في هذا الكتاب يستعرض الكاتب اللبناني الدكتور مصطفى حجازي المتخصص بدراسة علم النفس في مؤلفه «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» الصادر في طبعته التاسعة عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء -المغرب– بيروت لبنان- عام 2005م.
يفتح د. مصطفى حجازي باباً واسعاً لمزيد من التساؤلات والدراسات الأكثر عمقا في خبايا النفس الإنسانية الخاضعة لشروط تخلف المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وعلميا، ويُظْهِر معرفته واطلاعه على أصول التخلف الاجتماعي الذي يعيشه المجتمع اللبناني بحسب رأيه ويحاول تعميمه على المجتمعات العربية، بزعمه أنها متخلفة بديناميكية متماسكة ثابتة، كما أنه يحاول أن يجعل من هذا المؤلف مدخلا لدراسة التخلف من منظوره البحت، وعدم التطرق للكثير من الآراء التي تناولت هذا الموضوع إلا بعض الآراء التي تناولها بشكل انتقاد فقط في جانب علم الاجتماع، وأيضا ذكر بعض الملامح النفسية للإنسان المتخلف وأهم أساليبه الدفاعية التي يستعين بها للحفاظ على توازنه النفسي ولم يتطرق إلى أثر الوعي والتعليم في معالجة التخلف بشكل جذري وآثاره في الحياة، بل جعل التعليم منفصلا عنه وتناول الموضوع بشكل صرف متبنيا النتائج قبل تطبيق العلاج والدراسات الواقعية لمثل هذا الموضوع المتوسع في مداركه ودراساته.
أظهر الكاتب الكثير من التفسيرات النفسية والتحليلات العميقة للظواهر الموجودة في الواقع دون أسباب منطقية، وجمع أغلب مظاهر التخلف ولكنه جعله في بيئة ومكون عربي وبالخصوص محيطه الذي ترعرع فيه، مما يؤكد أنّ نظرته لمجتمعه نظرة دونية بعد تغربه واندماجه في الحضارة الغربية، وبالتالي فقد يعاني المجتمع من مشكلات فعلا وقد لا يعاني منها مجتمع آخر، مع العلم أن المجتمع اللبناني لديه تنوع كبير واختلاف ثقافي ولكنه مجتمع واع.
ولا شك أن هناك جوانب مهمة كثيرة على كل صعيد، لا بد للأبحاث الميدانية أن تميط اللثام عنها، فالميدان -بحسب المؤلف- لا يزال بكراً، وقد يكون ما يخبئه من معطيات أهم وأخطر مما ظهر منها.
ولكن -يضيف الكاتب- "أن ما نستطيع تأكيده هو أن الخصائص النفسية التي تميز شخصية المؤلف وأولوياته الدفاعية تشكل في الكثير من الحالات عقبات جدية في وجه التغيير الإجتماعي، وتكوّن كوابح مهمة لمشاريع التنمية".
وهنا يكمن خطرها تحديداً، وتبرز أهمية اكتشافها والوعي بها ومعرفة تحريكها لحياته وتحكمه بها، ذلك هو أيضاً المبرر الأساسي لبذل جهد كبير للأبحاث في هذا الميدان، إذا أردنا لمشاريع التغيير والتطوير في مجتمعنا العربي أن تنطلق من أسس صلبة تحيط بالواقع وتتحكم بالقوى التي تحركه، بذلك وحده يمكن للآمال التي نضعها فيما نرسم من مخططات تنموية أن تؤتي بعض أكلها وتفتح مدارك جديدة.
وانتقد الكاتب المعتقدات كموضوع الشياطين والجنّ والقضاء والقدر، بالإضافة إلى الحسد والرؤيا بتطرف وعدم حيادية في تناول الطرح الشائع في المجتمعات المتخلّفة أو المتقدمة، أي أنه ينتقد هذه الموضوعات بشكل مشوّه ومتطرّف.
