لا بدّ من الرفض الجمعي لكلِّ أنواع القوة في فرض الرأي، لكي تأخذَ الشعوبُ حقها الطبيعي في اختيارِ الحاكم أو القائد، وفق اليةٍ شوريةٍ وانتخابٍ صحيحٍ (1). يقول محمد الغزالي: إنِّي لا أعرفُ ديناً صبَّ على المستبدين سوطَ عذابٍ، وأسقطَ اعتبارَهم، وأغرى الجماهيرَ بمناوأتهم والانتفاضَ عليهم كالإسلام (2). ونحنُ من أنصار الكفاح والجهاد السلمي ضد الاستبداد والمظالم، ومع توعية الجماهير وتثقيفها لكي يرجع إليها حقها في اختيار مَنْ يقودها.
الدور الاجتماعي في تنمية الشورى
من أهمِّ الخطواتِ الأساسية في مفهوم الحِرَاك الاجتماعي التنشئةُ الاجتماعيةُ للفرد والأسرةِ، والعائلةِ الكبيرة، فمن القضايا المهمة للمجتمع إشاعةُ ثقافةِ الشورى في الأسرةِ والعائلةِ. (الشورى، ص 359)
إنّ أصغر وحداتِ الأمة تكويناً وتأثيراً في ثقافتها السياسية هي بلا شك خلية الأُسرة، التي يتلقّى فيها الإنسانُ التوجيهات الأولى لالتزام المُثُل العليا في الطاعة والانضباط والتضحيةِ وأداءِ الواجباتِ، والتسامح، والتعاون، والتشاور(3).
الأسرةُ في الرؤية الإسلامية نموذجٌ مصغر للأمة والدولة، تقابلُ القوامةُ فيها الإمامةَ أو الخلافةَ على مستوى الدولة، وتحكمُها الشريعةُ، وتُدار بالشورى، ويشبه عقد الزواج فيها عقد البيعة، ويتمُّ اللجوءُ عند النزاع إلى الاليات نفسها التي يلجأ إليها في حلِّ النزاع على مستوى الأمة، أي الصلح والتشاور والتحكيم.
فإذا أردنا مجتمعاً شورياً حقيقياً فلا بدَّ أن نهتمَّ بأساليب التربية الأُسرية، ونقومها، حتى نسهمَ في توجيه النشء إلى السلوك الشوري السوي.
فالشورى على نطاق المجتمع في أُسرهِ وعوائِلِهِ تسبقُ العمل السياسي، وهي لا تأتي اعتباطاً أو نسخاً فورياً من حضارة إلى حضارة أخرى، بل هي عملية تراكمية تكاملية في الفكر والوجدان الشعبي والرسمي معاً، وهذا ما يشكّل قوى اجتماعية ضاغطة، وكمؤسسات المجتمع المدني وغيرها ضدَّ أيِّ تسلطٍ فردي أو حزبي في المجتمع، فالشورى ليست عمليةً الكترونيةً أو عضويةً ارتجاليةً، أو هي نتاج عملية زرع في أنبوب اختبار، وتحت مراقبة الخبراء والعلماء والحكماء، وليس من الصحيح القولُ بأنَّ الشعبَ غير مهيأ لقبول الشورى أو ليسوا أهلاً لذلك، أوهم كالخرافِ الضالّةِ، والتي جاء الحاكم ليقودها بمهارته وقدراته الفائقة، أو أننا في حالة حرب وطوارئ وأحكام عرفية، ممّا يلزمُ إلغاء الشورى، لتنفردَ بالقرار جماعةٌ أو حاكمٌ، فكلُّ هذا لا يصحُّ شرعاً ولا قانوناً ولا عرفاً ولا عقلاً (4)، فهناك تحدٍّ يلازمُ الشعبَ والجماهيرَ في إقرار الشورى في أنفسهم وعقولهم، كما كان يواجه الحاكم تحدي الإذعان والانصياع لرأي الجماهير، والإشكاليةُ هي في معرفة كيفية تحويل قيمة الشورى، كتوجه مؤثر على النُّخَبِ الحاكمة إلى اختيارٍ واعٍ قائمٍ على بلورة خياراتٍ اقتصادية وسياسية واجتماعية قوية متماسكة (5).
