في هذه الزاوية المختصرة لا أريد اشغال القارئ الكريم باستطرادٍ طويل في نقدٍ تفصيليٍّ للمناهج العلمية التخصصية في المدارس والجامعات -وإن كانت هذه المناهج في حقيقتها غالبًا محتاجة لمثل هذا الجهد التخصصي العميق-، فلستُ وصيًّا على تخصصات دقيقة لا علم لي بها ولا اتصال، كما أنَّ غاية الفكرة التي أريد التعريج عليها لا تتعلق بالتخصص الدقيق الذي ينتسب إليه المتعلمون مطلقًا، إنما مقصود المقال هنا مُنصَبٌّ خارج إطار التخصص تمامًا، ومسلطٌ على زوايا حياتية أخرى مركزية وبالغة الأهمية في حياة الفرد عمومًا والطالب الجامعي على وجه الخصوص، ويجدر بالعالمين في حقول المعرفة والتربية والتعليم العناية بها، ومنحها قدرًا من الجهد، ما دامت بهذا القدر من الأهمية في حياة الأفراد والمجتمعات.
تحت هذا العنوان الجوهري "صيانة المناهج الجامعية" أريد القول باختصار: إنَّ المناهج الأكاديمية والمقررات الجامعية التي نعتمد عليها في مختلف مؤسساتنا الجامعية والتعليمة لا تكفي الشاب المعاصر -ذكرًا كان أو أنثى- فهمًا للحياة، ولا تمنحه القدرة والمهارة الكافية في حسن إدارتها! وبالتالي فليس من المنطقي الاكتفاء بها والركون إليها، وليس من الغريب أن ترى خريج الجامعة -في تخصصات علمية متنوعة- يُفَكِّرُ بطريقة بدائية عشوائية، وفي محطات حياتية هي غاية في المركزية من مسيرة الإنسان، ثم لا يأبه بالخسائر الكبيرة التي تنتج عقب هذه التفاعلات والانفعالات الفكرية والعقلية غير الرشيدة وغير المتوازنة في قاموس الحياة الإنساني المنظم.
ثم إنَّه لمن المؤسف حقًا أن تكون المناهج التربوية والتعليمية في مدارسنا وجامعاتنا مصاغة في كثير من الأحيان على شكل قوالب صلبة! ولبنات متحجرة! ومقاسات ضيقة! بعيدةً عن واقع الفرد وحياته العملية، ثم تُعطى للمتعلمين من الطلبة تلقينًا وحشوًا، يفوز بهذا التلقين آخر المطاف من أسرع إلى حفظها، واستطاع ضمَّها إلى مساحة الذاكرة العقلية، حتى ولو دون وعي أو فهم عميق لماهيتها!
وهي بالتأكيد مواد مُعَدَّة ومطبوخة مُسبقًا، دون أدنى مشاركة أو حضور للطالب فيها، ولمجمل هذه المسيرة المغلقة والحتمية فالمناهج في العادة لا تُنمِّي مهارة التفكير والاستنتاج عند المتعلمين، وغالبًا لا يجدُ الطالب المتلقي في هذه المناهج ربطًا واضحًا مع الواقع العمليِّ الذي يعيشه، فتبقى مجرد معلوماتٍ ذهنيةٍ على رفوف الذاكرة، يحفظها ليؤديها وقت الامتحان، ثم ينساها تدريجيًا بعد تخرجه من عالم الجامعة وانغماسه في فضاء الحياة العملية الجادة.
