سورة الكهف هي سورة إدارة الصراع وقواعد الاشتباك؛ وفي الاشتباك، لا يوجد مسارٌ أفضل من مسارٍ في المطلق، ولا يوجد (سيناريو) أولى من آخر دائمًا! المسألة هي مسألة إدارة للصراع والاشتباك.
تعلمنا "الكهف" أن النصر ليس هو السيطرة على المشهد! فعندما تقرر الإدارة الانسحاب من المشهد اعتمادًا على دراسة معطيات الواقع وفهم المراد الإلهي، تكون قد انتصرت! لأن الاشتباك ليس هو الاحتكاك المباشر! فقد يكون الاشتباك انسحابًا! كما انسحب الفتية من مسرح الحدث، واختاروا (ركز معي على اختاروا) مسرحًا آخر!
والقضية لا علاقة لها بالعجز أو القدرة بالمعنى المادي، إذ العجز هنا أن تستسلم الإدارة لضغط العاطفة ورغبة بروعة الشهادة واكتساب شرف استحقاق اسمها! ويا له من امتحان تخوض فيه النفس صراعًا مع قيمة التضحية! إن العجز هنا هو أن تقرر الإدارة الاشتباك المادي مع الجاهلية!
وعندما عرض الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إبعاد فقراء أصحابه عن مجلسه كي يجلسوا إليه ويستمعوا له مما يعني فرصة في أن يسلموا، كان العجز في هذه اللقطة أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على عرضهم نزولاً عند طمع النفس في استدراجهم إلى الإسلام، وتجاوبًا مع انسداد آفاق التقدم في الدعوة، فيتم الخضوع لوهم المصلحة التي تقول لك: نَــاوِرْ لعلك تحقق مكاسب من تلبيتهم! كانت القدرة هنا الرفض، لأنه، وكما قالت الآية 29 التي علَّلت سبب الرفض: "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"
ولقد أسأل نفسي كثيرًا: هذا العبد الصالح ذو القرنين المُمَكَّنُ في الأرض، والمُعطَى من كلِّ شيءٍ سببًا، والذي استطاع أن يبني بين القوم وبين أعدائهم سدًّا هو بمقاييس ذلك الزمان نقلةٌ عمرانية، وخط دفاع مُعقَّد بأساليب عسكريةٍ في ذلك العهد! سألتُ نفسي: لماذا لم يطلب من القوم أن يعدوا العدة لقتال الأعداء؟ فهو قائد فذٌّ، يمتلك أدوات الصراع عقلًا ومادةً، وهم قوم يمتلكون العدد والعُدة!! ولقد أجبتُ نفسي: لأن الصراع ليس قيادة وأدوات، ولأن النصر ليس انتصارَ جولةٍ، بل هو انتصار القوم في أن يكونوا غيرَهم! أن يكونوا مُتقدمين في ذواتهم، أن تتغير بِناهُمُ الذِّهنية. وهبَهُ قادهم فانتصروا على الأعداء، ثم غادرهم بعد زمن، فماذا سيفعلون؟ سَيُعيد تخلفُهم إنتاجَ قوى أخرى جديدة تُفسد في الأرض! وانتبه: قد تكون هذه القوى الجديدة المُفسدة من أنفسهم!
إن المنهج القرآني لا يصنع خطَّ البطولات، بل يصنع ثقافة الوعي على أسباب الاستعمار والاستبداد.