إن لكل أمة من الأمم مجموعة من المبادئ التي تحكم المسارات العامة في حياتها، كما أن أحداث الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، وتفاوت البنى والمصالح الاجتماعية كل أولئك يفرض عددا من المشكلات التي تتطلب حلولا مناسبة. ولا بد حتى يتم تحقيق المبادئ من توظيفها في أشكال من النظم الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية، وإلا ظلت عبارة عن شعارات ومقولات هلامية ضعيفة الفاعلية في حياة الناس قابلة للتأويل والتجاوز.
إن المبادئ تمثل الروح التي تسري في النظم، كما يسري الماء في العود الأخضر؛ وإذا ما ذر لتلك المبادئ أن تخبو، وتفقد قدرتها على الجذب صارت النظم الإدارية عبارة عن هیاکل فارغة جافّة، تستغل لصالح الموظفين القائمين عليها بدل أن تستخدم في النفع العام.
وأخطر عنصر من عناصر العملية الإدارية هو الإنسان؛ فالإنسان هو الذي يقوم بتفصيل الأنظمة التي تترجم الأهداف إلى سياسات، ثم يصب تلك السياسات في برامج محددة، ليتم تحقيقها في حياة الناس لخدمتهم وصلاح شؤونهم، والإنسان هو الذي يقوم بتنفيذ تلك البرامج، كما يقوم بتطوير النظم، وتقويم أدائها؛ ومن ثم فإن الإنسان الذي ينبغي أن يفعل كل ذلك هو الإنسان الذي يتسم بسمتين: القوة والأمانة، كما قالت بنت شعيب لأبيها: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [سورة القصص/27]، والقوة تعني الكفاءة والقدرة والفاعلية وتجويد الأداء، أما الأمانة فتعني الإخلاص والصدق والاستقامة والنزاهة والحرص على خدمة المسلمين والعمل الصالح..
وإذا كانت القوة تعني تحقيق المبادئ وتنفيذ البرامج عبر النظم المقننة، فإنّ الأمانة تعني سد الفجوات التنظيمية التي تتركها التنظيمات باندفاع من وحي المبادئ والأهداف التي قامت تلك النظم لتحقيقها؛ كما أن الأمانة تعني مرة أخرى عدم استغلال تلك الأنظمة بما فيها من حرفية في تعویق مصالح الناس وإضاعة حقوقهم، أو جلب مصالح خاصة من خلالها.
إن الفساد الإداري وانخفاض فاعلية النظم الإدارية أدواء عالمية تعاني منها الدول المتقدمة والنامية، لكن معاناة الدول المتخلفة أشد!
حيث يخفف من إفرازاته في الدول المتقدمة الجوانب القوية والإيجابية في الحياة العامة التي تمور بالحركة؛ وحيث استطاعوا بلورة بعض الآليات التي تحجم منه بالإضافة إلى الوفرة التي يعيشون فيها، والتي تساعد على استقامة بعض جوانب السلوك... أما في مجتمعاتنا فإن فساد النظم الإدارية أو ضعف أدائها سوف يعني مضاعفة معاناة الناس اليومية، كما يعني مزيدا من التفسخ الاجتماعي والركود الحضاري.
من مظاهر التخلف الإداري
لا بد من القول: إن أكثر الدول الإسلامية خرجت منذ فترة قصيرة نسبيا من مرحلة الاستعمار البغيض، وتلك المرحلة تطاولت إلى أكثر من قرنين في بعض الدول الإسلامية. وكانت الأجهزة الإدارية في العالم الإسلامي إبان مرحلة الاستعمار قد رُتبت على شكل يخدم المصالح الاستعمارية قبل كل شيء؛ وحين خرج الاستعمار ظل في كثير من تلك الوظائف الأشخاص الذين خدموا الاستعمار، ونفذوا خططه، ولم يكن في البلاد من الطاقات البشرية المدربة ما يمكن إحلاله محل الأجهزة القديمة. ويضاف إلى هذا أن كثيرا من التقاليد والأعراف الإدارية ظلت تسود من أيام الاستعمار إلى يوم الناس هذا.