والذي يهمني هنا وهو الضروري كما أراه، حاجة المناهج التعليمية إلى المفردات والمقررات التي تُعنى بحياة الشباب العملية، والتي تعين المتعلم على فهم نفسه وموقعه وفهم الحياة من حوله بصورة أفضل، وتؤهله للخوض في بحارها بعلم وأمن، نعم حاجتنا مُلحة للمعارف التي تُلامس واقع الشباب وشؤونهم ومشكلاتهم، محتاجون إلى المقررات التي تُعَرِّف الشباب بالحياة فقهًا وعلمًا وفكرًا ومنهجًا وفاعلية، ومثل هذه الأفكار الحَيَّة والمنتجة غائبةٌ تمامًا عن مناهجنا الجامعية، مع عظيم الحاجة إليها، ومع كبير أثرها في نمو المجتمع وتطوره بفاعلية أفراده وأبنائه. ولأجل هذه الغاية المنشودة، وهي بث الروح من جديد في مقرراتنا الجامعية، وإعادة الحياة إلى مناهجنا الأكاديمية، فإنني أقترح على المؤسسات الجامعية خمسة مقررات منهجية، تضاف إلى مفردات المنهج الجامعي المقرر، وأزعم أنها تعود بالنفع المباشر على حياة الشباب في مختلف مجالات الحياة، وبالضرورة على حياة المجتمع كاملًا. وألخص للقارئ الكريم هذه المقررات المقترحة بالتالي:
المقرر الأول: حياة الشباب
ما المانع مثلًا من أن تُقرَّر مادةٌ في المنهج الجامعيِّ تُعنى بحياة الشباب وكلِّ وما يتعلق بهم؟ آمالهم وأحلامهم! أهدافهم وطموحاتهم! مشاريعهم وأفكارهم! إنجازاتهم ومواهبهم! مادة منهجية تعنى حقيقةً بحياة الشباب العامة والخاصة! نسميها مثلًا "حياة الشباب"، أو "الشباب والحياة"، أو "فضاء الشباب"، أو "جيل المستقبل"، أو "بناء الأجيال"، أو "تنمية الشباب"، أو غير ذلك من الأسماء اللطيفة والأنيقة، التي تجذب القلوب والنفوس وتستهويها، وتفجر طاقاتها وكوامنها، فتناقش هذه المادة على سبيل التمثيل لا الحصر:
مشاريع الشباب: وفي ذلك تُعرَضُ أفكار الشباب الإبداعية، ومشاريعهم العلمية التخصصية أو الثقافية أو الاجتماعية، أفكارهم التي يقترحونها بأنفسهم من دون تلقين، وتُعَدُّ من قِبلهم ومن نتاج عقولهم، ثم تُدرَسُ هذه المشاريع والأفكار وتُقَوَّمُ من لجان متخصصة؛ لأجل النقد والترشيد، أو التعديل أو التنفيذ. كما ويمكن أن تُطرح عليهم بعض المشاريع والمبادرات الناضجة ليتبنوها في حياتهم العملية، ويؤسسون لها كيَّانًا مستقلًا وصرحًا ذا أثر في مجتمعهم.
مشكلات الشباب: تُناقِشُ هذه الزاوية أهمَّ المشكلات العصرية التي تواجه الشباب في حياتهم، في البيت والأسرة، أو في المدرسة والجامعة، أو في العمل والشارع، أو في المجتمع عمومًا. ويمكن أن تناقش هذه المفردة قضايا مهمة تتعلق بنمو الإنسان وتحولاته؛ ليتعرف على نفسه، ويقف بوضوح على طريقة مسيرته في هذه الحياة، ويفهم بعمق التغيرات التي تواجهه في حياته الشخصية والعامة.
شخصية الشباب: تَفتحُ هذه المحطة الباب أمام ملف تنمية شخصية الشباب، والارتقاء بأذواقهم واهتماماتهم وسبل تنظيمها وتهذيبها وتطويرها والسمو بها، مع التعرف على النافع الجيد وتعزيزه، وفرز الضارِّ السيء وتطويقه من العادات والسلوكيات العامة. فنحنُ اليوم نطارد الطالب الجامعي حول الزيِّ الموحد، ونتابعه من الابتعاد عن المظهر المخلِّ بالذوق، لكن أليس حريًا بنا أن نعلمه الذوق وقوانينه قبل ان نحاسبه على الزِّي والهندام الذي نريده.
أهداف الشباب: وهذه نافذة أخرى مهمةٌ للإنسان عمومًا، وللشباب على وجه الخصوص، ففي هذه الصفحة الكبيرة يمكن أن تُرسم الأهداف الرائدة، وهنا تحدد وتُوَجَّه وتُرَشَّد، ومن فضاء هذا المقرر يتم تشكيلها بوضوح، مع إيجاد خطة عملٍ مُحكَمةٍ لهذه الأهداف من أجل تنفيذها في مختلف نواحي الحياة، مع توجيه جهود الشباب وطاقاتهم نحو تحقيقها على الوجه الأمثل والأكمل.
ثقافة الشباب: تبحث هذه المفردة في آليات تكوين الثقافة الآمنة عند الجيل الشاب، وتعرفهم بأبواب الثقافة المنظمة ومصادرها ومتطلباتها وطرق اكتسابها، لتفتق لهم آفاق الثقافة من جهات مختلفة: علميًّا وتربويًّا ومهاريًّا، وتركز على تأهيل ثقافة الشاب ذكرًا وأنثى للحياة بعلم وفاعلية وانتظام.
