إن يوم عاشوراء يوم من أيام الله، ثبتت النصوص الشرعية لزوم ذكراه بالصيام والطاعة والعبادة، ضمن المنهج التربوي الإسلامي القائم على تكرار مناسبات الذكرى في اليوم والليلة، وفي الأسبوع، وفي مرات عديدة في السنة، حتى تبقى صلة المؤمن بالله دائمة إلى أن يصيبه الأجل فيلقى ربه وهو على ذلك.
ولأهمية يوم عاشوراء كان هو يوم الصيام الواجب على المسلمين قبل أن يصبح صيامه مندوبا بعدفرض صيام شهر رمضان، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن عَائِشَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا_ قَالَت:ْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
غير أن الذي أود التنبيه إليه في هذا المقال، في هذه المناسبة، هو سبب تعظيم هذا اليوم، ألا وهو نجاة سيدنا موسى عليه السلام من فرعون، وصيامه هذا اليوم شكرا لله، مثلما جاء في الحديث:
أخرج البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا_ قَال:َ "قَدِمَ النَّبِيُّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَال:َ مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، ونحن نصومه تعظيماً له"-. قَال:َ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم.ْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
فالجدير بنا، نحن المسلمين الذين بقينا على عهد سيدنا موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام، وفق منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون يوم عاشوراء يوما للعبادة، ولكن كذلك يوما للتأمل في سبب تعظيم هذا اليوم، ألا وهو انتصار الحق على الباطل، ضمن أعظم قصة ورودا في القرآن الكريم، وهي قصة سيدنا موسى عليه السلام.
إنه حقا لا توجد قصة من قصص الأنبياء احتفى بها القرآن كقصة سيدنا موسى عليه السلام، وما كان الله سبحانه أن يُفصّل في قصة سيدنا موسى لو لم يكن يريد منا أن نتأمل فيها، وإن يوم عاشوراء هو بالفعل يوم لنتدبر في تفاصيل هذه القصة وخصوصا قصة نهاية فرعون.
لقد تتبعت آيات القرآن الكريم حياة النبي موسى عليه السلام كلها، منذ ولادته إذ اضطرت أمه أن ترميه في اليم وحيدا في مهده تتهدده المخاطر، وعند نشأته في قصر فرعون، إذ عطفت عنه زوجة الطاغية، آسيا المؤمنة، فنُجّي من ظلم عظيم أصاب أمة من ذراري قومه، وعند شبابه وفتوته إذ وكز الذي هو من عدوه فقضى عليه، وإذ جمعه القدر وهو هارب من آل فرعون مع رفيقة العمر، عند ماء مدين، في مشهد عامر بمروءة الرجل الصالح وحياء المرأة العفيفة وشهامة النسيب الناصح المعين، وبعدما قفل مغادرا نسيبه النبي شعيب كان قبس النور وشرف الكلام مع رب العزة سبحانه، والتكليف بمهمة مواجهة أكبر طاغية تحدث عنه التاريخ، متسلحا بالحكمة وبيان أخيه هارون وبمعجزة اليد والعصا وباقي الآيات التسع.
لقد كرر القرآن الكريم قصة تلك المواجهة العظيمة بين موسى وفرعون في مواقع عدة من كتاب الله بأساليب بيانية متنوعة بديعة، جعلها منهجا للمصلحين في كل زمان وهم يواجهون الظالمين في كل مكان. لقد كانت الرسالة التي كُلف بها واضحة تنقسم إلى شقين كما هي رسالة باقي الأنبياء ومن تبعهم من المصلحين، وقف الظلم ونجدة المظلومين، والإيمان بالله واتباع هديه: ((فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى )) طه، ولقد كانت تلك الرسالة تقوم في مبتدئها على اللين في القول: ((اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (43) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (44) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) طه، وبالحوار والحجة والبيان وإظهار قوة الله في خلقه، ونعمه وآلائه وفضله : (( {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (50) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (51) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (52) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (53) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (54) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى (55) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )) طه.
غير أن فرعون واجه النبي موسى عليه السلام كما يواجه الحاكم الظالم الداعية المصلح في كل زمان، بالكبر والمن والتشويه و الابتزاز والتهديد: (( قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (19) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ))، وبسحر أعين الناس واستغفال السذج منهم، من خلال قلب الحقائق والتدليس وإيهام الناس بما يخالف الواقع: (({وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (57) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (58) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (59) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى )) طه.