منهج فرويد التحليلي في تحديد «الملامح النفسية والأساليب الدفاعية»
قسم د. مصطفى حجازي الكتاب إلى قسمين: يبحث القسم الأول في الملامح النفسية الأساسية للإنسان المقهور، أما القسم الثاني فيعرض أبرز الأساليب الدفاعية التي يجابه بها هذا الإنسان وضعيته في تفاعلها وتناقضها وتغيرها.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن المؤلف استخدم في هذه المقاربة منهج ومفاهيم التحليل النفسي، والذي ظهر في أوائل القرن العشرين على يد فرويد، وهذا التحليل يستند على مفاهيم ومسلمات أساسية، أبرزها أن للإنسان عقلاً واعياً ومدركاً يتبع المنطق في اتخاذ قراراته، وعقلاً غير واع يشكل جزءاً كبيراً من حياة الإنسان النفسية، ويوجه الكثير من سلوك الإنسان ومواقفه دون أن يشعر الوعي بذلك الذي تستمر فيه عُقُد منذ مرحلة الطفولة أبرزها: عقدة الهجر، وقلق الانفصال وقلق المنع. ووفق التحليل النفسي فإن أي موقف، أو حالة مهددة أو مقلقة يتعرض لها الإنسان تثير لديه هذه العقد، فيتولد عنها قلق شديد يسعى بطرق عديدة للتخلص منه، وهذه الطرق تسمى آليات دفاعية.
1)عوائق التغيير المنشود.. «الملامح النفسيّة للإنسان المتخلف»
بدأ الدكتور مصطفى حجازي حديثه عن نظريات التخلف وطرق دراستها وهيّ الطريقة السطحية والاقتصادية والاجتماعية، وتوصل في النهاية إلى نقطة التقاء بينها تقضي بأنّ "لب مشكلة التخلف هو بنية تتصف بالتسلط والرضوخ، أي فقدان الإنسان لإنسانيّته."
ومن ثم يتحدث عن المنظور النفسي للتخلف، فإذا كان التخلف الاقتصادي والاجتماعي يشكلّ بنيةً تحتيّةً للتخلف، والتخلف النفسانيّ يشكل بنيةً فوقيّة له، فإنّ هذه الأخيرة تعزز المسببات الاقتصادية والاجتماعية وتشكل عائقاً حقيقياً أمام التغيير المنشود.
ومن الأمثلة على ما تقدم أبرز المؤلف نظرة الحركة الصهيونية إلى العرب على أنها نظرة ازدراء واحتقار "بينما ينظر الصهيوني إلى نفسه بتعال وتفوق، من خلال نشر أساطير القدرة في الإنتاج والعلم والغنى والحرب،.. تلك كانت صورة الإنسان العربي قبل الغزو الصهيوني لفلسطين في كتابات زعمائهم من أنه لن يكون للعرب سوى وظيفة واحدة هي القيام بالأعمال المنحطة".
ثم ينتقل المؤلف إلى ذكر المراحل الثلاث التي تمر بها علاقة القهر، حيث يكون لكل مرحلة بيئتها النفسية والإجتماعية، وخصائصها المميزة التي تعكس جانباً من الوجود المتخلف.
وكما ذكر فالمجتمع المتخلف يمرّ تاريخياً بثلاثة مراحل:
1- مرحلة القهر والرضوخ وتمتد زمناً طويلاً نسبياً، واعتبرها الكاتب فترة مظلمة في تاريخ المجتمع، حيث تكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج جبروتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها والتي تتميز بتبخيس الذات والحط من شأنها وبروز عقد النقص والعار واضطراب الديمومة (أي القلق من المستقبل).
2- مرحلة الاضطهاد التي تمارس فيها العدوانية المكبوتة على الأقران وشركاء القهر.
3- مرحلة التمرّد والمجابهة وتفجر العدوانية على السبب الحقيقي لمأساة المقهور، ولا شك بأن العنف هو لون هذا التمرد وعماده.
ينتقل مصطفى حجازي بعد ذلك للحديث عن العقلية المتخلفة من خلال تناول «الخصائص الذهنية للتخلف»، تحت هذا العنوان يعرض المؤلف سمات الذهنية المتخلفة وأسبابها، ويحرص على توضيح أن ما يطرحه لا يعدو كونه محاولة أولية لا تدّعي الشمول في عرضها للواقع، وغاية ما يرجوه هو أن يكون طرحه منطلقاً لأبحاث ميدانية أكثر تحديداً، وعمد الكاتب إلى تقسيم الخصائص الذهنية على النحو الآتي:
1- خصائص ذهنية منهجية: تعني اضطراب منهجية التفكير والسطحية والاعتباطية في تناول القضايا ومناقشتها، بالإضافة إلى قصور التفكير الجدلي وتطبيق مبدأ العزل والفصل، أي أنّ سبب واحد أو عدة أسباب ستؤدي إلى نتيجة واحدة حتميّة، وغياب القدرة على ربط الظواهر بالواقع وردها إلى أصولها التاريخية مما يخلق حالة من التصلب والجمود الفكري.
