عاش الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بين المسلمين كخليفةٍ لرسول الله (ص)، فكان لا يترك فرصةً تمرُّ إلا علَّم الناس، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فكانت مواقفه تشعُّ على مَنْ حوله من الرَّعيَّة بالهدى، والإيمان، والأخلاق، فمن هذه المواقف:
أ ـ حلبه للأغنام، والعجوز العمياء، وزيارة أم أيمن:
كان قبل الخلافة يحلب للحيِّ أغنامهم، فلمّا بويع له بالخلافة، قالت جاريةٌ من الحيِّ: الآن لا يحلب لنا (أغنام) دارنا، فسمعها أبو بكرٍ، فقال: لعمري لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه، فكان يحلب لهنَّ، وكنَّ إذا أتينه بأغنامهنَّ يقول:
أَنْضَحُ أم ألبد؟ فإن قالت: انضح؛ باعد الإناء من الضّرع حتى تشتدّ الرغوة، وإن قالت: البد؛ أدناه منه حتى لا تكون له رغوة، فمكث كذلك بالسُّنح ستة أشهر، ثمَّ نزل إلى المدينة.
ففي هذا الخبر بيان شيءٍ من أخلاق أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فهذا تواضعٌ كبيرٌ من رجلٍ كبيرٍ، كبيرٍ في سنِّه، وكبيرٍ في منزلته، وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصاً على ألا تغيِّر الخلافة شيئاً من معاملته للناس، وإن كان ذلك سيأخذ عليه وقتاً هو بحاجة إليه، كما أنَّ هذا العمل يدلُّنا على مقدار تقدير الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأعمال البرِّ، والإحسان، وإن كلَّفتهم الجهد، والوقت.
ب ـ نصحه لامرأةٍ نذرت ألا تحدِّث أحداً:
كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ينهى عن أعمال الجاهليَّة، والابتداع في الدِّين، ويدعو إلى أعمال الإسلام، والتمسُّك بالسُّنَّة، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكرٍ على امرأة من أحمس، يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلَّم، فقال أبو بكرٍ: ما لها لا تتكلَّم ؟ قالوا: نوت حجَّة مصمتةً. فقال لها: تكلَّمي، فإنَّ هذا لا يحلُّ، هذا من عمل الجاهليَّة. قال: فتكلَّمت، فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين. قالت: أيُّ المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أيِّ قريش أنت؟ قال: إنَّك لسؤولٌ، أنا أبو بكرٍ. قالت: يا خليفة رسول الله! ما بقاؤنا على هذا الأمر الصَّالح الذي جاء الله به بعد الجاهليَّة؟ فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمَّتكم. قالت: وما الأئمَّة ؟ قال: أما كان لقومك رؤوسٌ، وأشرافٌ يأمرونهم، فيطيعونهم؟ قالت: بلى! قال: فهم أولئك على الناس.
ج ـ اهتمامه بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبيِّن للناس ما التبس عليهم من الفهم، فعن قيس بن أبي حازمٍ، قال: سمعت أبا بكرٍ الصِّدِّيق يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] إنِّي سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنَّ القوم إذا رأوا المنكر، فلم يُغَيِّروه؛ عمَّهم الله بعقاب».
وفي رواية: يا أيُّها النَّاس! إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها، وإنّا سمعنا النبيَّ (ص) يقول: « إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب».
قال النَّوويُّ: وأمّا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}. فليس مخالفاً لوجوب الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ لأن المذهب الصَّحيح عند المحقِّقين في معنى الآية: أنَّكم إذا فعلتم ما كُلِّفتم به؛ فلا يضرُّكم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فإذا كان كذلك فممّا كُلِّف به الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب؛ فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدّى ما عليه.
وكان رضي الله عنه يحثُّ الناس على الصَّواب، فعن ميمون بن مهران: أنَّ رجلاً سلَّم على أبي بكرٍ، فقال: السلام عليك يا خليفة رسول الله! قال: من بين هؤلاء أجمعين؟ وكان رضي الله عنه يترك السُّنَّة مخافة أن يظنَّ ما لا علم له: أنَّها فريضةٌ أو واجبةٌ، فعن حذيفة بن أسيد ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: رأيت أبا بكرٍ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وما يُضحِّيان مخافة أن يُستنَّ بهما، وفي روايةٍ: كراهية أن يُقتدى بهما، وكان يوصي ابنه عبد الرحمن بحسن المعاملة لجيرانه، فقد قال له ذات يومٍ، وهو يخاصم جاراً له: لا تمار جارك، فإنَّ هذا يبقى، ويذهب الناس.
وكان باراً بوالده، فلمّا اعتمر في رجب سنة اثنتي عشرة من الهجرة؛ دخل مكَّة ضحوةً، فأتى منزله، وأبوه أبو قحافة جالسٌ على باب داره، معه فتيان يحوشهم، فقيل له: هذا ابنك فنهض قائماً، وعجَّل أبو بكر أن ينيخ ناقته، فنزل عنها، وهي قائمةٌ ـ ليقابل أباه في برٍّ وطاعةٍ، وجاء الناس يسلِّمون عليه، فقال أبو قحافة: يا عتيق! هؤلاء الملأ، فأحسن صحبتهم! فقال أبو بكر: يا أبتِ! لا حول ولا قوة إلا بالله، طُوِّقت أمراً عظيماً، لا قدرة لي به، ولا يدان إلا بالله.