يقول الأستاذ أحمد أمين في كتابه "إلى ولدي": "آسف إذ أرى مدارسكم وجامعاتكم تعنى بالعقل فتضع له المناهج الطويلة العريضة في مختلف العلوم، وتمعن في الإجرام فتقلب الآداب والفنون إلى علوم عقلية، أو نظريات فلسفية، وتعنى بالجسم فتنظم له الألعاب الرياضية وتقيم له مباريات السباق وكرة القدم ورفع الأثقال، ثم لا تقيم وزنًا ولا تضع منهجًا للذوق وتربيته، وهو الأحق بالعناية والأجدر بالرعاية، فإن قصرت مدارسك وجامعتك في ذلك فتول أنت تربية ذوقك بنفسك، ووجه إليه كل همتك، فما الحياة بلا ذوق؟! وما الدنيا بلا جمال؟!". ص15
في مثل هذه المقررات الحيوية يُتاحُ للمربين استنهاض همم الطلبة الشباب واستثارة عقولهم وتكليفهم بابتكار مشاريع منظمة من أفكارهم ومن زفرات عقولهم، فتعينهم هذه النتائج الحية على التفكير والعطاء واستدامة حركة الإبداع، ومن المناسب أن تُعرض هذه المشاريع على مختصين في مجالات متعددة، وتُدعم الأفكار المميزة منها والصالحة للتطبيق والتفعيل، لنرى عيانًا عُصارة العقول الحية ماذا تُنتج، وتستمتع المجتمعات المتلهفة بثمارٍ يانعة زاكية هي من غرس أبنائها ومن حصاد جهودهم.
إنَّ الله تعالى بحكمته وعدله قد منح البشر مواهب وطاقاتٍ لا حدود لها، تغيب عن العيان في كثير من الأحيان، حين لا نجتهد في التنقيب عنها، وتتلاشى بالإهمال والخمول والخلد إلى اللهو والعبث، فنحن نكتشفُ كلَّ يوم أنَّ أحد الشباب خطاطٌ ماهر، والآخر رسّام بالفطرة، وآخر له صوت نديٌّ بالقرآن أو الإنشاد، ومنهم مَن له مهارات خطابية جبارة، وآخر مؤهل لصياغة الشعر أو لكتابة القصة أو الرواية، وآخر لميدان الإعلام، إلى آخر المواهب والطاقات التي لا تنتهي ولا تفنى بفضل الله، فلماذا لا نتلمس تلك الطاقات ونكتشفها ونستثمرها من وقتٍ مبكر، وفي الميدان الجدير باكتشاف هذه المواهب والإبداعات المندثرة؟!
إنَّ مجموعة الآمال والأحلام، والطموحات العملاقة والهمم العالية التي تتفجر في صدور وعقول الجيل الشابّ دون استثمار أو توجيه أو رعاية هي في الحقيقة ثروات مهدورة، وكنوز مهجورة، وغنائم مهملة.
وهي حجة على المربين والتربويين والمتصدرين للقيادة في نفس الوقت، في الأُسر والمساجد، وفي المدارس والجامعات، وفي الدوائر والمؤسسات العامة، إن لم تكن في حقيقتها عقوبة في حقهم! يُعاقَبون عليها بمزيد من الوهن والعجز والتخلف وتردي أحوال المجتمعات المتعطشة إلى مثل هذه الإبداعات والثروات الكامنة لبناء نهضتها.
وواجبنا اليوم معاشر التربويين في مختلف الميادين تأهيلُ الجيل الشابِّ بالصورة المتكاملة المنظمة، ومن كل النواحي والجهات؛ ليكون الشابُّ فردًا نافعًا على الحقيقة في الحياة، منتجًا في أي محطة يكون فيها في مجتمعه ووطنه. لذلك يقول د. عبدالكريم بكار في كتابه "بناء الأجيال": "إن طلابنا يملكون كثيرًا من الرؤى والأفكار الجميلة، لكن لأننا مشغولون جدا بشرح المناهج والمقررات، فإننا لا نتيح لهم الفرصة لإظهار ما لديهم، ويكون مصير تلك الأفكار –والتي قد تكون حيوية- إما الذبول والضمور، وإما الانحراف والاعوجاج". ص29.