ولكي لا يَسأل أحد من المصلحين معجزةً خارقة في كفاحه ونضاله، إلا ما يقضيه الله ويريده، فلا يعتمد بعد الله إلا على الحجة والبلاغ، تأسيا بخير الأنبياء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بيّن الله تعالى كيف أن الخوارق لا تنفع من طَمسَ الكبرُ والظلم قلوبَهم
إذ رغم انصياع السحرة - أدوات فرعون في استغفال الناس - واتباعهم الحق، انقلب فرعون على قواعد المنافسة التي اختارها بنفسه، كما يفعل كل حاكم مستبد حين يتحكم في لعبة الحكم والسياسية فلا يربح فيها إلا هو، بالغش والتزوير والدوس على النصوص التي يكتبها لصالحه أزلامه وأعوانه.
وكما هو حال المستبدين كان عقاب السحرة التائبين شديدا لم يخففه عنهم سوى عمق الإيمان وقوة الثبات والاستخفاف بجبروت الجلاد، وهوان أمر الدنيا حين تتعلق القلوب بالآخرة: ((قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72))) طه.
غير أن كثرة من الناس بقوا يرهبون الفرعون ويطيعونه، قد استجهلهم لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، كما يقول المفسرون، لا يلقي لهم بالا، ولا يهتم بحالهم، إنما يلعب بعقولهم ليستعبدهم لا غير، فكانوا لفترة من الزمن سببا لدوام حكمه وثبات عرشه: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54))) الزخرف.
ولأن الخير وافر في كل قوم، ولأن الكلمة الطيبة تنفع حيث لا يتوقع نفعها، كان ثمة صنف آخر من الناس حول فرعون، لهم شجاعة وذكاء وكياسة في نصرة الحق وأهله، ذكر منهم القرآن مؤمن آل فرعون الذي دافع عن موسى بطريقته وخذّل عنه: ((وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)) غافر.
وبعد أن لم تنفع الكلمة الطيبة، والحجة البليغة، والنصر المبين في المنافسة، عاد موسى للكلمة الشديدة الحازمة في وجه هذا الحاكم الوقح المتسلط: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) )) الإسراء.
وبعد أن لم ينفع كل هذا جاء دور تسليط أنواع البلاء في الحياة والمعيشة كالقحط ونزول مستوى نهر النيل، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. ومن عظم ظلم فرعون لنفسه وقومه وفسوقهم، أن كانوا يتحايلون على الله، يعلنون مراجعة أمرهم عند كل أزمة، ولكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه إذا انفرجت وعاودهم الريع: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (131) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (132) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (133) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (134) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (135) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ )) الأعراف.
ثم كان في الأخير يوم عاشوراء، اليوم الذي انقلب فيه فرعون على موسى بعد أن سمح له بقيادة قومه وحزبه، وأوشك على الخروج بهم من مصر ، فقرر فرعون ملاحقتهم مستنفرا وسائله الاتصالية في كل أنحاء البلاد، مستصغرا أمر الطائفة المعترضة على كفره وظلمه، المهاجرة خارج بلده خوفا من بطشه، مستغربا أنهم أغاضوه وفارقوه، وأن القاعدة في التعامل مع هؤلاء الذين يريدون الإصلاح الحذر ثم الحذر منهم، على قوس واحدة: (( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60)))
إن عبرا كثيرة نستشفها من هذه الملحمة العظيمة منها:
- مقاومة الظلم والإصلاح في الأرض والدعوة إلى الإيمان بالله والتواضع للبشر مهمة الأنبياء وكل من سار على دربهم إلى يوم الدين.
- أن القاعدة الأولى في الدعوة والإصلاح اللين، غير أن الاعتقاد بأن ذلك ينفع مع المستبدين في كل الأحوال سذاجة مخالفة لمسيرة الكفاح من أجل الحق.
‐ الأفكار هي ميدان المعركة مع الطغاة، والحجة والبرهان هي أساس العملية الإصلاحية، وإن لم ينفع البلاغ والحجة والبيان مع رؤوس الاستبداد فسينفع في بيئة المعركة ذاتها وفي حشد الأنصار والأعوان، من داخل بلاط الحاكم وفي المجتمع الفسيح.
‐ أن أساليب الطغاة والمستبدين هي ذاتها في كل وقت: الكبر، احتقار الناس، استعمال السذج، الكذب، الإغواء، قلب الحقائق، التحشيد، الغدر بالمخالفين ولو من الأقربين، الحذر والشك في الجميع، البطش، العدوان والقتل.
- لا يجب اليأس في محيط المستبدين، إذ كلمة الحق تخترق الجدر وتلج القلوب بلا إذن، وتتملك العقول بلا طلب، وتكسب المناصرين والأعوان من كل صوب وحدب، دون الحاجة إلى الاتصال بهم أو معرفتهم، فالفكرة هي الصلة بهم، ولهم أساليبهم وطرائقهم في نصرة الحق وأهله.
