يعتقد كثير من العرب، أن تحرير فلسطين والقدس من المحتل اليهودي الصهيوني، يمكن أن يتم بشكل مباشر، عن طريق المقاومة المسلحة المتواجدة على أرض غزة، أو في الضفة الغربية، أو سواها..
أو أن تدخلها الجيوش العربية مباشرة، كما دخلتها أول مرة في عام 1948. أو عن طريق المقاومة اللبنانية، المتمثلة فيما يُسمى حزب الله، والمقاومة الإيرانية، مصدقين خطاباتها العنترية، ودعاياتها الإعلامية النارية، وتصريحاتها الحماسية، وبياناتها الديماغوجية الخُلَبَاء!
بل والأغرب من هذا وذاك.. أن بعض الناس، يبنون أحلامهم وآمالهم في تحرير المسجد الأقصى وما حوله، على التنجيم، وعلى الأرقام، والأعداد الحسابية في القرآن- وكأن القرآن قد أنزل كلعبة حسابية! بل وبعضهم يتمادى في التنبؤات، بسفاهة وشطط مثير للسخرية، فيحدد يوم 9 ذي الحجة 1443 يوم تحرير فلسطين كاملة، وتبخر الاحتلال اليهودي في الهواء! يعني بعد شهر من الآن، سيتطاير الصهاينة جميعاً كالعهن المنفوش، ولن يبقى منهم أحدٌ أبداً..
وفي هذا منتهي الاستهزاء، والسخرية، والاستخفاف، بالقوانين الربانية، والسنن الكونية، التي وضعها الله تعالى للناس، منذ خلق السماوات والأرض، وأكدها في كتابه العزيز مرات عديدة..
(سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاً).(1).
حديث التاريخ
ولكن التاريخ يحدثنا: أن الجيوش المسلمة التي انطلقت من المدينة، تجوب الآفاق، وتفتح البلدان، وتحررها من سطوة الفرس والرومان، لم تتجه مباشرة إلى القدس، لفتحها، وتحرير المسجد الأقصى من العبودية للرومان في ذلك الوقت، على الرغم من الأهمية الدينية الكبيرة لها، وأنها مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم وثالث المساجد المعظمة، والمقدسة في الإسلام، والتي تُشد لها الرحال، بالرغم من أنها هي أقرب إلى المدينة، من الكوفة، والبصرة، والحيرة، ودمشق، والطريق مفتوح إليها، ولكن الجيوش اتجهت أولاً إلى العراق بقيادة خالد بن الوليد، عقب الانتهاء من حروب الردة، في بداية العام الثاني عشر للهجرة(2).(3). لأن هذا هو الطريق السليم في تحرير القدس.
وهذا ما يشبه عمل الجراح الماهر، حينما يقوم بعمل جراحي لاستئصال ورم سرطاني خبيث، فإنه يبدأ أولاً بإزالة الخلايا السرطانية في أطراف الورم، فيطهر وينظف المنطقة المحيطية بشكل كامل، ثم يتقدم رويداً رويداً نحو مركز الورم وقلبه الخبيث، فيزيله ويقضي عليه بعد أن قضى على الأطراف، حتى لا تنتقل الخلايا السرطانية إلى الأطراف البعيدة، إذا ما جاء إلى المركز مباشرة.
تحرير أجزاء من العراق
وهكذا فقد تم تحرير عدة مناطق في العراق في تلك السنة، منها على سبيل المثال: وقعة المذار كانت في شهر صفر 12 للهجرة، ثم وقعة الولجة في نفس الشهر، وهي مما يلي كسكر من البر، ثم وقعة اُلًيْس، حيث جرت الدماء من قتلى الفرس كالأنهار، ثم بعدها توجه خالد بن الوليد نحو أمغيشيا، الواقعة على نهر الفرات، والتابعة للفرس، وبعدها توجه نحو الحيرة، فطلب أهلها وكانوا من نصارى العرب، الصلحَ مع خالد، فصالحهم، وكتب لهم الصلحَ، مع دفع الجزية وهم صاغرون!
ثم تم فتحُ الأنبار، وبعدها موقعة دومة الجندل، وأحداث أخرى متعددة، حصلت فيها فتوحات كثيرة في العراق في ذلك العام.. إلى أن طلب الخليفة أبو بكر الصديق، من خالد بن الوليد رضي الله عنهما، مغادرة العراق والتوجه إلى الشام في أوائل السنة الثالثة عشرة، لمؤازرة المسلمين في موقعة اليرموك مع الروم (4).
و(في نفس الوقت الذي انطلق فيه خالد بن الوليد إلى العراق، فإن أبا بكر الصديق وجه إلى الشام عدة جيوش، قسماً منها توجه نحو البلقاء بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وقسماً توجه نحو الأردن بقيادة شرحبيل بن حًسًنة، وقسماً توجه نحو الجابية، وهي قرية غرب حوران بقيادة أبي عبيدة بن الجراح (5). غير أنه لم تحصل مواجهات واشتباكات بينها وبين الروم ذات بالٍ، فالجيش الروماني بقيادة نائب هرقل الذي كان متمركزاً في حمص اختار بالتشاور مع هرقل، التجمع والاحتشاد في وادي اليرموك، لأنهم أرادوا أن يكون محصوراً، وضيق المهرب، وواسع العطن (6).