المقرر الثاني: فقه الحياة
من الضروري أن نؤمن جميعًا بأنَّ فقه الحياة وفهمها، والسياحة في فضاءاتها بطريقة آمنة أوسع من مجرد تخصص علميٍّ نتعلمه ونُمارسه، أكبر من مجرد محفوظات وقوانين ومعادلات منهجية نتقنها ونؤديها في الامتحانات والاختبارات، كما أنَّ فقه الحياة أنفع للأجيال الناشئة من كثير من المفردات والمقررات التي هي مثابة الحشو في مناهجهم الجامعية، لذلك أرى من الضروري عرض مجموعة من أسرار الحياة في مادة جامعية نسميها "فقه الحياة".
تتناول هذه المادة قضايا تتعلق بأسرار خلق الإنسان، وسرِّ وجوده في هذه الحياة، وواجبه فيها، وتُفَصِّلُ القول في علاقة الحياة الدنيا بالدار الآخرة، والقيم الإنسانية العليا التي يتطلب من الفرد حفظها وتمثلها والإيمان بها، وتوضيح رؤية ديننا في مثل هذه القضايا، ونظرة الديانات الأخرى للحياة.
لتتشكل عند أجيال الأمة صورة واضحة عن الحياة ووجودنا فيها، ويتضح تَميز شريعتنا في الإجابة عن كلِّ هذه الأفكار والأسرار.
وكلُّ ذلك ينبغي أن يكون مبنيًا على فلسفة صحيحة واضحة ومُيَسَّرة، مسنودة بالحجج والبراهين، والشواهد والتطبيقات، فالإجابة عن قضايا كثيرة في أذهان الشباب متعلقة بالحياة والكون والمصير والواجب غايةُ في الأهمية للشابِّ المتعلم في هذه المراحل الحياتية.
وفي مثل هذه المادة يمكن تضمين المقرر مفاهيم تتعلق بعلاقة الإنسان ببني جنسه، ومجموعة من مهارات العلاقات الزوجية وبناء الحياة الأسرية، إلى غير ذلك من المباحث المركزية التي يمكن أن تحتملها مفردة "فقه الحياة".
المقرر الثالث: قيم المهنة
نعترف جميعًا بأنَّ لكل صنعة في الحياة آداب تُميزها من غيرها، وسمات خاصة تمنحها اللمعان والرقي والإتقان، ولها أيضًا مجموعة من الضوابط والأخلاقيات والنُظم التي تجعلها مهنةً سامية بعيدة عن الشذوذ والانحطاط والانحرافات المهنية، متصفة بالذوق الرفيع والخلق القويم، ملتزمة بالفطرة السليمة ومبادئ الإنسانية وقواعد الدين الحنيف، هذه السمات هي زيادةٌ على الآداب والقيم العامة التي تشترك فيها كلُّ المهن والوظائف في هذه الحياة، كالأمانة والصدق والإخلاص وغيرها.
فللمهنة -مهما قلَّ شأنها- مجموعةٌ من القِيم والأخلاقيات لا بد من إدراكها والإيمان بها والتحلي بها قبل ممارستها، وعندما تكون تربويًا ومعلمًا، مربيًا وأستاذًا، لزامًا عليك إدراك واجبك تجاه هذه التخصصات الحياتية المختلفة، ومن الضروري معرفة واجبك الإلزامي بناء تلك الأفكار والقيم في عقلك وفي أذهان المتعلمين الذين هم في طور التأهيل والبناء.
إذا كان هذا واردًا فما الذي يمنع من أن تستحدث مناهجنا الجامعية مادة نسميها "قيم المهنة" مثلًا أو "أخلاقيات التخصص"؟! لتكون دليلًا أخلاقيًا للأجيال المتخرجة في حياتهم المهنية.
وذلك عند ممارسة تخصصاتهم وتأدية واجبهم الذي تدرَّبوا عليه طيلة حياتهم الجامعية. وفي تقديري أنَّ ذلك ممكن في مختلف التخصصات: الطبية والهندسية والشرعية والتربوية والإدارية والتجارية والإعلامية وغيرها. وأعتقد بأننا محتاجون إلى مادةٍ منهجية تناسب روح التخصص وترصد مجموعة القيم التي هي من ضروريات العمل، يقوم على تأليفها وجمع مادتها المتخصصون في كل فن.
إنَّ الكتلة الأهم! والمنظومة الأجدر بالعناية التي ينبغي تحميلها للطالب الجامعي، والعمل الدؤوب على تحصينها وصيانتها وتقديمها في كل وقت هي منظومة القِيم وكتلة المبادئ العُليا، فهي الأهم بلا شك. وتقديمها على المعلومات والمعارف العقلية المحضة هو الواجب؛ لما لها من الآثار المستقبلية في بناء المجتمع وتأمين جبهاته المهنية.