‐ في كل زمان أزلام للحكام يزينون لهم ظلمهم، يقتاتون من فتاتهم، ويصدقون سحرهم، يخافونهم ويرهبونهم، لا يحترمهم هؤلاء الحكام ولا يقيمون لهم وزنا، غير أن ضررهم شديد إذ يطيلون بقاء الفساد والاستبداد إلى أن يحل الدمار عليهم وعلى الجميع.
‐ لا يحل العقاب بالظالمين وأشياعهم وقومهم وبلدانهم مرة واحدة، وألوانه عديدة، منها الفرقة والقلق والاضطراب، والشك في كل شيء والرعب من كل مخالف، وكثرة الصراعات، ونشأة القوى المخالفة من وفي البلاط، والفشل في تطوير البلد وعمرانه، والقحط، واضطراب الأحوال الجوية، وغلاء المعيشة، وعدم الاستفادة من الفرص والريوع، والفتن والدماء، وقد تكون النهاية مدمرة تزول بها البلدان وتدمر العروش، ليس بالضرورة بشق البحر وغرق الفرعون كما هي قصتنا في يوم عاشوراء، ولكن في التاريخ نهايات مأساوية للاستبداد لم تتدخل فيها الخوارق من الآيات، وإنما تكون نهاية على قواعد السنن الاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتغير.
ومن العبر العظمى أن على المصلحين أداء الذي عليهم، وأن الله كفيلهم وحاميهم، وأنه سيعلمهم سبحانه إن صدقوا كما علم الخضر موسى، وأن فكرتهم، إن كانت من مشكاة النبوة، محمية ومنصورة ولو جاء ذلك بعد وفاتهم.
‐ وفي قصة سيدنا موسى دليل على ذلك، إذ لم تنته معاناته بعد غرق فرعون، وإنما استمرت مع قومه إذ أغضبوه بميولهم الشركية فور نجاتهم، وانقلبوا على أخيه هارون حين ذهب هو لمناجاة ربه، فعبدوا العجل، ولما رجع بالشريعة فقضى على السامري وعجله رفضوا اتباع ما جاء به إلى أن رفع الله فوق رؤوسهم الطور، وحتى أولئك السبعون رجلا الذين لم يعبدوا العجل فاختارهم للقاء الله والاعتذار منه، اشترطوا عليه أن يروا الله جهرة بأنفسهم، إلى أن صعقهم الله فأماتهم ثم أحياهم بتوسل من موسى عليه السلام، تم كانت بعد ذاك محنة التيه أربعين سنة عقابا من الله لبني إسرائيل على عصيانهم أمر دخول البيت المقدس وجبنهم وخورهم وخوفهم الشديد من القوم الجبارين الذين كانوا في الأرض المباركة قبلهم: "قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (25) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ".
وعند نهاية التيه، زال معه الجيل الذي عصا الله وتمرد على نبيه واستحكم في أفراده المكر والتحايل على الحق والجدل وتعقيد الأمور على أنفسهم كقصتهم العجيبة مع البقرة، واستبدلوا الذي هو أدنى من المأكل والمشرب وشظف العيش الذي صاروا إليه بما هو خير من ريوع المن والسلوى والظل الظليل الذي كانوا فيه، وبرز جيل جديد بريئ من فساد الذمة والسريرة تحمل ذلك الشظف وعاش بلا ريع وآمن بالله وتوكل عليه فاستحق أهلية الاستخلاف ففتح الله على يديه.
ومن الأحداث ذات العبرة في قصة موسى أن الله تعالى لم يكتب الفتح على يديه عليه السلام، رغم معاناته الطويلة، وإنما كان التتويج بأيادي جيل الشباب الذي صنعه من ذرية بني إسرائيل الذين قضوا في التيه، فكان الفتح بقيادة واحد منهم هو النبي يوشع بن نون الذي رافق موسى من قبل في السفينة في رحلة من رحلات التأهيل والتكوين التي لقي في آخرها الخضر الذي علمه الحكمة. لقد اكتفى سيدنا موسى عليه السلام في آخر عمره أن طلب قبل موته من الله تعالى أن يكون دفنه أقرب ما يكون إلى بيت المقدس، إذ يقول النبي محمد ﷺ: «دفن عند الكثيب الأحمر -على الطريق إلى القدس- فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكُم قبرَهُ». وهذا هو حال كثير من المصلحين والقادة والزعماء يصنعون الأفكار والأجيال التي تصنع النصر ولكن لا يُكتب لهم التتويج.