وكان يهتمُّ بالصلاة، والخشوع فيها، ويحرص على حسن العبادة، وكان لا يلتفت في صلاته، وكان أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزُّبير، وأخذها ابن الزُّبير من أبي بكرٍ، وأخذها أبو بكرٍ من النبيِّ (ص)، وكان عبد الرزاق يقول: ما رأيت أحداً أحسن صلاةً من ابن جريج.
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: صلَّى أبو بكرٍ بالناس الفجر، فاقترأ البقرة في ركعتيه، فلمّا انصرف؛ قال له عمر: يا خليفة رسول الله! ما انصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت، قال: لو طلعت؛ لم تجدنا غافلين.
وكان يحثُّ الناس على الصبر في المصائب، ويقول لمن مات له أحدٌ: ليس مع العزاء مصيبةٌ، ولا مع الجزع فائدةٌ، الموت أهون ممّا قبله، وأشدُّ مما بعده، اذكروا فَقْدَ رسول الله، تصغر مصيبتكم، وعظَّم الله أجركم.
وعزَّى عمر ـ رضي الله عنه ـ عن طفلٍ أصيب به، فقال: عوَّضك الله منه ما عوَّضه منك، وكان رضي الله عنه يحذِّر الناس البغي، والنَّكث، والمكر، ويقول: ثلاثٌ من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي، والنَّكث، والمكر.
وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله، ومن مواعظه ـ رضي الله عنه ـ: الظُّلمات خمسٌ، والسُّرُج خمس: حب الدنيا ظلمةٌ، والسِّراج له التقوى، والذَّنب ظلمةٌ، والسِّراج له التوبة، والقبر ظلمةٌ، والسِّراج له لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، والآخرة ظلمةٌ، والسِّراج لها العمل الصَّالح، والصِّراط ظلمةٌ، والسِّراج لها اليقين. وكان رضي الله عنه من خلال منبر الجمعة يحثُّ على الصدق، والحياء، ويحثُّ على الاعتبار، والاستعداد للقدوم على الله، ويحذِّر من الغرور.
فعن أوسط بن إسماعيل ـ رحمه الله ـ قال: سمعت أبا بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يخطب بعد وفاة رسول الله بسنة، فقال: قام فينا رسول الله (ص) مقامي هذا عام أول، ثمَّ بكى أبو بكر، ـ وفي رواية: ثمَّ ذرفت عيناه، فلم يستطع من العبرة أن يتكلَّم ـ ثمَّ قال: «أيُّها الناس! اسألوا الله العافية، فإنَّه لم يعط أحدا خيراً من العافية بعد اليقين، وعليكم بالصِّدق فإنَّه مع البرِّ، وهما في الجنَّة، وإيّاكم والكذب، فإنَّه مع الفجور، وهما في النار، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً».
وقال الزُّبير بنُ العوّام ـ رضي الله عنه ـ: إنَّ أبا بكرٍ قال وهو يخطب الناس: يا معشر المسلمين! استحيوا من الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فو الذي نفسي بيده! إنِّي لأظلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعاً بثوبي استحياءً من ربِّي عزَّ وجل.
وعن عبد الله بن حكيمٍ، قال: خطبنا أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فقال: أمّا بعد: فإنِّي أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهلٌ، وأن تخلطوا الرَّغبة بالرَّهبة، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإنَّ الله أثنى على زكريا، وأهل بيته، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ*} [الأنبياء: 90] ثمَّ اعلموا عباد الله: أنَّ الله قد ارتهن بحقِّه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فصدِّقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستوضحوا منه ليوم الظُّلمة، فإنَّما خلقكم للعبادة، ووكَّل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون، ثمَّ اعلموا عباد الله! أنَّكم تغدون، وتروحون في أجلٍ قد غُيِّبَ عنكم علمُه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل لله، فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل أجالكم قبل أن تنقضي أجالكم، فيردَّكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقواماً جعلوا أجالهم لغيرهم، ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا مثلهم. فالوَحا الوَحا، ثمَّ النَّجا النَّجا، فإنَّ وراءكم طلباً حثيثاً مَرُّهُ سريعٌ .
وفي رواية أخرى: أين من تعرفون من إخوانكم، ومن أصحابكم؟! قد وردوا على ما قدَّموا، قدَّموا ما قدَّموا في أيام سلفهم، وحلُّوا فيه بالشَّقوة، والسَّعادة. أين الجبارون الذين بنوا المدائن، وحفَّفوها بالحائط؟! قد صاروا تحت الصَّخر والآبار، أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك؟ وأين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدَّهر، فأصبحوا في ظلمات القبور، لا خير في قولٍ لا يراد به وجه الله، ولا خير في مالٍ لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهلُه حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسبٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرفه عن سوءٍ إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنَّه لا خير بخيرٍ بعده النار، ولا شرَّ بشرٍّ بعده الجنَّة، واعلموا أنَّكم ما أخلفتم لله عزَّ وجل فربَّكم أطعتم، وحقَّكم حفظتم، وأوصيكم بالله لفقركم، وفاقتكم أن تتَّقوه، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تستغفرونه إنَّه كان غفاراً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وهكذا كان الصِّدِّيق يهتمُّ بالمجتمع فيعظ المسلمين، ويحثُّهم على الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. فهذا غيضٌ من فيضٍ، وقليلٌ من كثير