2- خصائص ذهنية انفعالية: تتلخص بقول مصطفى حجازي "الوجود المتخلف مُعاش وجدانياً أكثر مما هو مصوغ ومنظم عقلياً".
أما عن عوامل وأسباب تخلف هذه العقلية فللتعليم اليد الطُولى في ذلك بلا شك، لأنه تعليمٌ يعتمد أساساً على التلقين والقهر وتسلط المعلم، وهو تعليمٌ منفصلٌ عن الواقع بسبب انفصال لغة العلم عن لغة الحياة، ولذلك لا بد من تعريب العلوم المضبوطة وتدريسها باللغة الأم حتى تتحول من خلال التداول اليومي إلى ثقافة ومنهج حياة.
يتحدث الكاتب بعد ذلك عن الحياة اللاواعية في المجتمع المتخلف ويشير إلى ما يسميه العلاقة "السادومازوشية"، فالمتسلط عدوانيّ ساديّ يدفع المقهور إلى الاستسلام والرضوخ حتى يعترف بسطوة الساديّ ويصبح طرفاً مازوشياً بالمعادلة.
وينتهي الحديث هنا عن الملامح النفسية للمجتمع المتخلف ويتحول الكاتب إلى دراسة الأساليب الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المقهور لتحقيق التوازن الداخلي، وهي حلول إما أن اكون تغييرية بعيدة المدى أو مؤقتة تهدف إلى التلاؤم مع الواقع.
2) بين الانكفاء، التماهي، السيطرة والعنف.. تنعكس «الأساليب الدفاعية للإنسان المقهور»
"الانكفاء على الذات"، أول حركة للإنسان المقهور للتغلب على الطبيعة والمتسلط من خلال التقوقع والانسحاب بدلاً من المواجهة، أي الرضوخ للأمر الواقع، والحد من الطموحات ويستخدم لتحقيق هذا الانكفاء ثلاثة وسائل هي:
- التمسك بالتقليد الذي يجنبه خطر المجهول، بالإضافة إلى الاعتزاز بالماضي المجيد الذي يقول فيه الكاتب "الفشل على كل صعيدٍ حياتيٍّ بشكل يمس الاعتبار الذاتيّ يدفع بصاحبه أحياناً إذا أوصدت أمامه أبواب المستقبل إلى الاحتماء بماضيه وخصوصاً بتلك الفترة الأكثر إشراقاً فيه وكلهم يجد في تلك العودة تعزيةً وملاذاً".
- الذوبان في الجماعة حيث يستعيض عن عجزه الذاتي من خلال الاحتماء بالجماعة والذوبان فيها.
- الوضعية الاتكالية: فالإنسان المقهور الذي لم يتمكن من التصدي لقدره ومجابهة تحدياته يلوذ بقوى تحميه ويجد نفسه في وضعية التبعية على مختلف الأصعدة، فهو مولعٌ بأبطال القصص الشعبية، شديد التعلق بالأولياء ذويّ الكرامات، ذو تصوّر خرافي للزعيم المنقذ الذي يتمتع بالقوة والجبروت والخير المطلق.
ثانيًا، "التماهي بالمتسلط" من خلال تماهي المقهور بأحكام المتسلط أولاً، أي حطّ المقهور من شأنه الذاتي وقيمة جماعته وإعلاء شأن المتسلط من جهة أخرى، وهي علاقة سادومازوشية.
ومن ثم تمثّل عدوانيّة المتسلط من خلال تسلّطه على من هم أضعف منه، وأخيراً التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتيّ مما يجعل من المقهور كائناً مزيفاً فقد هويته وأصالته باحثاً عن مظاهر استعراضية استهلاكية علّها تعيد إليه شيئاً من اعتباره الذاتي المفقود.
ثالثًا، "السيطرة الخرافية على المصير"، فإذا عزت السيطرة المادية على المصير حاول المرء توسل الأوهام يعلل بها النفس ويجمل بها الواقع ويستعين بتصوراتها على تحمل أعبائه، ويتناسب انتشار الخرافة والتفكير السحري في وسط ما مع شدة القهر والحرمان وتضخم الإحساس بالعجز وقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة وتتضمن السيطرة على المصير ما يلي:
1- السيطرة على الحاضر: حيث يتوسل رموزاً للخير مثل الأولياء ومقاماتهم وكراماتهم، يتقرب منها بالأدعية والنذور والقرابين، ويخشى بعض رموز الشر مثل الجن والشياطين والعفاريت ويتجنب أذاها من خلال السحر والتعاويذ، وهذه الرموز تشكل وسائلاً لتبرئة النفس والتحلل من المسؤولية من خلال إسقاط الأخطاء والزلات على هذه الكائنات الغيبية.