بصرى أول مدينة تُفتح في الشام
وحينما انطلق خالد بن الوليد، بجيشه المؤلف من عشرة آلاف تقريباً من العراق، وسار بطريق وعر وصعب للغاية، خالٍ من الماء، وعبر بادية الشام، فمر بتدمر والقريتين ومناطق متعددة وصالح أهلها، إلى أن وصل بصرى، فكانت أول مدينة تفتتح في الشام والعراق (7). إلى أن وصل إلى مكان تجمع المسلمين في وادي اليرموك، أمام جيوش الروم الجرارة التي كانت تقدر ب 240 ألفاً.
فتح دمشق
ثم بعد الانتصار الكبير، الذي حققه المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، في موقعة اليرموك، التي هي عبارة عن وادي بجانب بحيرة طبريا، ويخترقه نهر اليرموك الذي هو أحد روافد نهر الأردن.. انطلقوا نحو دمشق، بعد أن استشار أبو عبيدة بن الجراح، عمر بن الخطاب، في التوجه أولاً إلى دمشق، التي أتتها جيوش من حمص، أم إلى فِحل التي تجمع فيها فلول المنهزمين من معركة اليرموك؟ قال لهم: انهدوا إلى دمشق، فإنها حصن الشام، وبيت ملكهم (8) (9). وبعد حصار دام 70 ليلة افتتحوها، وقبل أهلها الصلح.
فتح حمص والمدن الساحلية وأرمينية
ثم انطلقوا نحو فِحل من أعمال حوران، ثم بعدها انطلقوا نحو حمص، فافتتحوها بعد موافقة أهلها على الصلح، وبعدها توجهوا نحو مدن الساحل بيروت، واللاذقية، وبانياس، وطرطوس، ثم أنطاكية، إلى أن وصلوا إلى حدود أرمينية الصغرى.. فافتتحوا الرها، وحران، ونصيبين، ومرعش، وجميع المدن الواقعة جنوب الأناضول. والقدس حتى ذلك الوقت، لا تزال ترزح تحت الاحتلال الروماني، لم يتوجه لها أي جيش!
كل هذا تم في عهد عمر بن الخطاب، وكان قادة الجيوش، لا يتحركون أي حركة، إلا بعد استشارة الخليفة، فكانوا يتوجهون إلى الشمال، ثم يعودون إلى الجنوب، كل ذلك حسب أهمية المنطقة التي يريدون تحريرها، وأفضليتها، وأولويتها، وأهميتها الاستراتيجية، والجغرافية..
وفي سنة 15 دخل أرطبون إيلياء (بيت المقدس) وبالعبري تعني (بيت الله)، قام عمرو بن العاص، بفتح بَيْسان، وبيت جبرين، ونابلس، ومدينة لُد، ويافا، وغزة، وأجنادين، وسًبًسْطية، وتُبني، وعمواس، كما قام معاوية بن أبي سفيان، بفتح قيسارية، بعد أن ولاها له عمر بن الخطاب..
فتح القدس
وبعد أن تم فتح جميع المدن، والقرى المحيطة بالقدس، وتنظفت المنطقة كلها من الروم، توجه المسلمون حينئذ لفتحها، ووافق أحبارها وكهانها على تسليمها صلحاً، ولكن على أن يستلم مفاتيحها الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه، وبيده فأخبروه بهذا الأمر فاستشار الصحابة في المدينة ووقع الاختيار على أن يأتي إلى الشام.
وفعلاً جاء عمر بن الخطاب إلى الجابية، راكباً على فرس في المرة الأولى لزيارته للشام، ومعه جيش المسلمين، وعلى مقدمته العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أنه بين الصحابة عن سبب خروجه إلى الشام فقال: أبادر بالجهاد، قبل موت العباس، إنكم لو فقدتم العباس، لانتقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل (10). وفي المرة الثانية جاء على بعير، أما المرة الثالثة على بغل، ولكن لم يصل إلا إلى سرغ، وهي أول منطقة في الحجاز، وآخر حدود الشام، حيث رجع عن الدخول، بسبب انتشار طاعون عَمَواس، والرابعة جاء راكباً على حمار (11).
دخول عمر بن الخطاب المسجد الأقصى
ولما قدم عمر رحمه الله الجابية، قال له رجل من يهود: لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء.. وجاءه أهل إيلياء، فكتب لهم كتاب صلح، وأمان على أنفسهم، وممتلكاتهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود (12).
ثم بعد الصلح، دخل عمر رضي الله عنه القدس، وصلى في المسجد الأقصى في محراب داود، ووضع حجر الأساس لبناء مسجد الصخرة، بعد أن تم العثور عليها، وتنظيفها من الأوساخ التي كانت تغطيها!
أما أرطبون وهو من دهاة الروم، وأشدهم شكيمة، وقوة، والذي كان متمركزاً في إيلياء، وفي أجنادين، والذي زعم بعد انتصار المسلمين في موقعة أجنادين.. أنهم لن يفتحوا من فلسطين بعدها شيئاً أبداً! فخاب فأله، ومات بغيظه، فبمجرد وصول عمر إلى الجابية، وعقد الصلح مع أهلها، خرج مذؤوماً مدحوراً.. ومعه جنوده المنهزمون إلى مصر.