وعي سياسي للفرد والرعية والحاكم لأهمية الشورى
إن الأصل أن يكونَ الناسُ أو الرعيةُ على درجة عالية من الوعي والإدراك لأهميّة الشورى في تسيير حياتهم وخطورة الاستبداد ـ أو الحكم المطلق كما يسميه الشيخ محمد الغزالي في إيقافِ تطوّرهم ونموهم، ولن تنموَ الشورى أو تتطوّرَ في ظلِّ جهل الناس بها، أو بقيمها العليا (6)، وكما يقول الكواكبي: الأمةُ التي لا تشعرُ كلُّها أو أكثرُها بآلام الاستبدادِ لا تستحقُّ الحرية (7).
تفعيل المجتمع المدني والمؤسسات الشعبية
جعل المال والتنميةِ والحركةِ الاقتصادية حرةً، لأنّ في هيمنة المؤسسة السياسية الرسمية عليها هيمنة على الجو الشوري أو الديمقراطي داخل الدولة، فإذا تحقق وجودُ مجتمع مدني قوي، فالنظامُ الشوري يفترِضُ وجودَ مجتمع مدني، له بنية قوية، يرتبط بمجتمع سياسي متكامل، كلاهما مستقل بقدر الإمكان عن الدولة، باعتبارها السلطة التي تعمل باسم الأمة.
رفض الهالات والقداسة عن الرؤساء والحكام
الإسلام لا يقدّس الحكامَ أو الرؤساءَ أو أهواءَ الأمراء أو الولاة، وبعبارة أوضح وأعمّ، الإسلام لا يقدِّسُ الأشخاصَ، أو أهواءَهم، فلا عبرةَ لذلك البتة، فالأصلُ في الشريعة أنَّ المصالحَ المجتلبةَ شرعاً والمفاسدَ المستدفعةَ إنّما تُعتبر من حيثُ تقام الحياة الدنيا للحياة الآخرة، لا من حيثُ أهواء النفوس في جلبِ مصالحها العادية، أو درءِ مفاسدها العادية، حتى إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على كرامة منزلته كان يقول في حقِّ تقديس الأشخاص والأفرادِ ولو كان هو ذاته: «لا تطروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه».
طبيعةُ الحكم في الإسلامِ أنه يرفضُ أن يعطيَ طابع الشخصية للمؤسسة الحاكمة، فهي مؤسسةٌ لا شخصنةَ لها، وهذا يساعِدُ على محاسبة الحكام والحكومة والنظام بأسره.
إذا كان هناك خروجٌ عن الشرع، وعن الدستور المتفق عليه، بل لا بدّ أن يكونَ هناك إحساسٌ بخطر المسؤولية الملقاة على عاتق الحاكم أو الحكومة، ولعلَّ قولَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو ماتت شاةٌ على شاطئ الفراتِ ضائعةً، لظننتُ اللهَ عزَّ وجلَّ سائلني عنها يومَ القيامة) ما يوضح ذلك.
الحكم الإسلامي مدني لا عسكري
لقد جسّد الخلفاءُ الراشدون رضي الله عنهم مدى مدنية الحكم في الإسلام، وأنّ العسكر ما هم إلا موضعَ خدمةٍ للشعب والأمةِ والسلطةِ الشرعية، وليس من الصحيح أنَّ قائد الجيش بقوته وسلطانه يمكِنُ أن يكونَ رئيساً للدولة عَبْرَ قوّةِ السلاح.
وفي قصة عزل عمر بن الخطاب للقائد العسكري الكبير للمسلمين خالد بن الوليد، ما يدل على ما ذهبتُ إليه.
الاستجابة لمتطلبات الشعوب والتغيير الذي يحدث في المجتمعات وفق مقاصد الشريعة
كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض السواد من العراق والشام، حيثُ جعلها أراضيَ خراجٍ، فجعل عليها إيراد الأرضِ التي افتتحها المسلمون عنوة، فأوقفها لمصالح المسلمين على الدوام، فعندما قويت شوكةُ الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، وتعددت مواردُ المالِ في الدولة الإسلامية، وكثرت مصارفه، وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف، وصون عزها وسلطانها، وضمان مصالح العامة والخاصة، كان لا بد من سياسة مالية حكيمة ورشيدة فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجادُ موردٍ مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا الموردُ هو الخراج، فقد أرادَ الفاتحون أن تقسّم عليهم الغنائم من أموال وأراضٍ.
قام عمرُ رضي الله عنه بحوارٍ شوريٍ موسعٍ مع كبار الصحابة ظهر فيه أسلوبه في الجدل، وجمع فيه بين قوة الدليل وروعة البيان واستمالة المخالف، وانتهى الأمرُ بكبار الصحابة ورجال الحل والعقد إلى إقرار رأي الخليفة رضي الله عنه بتحبيس الأرض على أهلها، وتقسيم الأموال المنقولة على الفاتحين.
