من الزامات نظرية المعرفة التي أشرنا اليها في اول حلقة، لكن نأتي الى سؤالنا المعتاد: هل يدرك المسلمون عظمة ما يمتلكون من منظومة أخلاقية متامسكة؟ في الوقت الذي يتصرفون فيه بمنظومة أخلاقية لا تجد تفسيرا لها الا في منظومة المعرفة العلمانية المبتورة عن كل قيمة؟
هل أدرك العالم كم هي الحاجة ماسة للدين في قدرته البديعة على صياغة أسس ومعايير أخلاقية عجزت عنها الفلسفات والعلوم؟ متى يدرك الملاحدة ان تشبثهم بالعلم في مسائل الأخلاقيات العامة انما هو سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؟!