ويمكن أن نجمل أهم مظاهر التخلف الإداري، مع تفاوت حدّتها بين دولة وأخرى- على النحو الآتي:
النظم الإدارية مجموعة ظواهر مشتتة!
1- إن الإدارة في الدول المتقدمة نالت نوعا من الاستقرار النسبي، فسادت فيها أنماط معينة تنصب في نموذج معين محدد لكل مجتمع. أما عندنا فإن كثيرا من البلدان الإسلامية تسود فيها أنظمة إدارية خليط من دول شتی؛ كلما ذهب موفَد إلى بلد من بلدان الشرق أو الغرب جاء ببعض الأفكار الإدارية التي يرى فيها الصلاح والإصلاح؛ فصارت النظم الإدارية لدينا عبارة عن ثوب ضم سبعين رقعة؛ وأصبحت عبارة عن مجموعة من الظواهر الإدارية المشتتة حيث لم يمكن صبها في نماذج محددة ومتجانسة؛ مع أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تتمحور حول نفس أولية متميزة؛ كما أن لكل دولة ظروفها وأهدافها، وهذا الوضع أدى إلى نوع من التداخل والتقاطع والتصادم بين كثير من الأنظمة مع أن خصوصيات الثقافة والظروف والأهداف تتطلب نموذجا للنظم الإدارية يستجيب لتلك الخصوصيات، ويلبي حاجتها.
تفكيك أوصال الإنتاج وتصادم الأنظمة الإدارية
2- إن الأنظمة الإدارية السائدة في أكثر الدول الإسلامية أنظمة مصممة لتقديم الخدمات للمواطنين، وبالتالي فإنها -في أكثر الأمر- لیست صالحة لأن تكون أوعية تنظيمية للتنمية الشاملة المعنوية والمادية، وكان الحل يكمن في تغيير تلك الأنظمة، وإعداد طاقاتها البشرية إعدادًا جديدًا بما يتناسب مع التخطيط التنموي الشامل، لكن الذي حدث هو إقامة مؤسسات خاصة جديدة. كهيئات الاستثمار مثلا. ذات أنظمة خاصة إلى جوار ما هو سائد من أجهزة وأنظمة إدارية، وكانت النتيجة تفكيك أوصال العملية الإنتاجية والحضارية، وإيجاد التصادم بينها، وإعطاء الانطباع عن التمايز بين أنظمة الدولة الواحدة.
التكديس والندرة.. وتعطيل مصالح الناس
3- في كثير من الأحيان يكون هناك خلل في توزيع الموظفين، فيتكدسون في بعض الدوائر، فيكون ذلك تعطيلا لطاقات يمكن أن يستفاد منها في بعض الحالات، ويندرون في مجالات أخرى؛ فيؤدي ذلك إلى تعطيل مصالح الناس وتبديد أوقاتهم، كما يفتح بابا للرشوة عريض؛ وأذكر أن طلاب الجامعات كانوا يبيتون على أبواب إحدى الدوائر الحكومية في إحدى الدول العربية حتى يتسنى لهم تصديق وثيقة في اليوم التالي!! ونحن إلى هذه اللحظة لم نبحث بشكل جاد الأخلاق الرديئة والسلوكات الملتوية التي يفرزها الزحام وندرة الخدمات المقدمة للناس.
قلة الرواتب وأثرها على الإنتاجيّة
4. الرواتب في أكثر دول العالم الإسلامي لا تكفي للقيام بالحاجات الأساسية للعمال والموظفين. وهذا الوضع أفرز ظواهرا عديدة تُعدّ في منتهی السوء، منها الرشوة، وعدم حضور الموظفين إلى دوائرهم إلا في أوقات متأخرة، وانصرافهم في وقت مبكر، حيث صار العمل الثاني خارج الدوام مصدر رزقه، وموضع اهتمامه وتفكيره.
إن من حق الدولة على الموظف أن تنتفع بوقته وجهده وخبرته وفكره وإبداعه، وإن من حق الموظف والعامل عليها أن تؤمن له حاجاته الأساسية والضرورية وبعض الكماليات مما يفرغ باله من هموم المعيشة، ويحفظ عليه کرامته الإنسانية.