2- السيطرة على المستقبل: من خلال اللجوء إلى التطيّر وتأويل الأحلام وقراءة الطالع والعرافة التي تكشف عن خير أو شر قادم فيستعدّ له الإنسان، بالإضافة إلى القدريّة التي تحلّل المقهور من عقدة الشعور بالذنب فكلّ مصيبة تحلّ به هي قدرٌ لا يد له في رده أو التصرف إزاءه، وهذا هو الحل الوحيد للمأزق الحاصل نتيجة عجزه عن التحكم بمصيره.
وفي العنصر الرابع تحدّث عن "العنف"، وهو الحل لإعادة الاعتبار الذاتي المفقود، ومن مظاهر هذا العنف:
1- العنف المقنّع الذي إما أن يرتد على الذات من خلال الإدانة الذاتية وتبخيسها، أو أن يكون موجهاً إلى الخارج بشكل غير مباشر من خلال الكسل والامتناع عن العمل وتدمير الممتلكات العامة.
2- العنف الرمزي: من خلال السلوك الجانح والخروج على القانون وعمليات السلب والاحتيال والقتل، وإن تفشي ظاهرة الجنوح في مجتمع ما يعتبر مؤشراً خطيراً على تأزم حالة العدوانية المتراكمة فيه.
3- التوتر الوجودي والعلاقات الاضطهادية الفاشية: ويقصد بالتوتر الوجودي حالة تعبئة نفسية دائمة استعداداً للصراع تتجلى من خلال سرعة الغضب وتدهور الخطاب اللفظي نحو الشتائم والاشتباك أحياناً لأتفه الأسباب، أما العلاقات الاضطهادية الفاشية فيقصد بها تعصّب الجماعات نحو ذاتها كمخرج من حالة التوتر الوجودي، فبدلاً من صراع أفراد الجماعة فيما بينهم يوجهون عدوانيّتهم نحو جماعات أخرى تُسقط عليها كل الآثام والأوزار وتصبح العقبة الأساسية أمام الوصول إلى الرفعة والمنعة وبالتالي لا بدّ من القضاء عليها.
«كيف يؤدي الجرح النرجسيّ إلى العنف؟» محاولة لفهم المجتمع المتخلف
لعل أهم ما توصل إليه الكاتب هو ردّ ظاهرة العنف في هذا المجتمع إلى القهر والإرهاب الممارس عليه من قبل المتسلط بمختلف صوره وأشكاله، فالجرح النرجسيّ الذي يصيب ذات المتخلف بالإضافة إلى صورة الأب القاسي المهدد التي يتمتع بها المتسلط تفجّر كوامن العدوانية عند المقهور على شكل التشفي الذي لا يعرف الارتواء، لأن هذا العنف يردّ إليه شيئاً من اعتباره الذاتي المفقود.
وينتهي الكتاب بفصل مخصص عن وضعية المرأة التي يمكن من خلال حالتها تحديد مستوى التخلف المستشري في المجتمع وبدقة، لأنها المعبر الأمثل عن العجز والقصور وعقد النقص والعار واضطراب الذهن المتخلف، وعموماً يؤكد الكاتب على أنه وبشكل أساسي تحظى المرأة بالنصيب الأكبر من الغبن والقهر في المجتمعات المتخلفة.
ولذلك يُفرض على المرأة أكثر الوضعيات عبئاً في المجتمع المتخلف، إنها محط اسقاطات الرجل السلبية والإيجابية، على حد سواء، وهي تُدفع نتيجة لذلك إلى اقصى حالات التخلف، ولكنها من هوّة تخلفها وقهرها ترسخ تخلف البنية الإجتماعية عبر ما تغرسه في نفوس أطفالها من خرافة ورضوخ.