المقرر الرابع: إدارة التفكير
مادة وكتاب في "الفكر" أو "إدارة التفكير" أو "آلية التفكير السليم" كمقرر منهجي مساعد في المناهج الدراسية الجامعية أعدُّهُ ضرورةً مُلِحّةً لأجيالنا اليوم خصوصًا، مع شدة زحام الأفكار والمعلومات والصور والمشاهد الصحية والمزورة التي يستقبلها العقل البشري كل ساعة؛ وذلك لإعادة بناء منظومة التفكير عند الجيل الشاب من جديد، وهيكلته بصورة منظمة. نعم أعتقد بأنها ضرورة جادة فعلًا.
نحن في كثير من الأحيان لا نفكر بطريقة سليمة! حتى المتعلمون منا! أو كثير منهم بتعبير أدق يفكر بطريقة غير سوية، معوجة! أو متناقضة! أو مضطربة! ويتفاعل بطريقة خاطئة مع مجمل الأفكار والأحداث، فقط لأننا لم نتعلم أصول التفكير المنطقي السليم في حياتنا، ولم نتدرب على منهجية واضحة في إدارة التفكير، فمن الطبيعي أن نتعثر في هذا الميدان، والمناهج المدرسية والجامعية لا تملك نقيرًا ولا قطميرًا من المعلومات حول هذا الباب؛ لذلك نُحاكم الأفكار بآليات غير منطقية غالبًا، ونعيش بالسطحية وسلطة العادات والقوالب الجاهزة في تسيير كثير من أفكارنا ومناهجنا في الفهم.
أنا منذ سنين أُدَرِّسُ المراحل الجامعية المختلفة، وأتعايش مع هذه العقول بطريقة متكررة وشبه يومية، وأشعر دائمًا بأن آلية تفكير كثير من طلابنا غير منضبطة، وتشبه طريقة تفكير الفرد الأمي الذي يسكن القرية أو المدينة الشعبية المنعزلة، يتعلم طريقة تفكيره ويبني رؤيته عن الحياة وفق مفاهيم البيئة وثقافتها فحسب! ومن التجربة الحياتية لا غير، لا أشعر بوجود نمو حقيقي في عقل الطالب فيما يتعلق بإدارة التفكير! مع أنه قطع شوطًا طويلًا من التعليم، بدءً من الابتدائية ثم الثانوية ثم الجامعة، وهذا لا يعني عدم وجود أفراد مميزين بين الطلاب، ينتهجون سُبلًا منظمة وناضجة في التفكير، لكن الأمر متعلق بالغالب، وهذا يعني أننا نُخرِّج أجيالًا متتابعة بنفس الأمية الفكرية، وبالتالي لا جديد في بناء المجتمع وتطويره من هذه الزاوية.
أعتقد أننا اليوم نحتاج إلى الاستقرار الفكري والانتظام المنهجي في آلية التفكير أكثر من حاجتنا إلى الاستزادة من الخزين المعلوماتي المحض، مع إدراكي لعظيم الحاجة إلى النمو المعرفي والكم المعلوماتي في التخصصات المختلفة للبناء عليها والوصول إلى نتائج أفضل في كل تخصص، لكن يبقى استقرار الفكر ومسيرته بطريقة منتظمة ومنطقية هو الأهم في إدارة الحياة من حيث العموم.
إن سعة مخزون الذاكرة قد يؤدي إلى الجمود الفكري أحيانًا! وقد تستغرب من هذه الفكرة! وذلك لأن الذاكرة بطبيعتها تُحب الركود وتقاوم الحذف والتلاعب، وبهذا تحمل الفرد على الاعتماد عليها في التفكير، باسترجاع المعلومات المخزَّنة والقوالب الجاهزة والاكتفاء بأحكامها وقواعدها بدل السعي إلى العمق في الفهم والتحليل والربط والتفريع الذي فيه إجهاد للعقل وعناء.
إذًا نحن محتاجون بالفعل لتملك هذا النوع من الخبرات، ولو أبجديات المعلومات حوله ليستقيم تفكيرنا، ليس تخصصًا! ولا مهنة! ولا وظيفة! الأمر متعلق بفهم حركة التفكير وطبيعة إدارة العلاقة مع أحداث الحياة بكل التفاصيل، وأتمنى أن تُدرج هذه الفكرة وتجد لها مساحة ضمن المقررات الجامعية في مؤسساتنا التعليمية، بدل أن ندرسهم منطق أرسطو! "الإنسان حيوان ناطق"! فإننا نعاني من شحة في التفكير المنطقي السليم.