وإلى هذا وردت الإشارة في الحديث الشريف: "من كانَ لنا عاملًا فليَكتسب زوجةً فإن لم يَكن لَهُ خادمٌ فليَكتسِبْ خادمًا فإن لم يَكن لَهُ مسْكنٌ فليَكتسب مَسْكنًا"[1]، وليس المراد من الحديث -والله أعلم- التحديد، وإنما الإشارة إلى حصول الكفاية التي تجاوز الضرورات إلى شيء من المرفهات وذلك معتبر بحالة العصر.
وقد أجريت دراستان في دولتين عربيتين، فتبين من إحداهما أن متوسط العطاء للموظف الرسمي خلال الدوام اليومي هو: 30 دقيقة، وكان متوسط العطاء في الثانية 28 دقيقة!
الرتابة وبطء الإنجاز
5 - يشكو الناس في العالم الإسلامي، والعالم النامي عامة من الرتابة (الروتين) وبطء الإنجاز للمعاملات والإنجازات الحضارية عامة؛ مما دعا كثيرا من الناس إلى السكوت عن حقوقهم؛ لما يكلفه الحصول عليها من الوقت والمال؛ وأعرف شقيقين اختلفا في قسمة ماء للسقي، فرفعا الأمر إلى إحدى المحاكم، وظلا في حالة مرافعة ومقاضاة لمدة تزيد على 43 عاما ، ثم توفي الرجلان، وظلت المشكلة معلقة لتبدأ دورة جديدة مع الورثة!
من الأسباب الجوهرية للرتابة وكثرة التعقيد والإجراءات التي لا يريد الناس بحثها -لأنها تعود إليهم- ما تفشى في الناس من محاولات الخروج على الأنظمة والتحايل عليها واستغلال الفجوات التي فيها من أجل مصالح
شخصية ، فأدى ذلك إلى تعقيد الأنظمة وكثرة الإجراءات وحصر الصلاحيات التنفيذية في أشخاص محدودين. وقد أشار إلى هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بقوله: "يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يحدثون من الفجور".
ولا يعني هذا أنه لا توجد أسباب أخرى؛ فالإهمال وعدم الاهتمام والتمسك بحرفية النظام في بعض الأحيان، وجمود الأنظمة وعدم تطويرها وضعف الخلق الإداري والمركزية الشديدة. كل ذلك عوامل تؤدي في النهاية إلى عدم كفاءة الأنظمة الإدارية ليواكب ذلك باقي جوانب الركود الحضاري الذي نعاني منه.
داء الإسراف والتبذير
6- سری داء الإسراف والتبذير في أوضاع كثيرة من الدوائر والمؤسسات والمشروعات الحكومية في عالمنا الإسلامي؛ فأهم شيء لدى الموظف أثاث فخم لغرفته، وسيارة فارهة يمتطيها، وهو يعد الحصول على ذلك نصرا مبينا، والحفلات التي تقام بمناسبات عدة تتعلق بالمشروعات وأشياء أخرى كثيرة تنفق عليها أموال طائلة؛ مما جعل تكلفة الخدمات المقدمة للناس وتكلفة المشروعات الإنتاجية عالية جدا. ويكون ذلك على حساب توسيع مجالات الخدمة، كما يجعل السلع المنتجة غير قادرة على المنافسة، وفي الوقت نفسه نجد الدوائر الحكومية والجامعات ومراكز التدريب والبحث العلمي لا تتمكن من الحصول على أشياء كثيرة مهمة کالحاسب الآلي وآلات التصوير والمراجع والدوريات والورش وما تحتاجه الدراسات الميدانية من إمكانات مختلفة، تعد مهمة جدا لقيام تلك الجهات بمهامها، وهذا كله مع أن ديننا يدفعنا دفعًا إلى الحرص على الجوهر لا المظهر، والاقتصاد في النفقات بغية احتلال المواقع المنافسة في شتى المجالات. [2]