بخصوص العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة تقع الملامة على المرأة دائماً، فهي -بحسب الكاتب- المذنبة أبدا، مذنبة إن استسلمت للإغراء قبل الزواج، ومذنبة إن حرمت المتعة برفقة زوجها، نظراً لما تعرض له جسدها من قمع، ومذنبة إن هي لم تنجب، ومذنبة إن لم تنجب الذكور. ويدعي الكاتب أنّه وكما يقيد جسد المرأة ويؤجر جنسياً واقتصادياً، عبر القوانين الدينية والمدنية، التي تحاول تطويقه من أجل ترويضه، وبالتالي تعويد حاملته على الرضوخ غير المقيم على الصعيد الإقتصادي. كذلك فإن هذه القوانين سلاح في يد المتسلط لاستغلال طاقة الرجل وتطويق جسده بقوة، وسلاح في يده للجم كل التحركات التمردية التي تهدد المتسلط وتخيفه.
ويبدأ الحديث عن ملامح وضعية القهر التي تعاني منها المرأة في الوسط الكادح والطبقة المتوسطة والفئة ذات الامتياز في المجتمع، ففي الوسط الكادح تعاني المرأة من استلاب مادي تتحول من خلاله إلى أداة للإنجاب والمصاهرة وتصبح مجرد وسيلة يفرغ من خلالها الرجل القمع والقهر الذي يعانيه من خلال إسقاطه عليها، أما في الفئة ذات الامتياز فتعاني المرأة من استلاب معنويّ وإنسانيّ وتتحول إلى أداة للدعاية والإعلان عن الثروة والجاه والمكانة التي يتمتع بها الأب أو الزوج .
ولعلّ الطبقة المتوسطة هي الطبقة الوحيدة التي تعي مكانة المرأة ومشكلتها وتحاول منحها التحرر الذي تستحقه والمكانة التي تليق بها كإنسانة توازي الرجل في أهميتها مع أخذ رواسب الماضي والعقد الموروثة بعين الاعتبار فهي تشكل عوائق جديّة أمام هذا الانتقال الإيجابي.
أما عن أوجه القهر الذي تتعرض له المرأة فالحديث عن الاستلاب أولاً ثم الاختزال ثانياً، فالاستلاب يأخذ وجوهاً ثلاثة:
- استلابٌ اقتصادي من خلال تهميش قدرات المرأة مهنيا حيث تعطى أعمالاً ثانوية دونية تفتقر إلى الإبداع، بالإضافة إلى الإجحاف في الأجر الذي لا يتناسب مع الجهد الكبير المبذول من طرفها.
- استلابٌ جنسيّ من خلال اختزال المرأة إلى حدود الجسد، وفرض قيود شديدة على مختلف تحركاتها، وقمع حيويتها، باعتبار هذا الجسد مصدر الشرف والعار.
- ويبقى الوجه الأخطر دائماً هو الاستلاب العقائدي الذي يعني اقتناع المرأة بدونيتها مقارنة مع الرجل، وأن توقن بأنها كائنٌ جاهلٌ ثرثارٌ لا كيان لها ولا استقلالية، وأن كل ذلك يعد من طبيعة الحياة وقانونها الذي لا مفرّ منه، وهذا يشكل بالتالي عائقاً أمام تخليص المرأة من هذا القهر الممارس عليها، فتصبح المدافع الأول عن وضعها المرضيّ.
أما الاختزال وهو الضروري لعملية الاستلاب السابقة فهو يعني اختصار كيان المرأة في جانب سلبيّ أو مثاليّ وإلغاء الجوانب الأخرى، ومن هذه الاختزالات السلبية التي ذكرها د. حجازي: المرأة القاصر أو الانفعالية أو الغاوية أو الماكرة، وهي اختزالات تبرر القهر الممارس عليها من قبل الرجل. وبالمقابل فإن أشهر الاختزالات الايجابية هي صورة المرأة الأم أسطورة التفاني والتضحية والعطاء بحيث ينحصر دورها في الحياة في حدود منزلها ويتلخص دورها في إفناء ذاتها في سبيل هذه التضحية.
وفي مقابل هذا القهر الممارس على المرأة لا بد لها من وسائل دفاعية تتخذها لحفظ توازنها الداخلي وأهم هذه الوسائل:
- التضخم النرجسيّ: من خلال إحساسها بأنها كائن على درجة عالية من الأهمية بشكل مبالغ فيه وتسهم الاختزالات الايجابية السابقة في ذلك.
- السيطرة غير المباشرة على الرجل: من خلال التظاهر بالضعف والمرض أحياناً بالإضافة إلى أسلحة المكر والاحتيال والتنغيص على حياة الرجل.
وفي النهاية ذكر المؤلف عند اختتام كتابه: أنه لا يمكن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبناً ، فالارتقاء إما أن يكون جماعياً عاماً أو هو مجرد مظاهر وأوهام.