وفي هذا نظرٌ عميق إلى التطبيق العملي لروح الشريعة ومقاصدها العظيمة، ومراعاة المتغيرات الكبيرة التي تحدث على الحياة بمختلف مجالاتها، أي إنّ النظر الإصلاحي يجبُ أن يصحبَ الحاكم وأعضاءَ مجلسه الشوري، الذين هم في الحقيقة مستودعٌ للأفكار في دعم وإسناد الحاكم في نظرته لتطبيقاتِ روح الدستور، وفعاليته في المجتمع والدولة.
الحرص على حرية البحث العلمي واستقلاليته
البحث العلمي لا ينمو في ظل أنظمة دكتاتورية لا تؤمن بالشورى، وما حدث في أوربة من تعسف وقتل للعلماء فيما يسمَّى بالصراع ما بين العلم والكنيسة، والذي نتجَ عنه ما يسمى بالعلمانية خيرٌ دليل على ما ذهبنا إليه قول الكواكبي: ليس من غرضِ المستبدّ أن تتنوّرَ الرعيةُ بالعلم، ولأنَّ للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطانٍ، لذا فإنَّ بين الاستبدادِ والعلمِ حرباً دائمةً، وطراداً مستمراً (9).
مواجهة التحديات الحضارية
إنّ حقيقةَ الأنظمة المستبدّة أنها أنظمةٌ غيرُ شجاعةٍ، ولا تقدر على مواجهة التحديات الحضارية، وأنَّ الاحتلال الخارجي لن يكون منقذاً للشعوب أو داعماً لمنهج الشورى، ولقد أثبتَ التاريخُ في أكثر من حادثةٍ وواقعةٍ أنَّ المستجير من ظلم الحاكمِ إلى المستعمر، كالمستجير من الرمضاء بالنار، والاستبدادُ لا ينتمي إلى الإسلامِ البتةَ، بل إنَّ نقيض الشورى حتماً هو الاستبداد، وهذا الأخير فيه من الصفات والأوصاف ما يعكس خلافَ الشورى في كل صغيرة وكبيرة، وعلى حدِّ توصيف الكواكبي له، يقول: إذا أراد الاستبدادُ أن يحتسبَ وينتسبَ، لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلمُ، وأمي الإساءةُ، وأخي الغدرُ، وأختي المسكنةُ، وعمي الضررُ، وخالي الذلُّ، وابني الفقرُ، وبنتي البطالةُ، ووطني الخرابُ، وعشيرتي الجهالةُ (10).
إن تقدُّمَ الشعوب وقدرتُها على مواجهة التحديات الحضارية يعتمِدُ على نشر العدل، وإعطاء الحقوق السياسية لأفرادها وجماعاتها، بكافة أنواع الحقوق الفردية والجماعية، ولقد عاشت أمتُنا الإسلاميةُ في أوجِ حضارتها وتقدمها، عندما كانت تحافِظُ على هذه الحقوق، وتعطي كلَّ ذي حق حقه، وَهَوْت وسقطت، لما تجاوزتْ تلك الحقوق (11)، فعلى سبيل المثال جاء عصرُ صلاح الدين، الفاتحُ العظيم للقدس ومحررها بعد عصورٍ من الذلة والهوان، والقهر السياسي بين المسلمين وحكامهم، وقبله نور الدين الذي يقول ابن الأثير عن عصره: قد طالعتُ تواريخَ الملوك المتقدّمين من قبل الإسلام ومنه إلى يومنا هذا، فلم أرَ فيه بعدَ الخلفاء الراشدين، وعمرَ بن عبد العزيز ملكاً أحسنَ سيرةً من الملك العادل نور الدين، ولا أكثرَ تحرّياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدلٍ ينشرُه، وجهادٍ يتجهّز له، ومظلمةٍ يزيلُها، وعبادةٍ يقوم بها، وإحسانٍ يوليه، وإنعامٍ يسديه، فلو كان في أمةٍ لافتخرتْ به، فكيف ببيت واحد.
فقد قام الملك العادل نور الدين، والملك الناصر صلاح الدين، والشعوب التي التفت حولهما بمواجهة التحديات الحضارية، ومن أراد التوسع فليراجع كتابيَّ عن نور الدين محمود، وعن صلاح الدين الأيوبي، ففيهما تفاصيل مهمة عن نهضة الأمة، ومقاومتها للمشاريع الغازية.