قسم المفكر الجزائري مالك بن نبي - رحمه الله - العالم إلى ثلاثة عوالم
١- عالم الأشياء ٢- عالم الأفكار ٣- عالم الأشخاص
ولقد تعرّض إلى ظاهرة منتشرة في العالم العربي والإسلامي ألا وهي (مركزية الشيء وغياب الفكر)، لقد بات العقل المسلم غريبا في عالم الفكر والمعرفة، وأصبحت حياته شيئية بحتة، وربما كان من صالح المستعمِر أن يضفي على عالم الأشياء عندنا طابع الحضور المهيمن والمركزية الهدامة وذلك حتى يعيش المسلم عالة على غيره، ويتسنى للمستعمر عندئذ الإنتاج ويبقى للمستعمَر الاستهلاك، وقد وصف بن نبي مركزية الأشياء في نفس المسلم ب"الطفولة الصبيانية" وهي من إبداعاته الاصطلاحية، ويعني به أن يعيش المسلم في عالم الشيء ويتفاعل معه بشدّة ولكنه تفاعل بتأثر دون تأثير أما عالم المعرفة والفكر فبعيد عنه أيّما بعد، وهو ما يكاد يشبه الى حد كبير حياة الطفل الذي يكون جلّ تفاعله مع الأشياء والأدوات وحسب.
ومركزية الشيء لها أمثلة كثيرة في واقعنا الحياتي، فتفاعلنا مع الأشياء يكاد يصل حدَّ الهوس، فنفرح بشراء سيارة جديدة، وبشراء هاتف يحمل تقنيات أحدث، وبشراء أثاث جديد، ولكن أين ذاك الرجل الذي يلهث وراء بحث علمي في تخصص يعشقه ليطّلع على آخر المستجدّات فيه؟ وأين ذاك الشاب الذي يركض وراء طبيب أو عالم أو مفكر ليحصل على رؤية مركبة أو بعد أوسع أو معلومة جديدة، وهؤلاء وإن كانوا موجودين ولكنّهم قلّة بين الشباب اليوم.
وربما عيش الناس في عالم الأشياء جعلهم يعتقدون أن الحضارة منبعها التراكم والتكديس، فإن أردنا النهضة لبلادنا فما علينا إلا استيراد الآلات ونقلها وكلما كدّسنا أكثر كلما اقتربنا نحو النهضة المنشودة، متناسين أن هذا الفكر الساذج هو بذاته مراد المستعمِر منا، ففي صالحه أن نبقى نفكر بهذا النمط، لأن هذا التفكير هو ما يجعلنا نبقى نعيش في دوامة الاستهلاك، وهو يخاف علينا من العلم والعيش في عالم الأفكار أيّما خوف إذ أنها باكورة النهضة وأولى حلقاتها.
ولقد تزايدت مركزية الشيء مع العولمة أكثر فأكثر، فبدلا من أن تحدد الحاجةُ الوسيلة صار العكس وباتت الوسيلة هي التي تحدد الحاجة، وأعني بذلك أن الإنسان - بوضعه الطبيعي- يشتري لأنه يحتاج، ولكن اليوم بات الإنسان في عالمنا يشتري لا لإنه يحتاج ولكن لأن الوسيلة الجديدة أتت بشيء لم تأت به أختها السابقة، مما يعني مزيدا من حضور الشيء ومركزيته، فصارت الوسائل هي التي تكيّف الحاجات وتحددها، وحتى يتم ذلك لا بد أن يصل الأمر الى حد الانبهار، مما يستدعي تسليط الأضواء على السلعة، وانتقاء الكلمات المناسبة، والإتيان بممثل أو لاعب يروّج لها، وهو ما يعني أيضا تطويع الأشخاص لترويج الأشياء، مما يجعلها تسمو على عالم الفكر والشخص معا. وإذا أردنا أن نخلص من كلامنا هذا بنتيجة فنقول إن النهضة تكمن في إيجاد الآلات ثم بمحاولة التعرف على الفكرة التي كانت سببا في إيجادها ونبدأ بالتقليد والمحاكاة لننتهي بالإبداع أخيرا، وأن الحضارة هي التي تنتج الأشياء وليس لها - أي الأشياء - أن تنتج حضارة.
وللأسف فإن هذا الاستيراد لم يقف عند الأشياء وحسب، وإنما تعدّاه الى الأفكار أيضا، فبات العقل المسلم ينقل الفكرة متناسيا بيئتها التي عاشت فيها، وسياقاتها التاريخية التي آلت للوصول إليها و الدوافع التي حفزت لابتكارها، فبرامج الإصلاح يجب أن تراعي في بنائها النهضوي السياق التاريخي للمجتمع الذي تعيش فيه كما تراعي المرجعية النهائية التي يستقي منها الناس أفكارهم وتصوراتهم، والمخاطرة الحضارية هي أن تُعتَمد برامج الإصلاح حلولا لمشكلاتنا الحضارية في ضوء نماذج أخرى غير النموذج الذاتي الذي يحتوي على التصورات والمبادئ والقيم والبرامج التي تأخذ في اعتبارها البعد النفسي والقيمي والزمني والحضاري لمجتمعنا وأمتنا، هذا النموذج يجعل المجتمع يصنع أفكاره الحضارية وفقا لمتطلبات المرحلة التي يعيشها وفي ضوء خططها وبرامجها، إن المجتمعات هي التي تبتكر حلولها بعقول أبنائها وتنفذ هذه الحلول من خلال سواعدهم فهذه طبيعة الحلول الحضارية.(1)
غربتنا في عالم الأفكار نجم عنها كوارث عديدة منها غياب التأثر بالعلماء والمفكرين أنفسهم، ومنهم مالك بن نبي أيضا الذي لم ينل حظه من الشهرة إلا بعد مماته، وهو ما جعله
يقول : للأسف فإن العسل الذي أضعه بين دفات هذه الصفحات مصدره ليس رحيق الزهور العبق ولكن خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الجسدي والسم المعنوي.(2)
أي إن غياب المفكرين والمنظرين أمر يريده المستعمر بشدّة، وليس أدلُّ على ذلك من اعتقال بن نبي نفسه ورميه وزوجته في السجن كما يروي ذلك في كتابه "العفن"، وعلى الكفة الأخرى كان من يبرز في الساحة هم الدراوشة و"ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا" وهو ما يلهث وراءه المستعمر ويبحث عنه أيّما بحث، ولكن الرموز اليوم تبدّلوا، فبدل الدرويش اليوم حضر الممثل والمطرب واللاعب، ووصل الامر إلى حد الذوبان والتيه والانصرام تحت صوت لحن، أو رقصة لاعب، وهذه القضية - قضية الرموز- يجب أن يأخذها المصلحين اليوم بعين الاعتبار، لأن الانبهار لا يقتصر بعين الإنسان ووجهه، وإنما يتعداه إلى التأثر بقيمه وأفكاره، أي إنه تأثر بالشخص والشخصية معا.
ونحن هنا لا نصف ونحلل لنبكي الناس ونحبطهم وإنما لاستفزاز مشاعرهم وأفكارهم، ولعل في هذا المقال ما يتناول شيئا من أزمتنا بالتحليل والنقد، لأن فهم الأزمة جزء من الحل والتصور لها فرع من الحكم عليها، والله من وراء القصد ونسأله مغفرة الزلل.