المقرر الخامس: الثقافة الصحية
صحة الإنسان العامة هي في العادة منطلق لفاعليته الاجتماعية، ووقود لقابليته على الإنتاج والإنجاز، ومن خلال حرصه الدائم على سلامتها وحمايتها بوعي وعلم يمكنه استثمار مواهبه المتقدة وإطلاق إبداعاته في الحياة، وقد أضحت الثقافة الصحية العامة –في حدها الأدنى- من لوازم المعارف لكل فرد من أبناء المجتمع، ومن ضروريات بناء المجتمعات الواعية والمثالية.
وتُعَرَّف الثقافة الصحية بأنها "مجموعة من الوسائل والإجراءات التوعوية المنظمة الموجهة لأفراد المجتمع؛ لتكوين قوة تأثيرية داعمة تعزز من النظرة المجتمعية للقضايا والممارسات الصحية، وتغير الأفكار والمعلومات الخاطئة المتبناة لدى البعض، وتتحول هذه الأفكار بعد ذلك إلى سلوكيات، وهذا الأمر الذي يُحَسِّنُ من الأوضاع الصحية المجتمعية بشكل عام".
وعلى هذا أقول: ألا يمكن أن تكون "الثقافة الصحية" مقررًا دراسيًا في مدارسنا وجامعاتنا؟! لتعزز من ثقافة المجتمع وتحقق أمنه الصحي العام.
الصحة العامة هي ثقافة ومفاهيم وتصورات يتعلمها الفرد ويؤمن بها أولًا، ثم سلوك عملي في الحياة، وما لم نتملك تلك الثقافة ونؤمن بها من أعماقنا سنعاني مشكلات كثيرة في أوطاننا، وستتراكم في مجتمعاتنا المشكلات الصحية، والعادات السلبية، وتستشري الأمراض والأوبئة، وتستنزف المجتمع اقتصاديًا وصحيًا وحضاريًا.
لا نشك في أنَّ الأسرة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تنمية هذه الثقافة في عقول الأبناء والأطفال، بتقرير المفاهيم وتوثيقها عن طريق التعليم والتدريب والممارسة والقدوة، لكنَّ هذه المسؤولية تبقى محدودة الأثر في ظل أمية المجتمع صحيًا.
ونحن لا نبالغ إن قلنا: إن المجتمع أميٌّ تجاه العادات الصحية العلمية، ومن يملك المعلومة قد لا يمارسها عمليًا في أحيانٍ كثيرة، لعدم تثبيت قاعدة ثقافية عامة للصحة، والقصور في تأسيس البنى التحتية للعادات الصحية عند الأجيال من أبناء المجتمع.
تأسيسًا على هذا فإننا بحاجة ماسة إلى جهود البرامج المنظمة في مختلف المؤسسات التعليمية؛ لدعم هذه الثقافة بطريقة علمية وعملية في المدارس الابتدائية والثانوية وفي الجامعة، بل حتى في رياض الأطفال، ويكون ذلك على شكل مقررات دراسية وبرامج وفعاليات عملية، تُركِّز هذه الثقافة في الأذهان، وتترجمها في الواقع الذي يعيشه الناشئ، فمجتمعاتنا تحتاج أصول الوعي حول: ( النظافة والصحة، والتغذية الصحية، والرياضة الصحة، وثقافة التعامل مع الأطباء والاستشارات الطبية والمستشفيات والمراكز الصحية، والإسعافات الأولية، والتعامل مع الأمراض والأوبئة والكوارث العامة وسبل الوقاية منها، وحقوق الفرد الصحية وواجباته، وعادات صحية متنوعة من هذا القبيل).
وكل هذه المباحث التي مرَّت الإشارة إليها -المتعلقة بالوعي الصحي- تفتقر إلى مقررات علمية تناسب الأعمار والمراحل الدراسية، وتفتقر إلى البرامج الواقعية التي يُؤْمِن بها المجتمع ويمارسها، ومن واجب المختصين إحداث مثل هذه النقلات الثقافية في بنية المجتمع، وتسويقها بطرق مختلفة لنُحقق "الثقافة الصحية" التي نرجوها.. وننعم جميعًا بما يترتب على ذلك من مكاسب كبيرة للفرد والأسرة والمجتمع.