لعلي أزعجكم دوما بذكريات الطفولة.. ولكنها عزائي في تلك الغربة، بل هي التي تمدني بالطاقة في لحظات اليأس والانكسار. كان لي خالة اسمها صباح، وعمة اسمها نجاح، وعندما كنت أذهب إلى القرية كنت أبيت عند إحداهما، ولعلي قد تحدثت في مقال الإلهام عن عمتي نجاح واليوم سوف أحدثكم عن الخالة صباح.
عند الخالة صباح
كنت أجتمع مع أقاربي في بيت الخالة صباح نتناول طعام الإفطار ثم نبدأ يومنا بجد واجتهاد، لم أكن أعتاد عليه عندما أعود إلى مدينة القاهرة.
كان أكثر ما يلفت الانتباه هو التخطيط اليومي الذي كنا نسير عليه، لم يكن يومنا يوما عبثيًا، بل كنا نستمتع بالعمل، ونقسم وقتنا ساعة بساعة، ففي الصباح كنا نجلس نشاهد الكابتن ماجد ونتابع حلقاته الممتعة، ومعه نتناول طعام الإفطار، ثم بعد ذلك نجتمع على هواية الرسم التي لم تكن مفضلة عندي ولكن كنا نقضي فيها وقتا حتى صلاة الظهر. وما بين الظهيرة والعصر نقضي الوقت في لعبة كرة القدم، ثم بعد صلاة العصر أنطلق مع أقراني نسير بين الغيطان نستمتع بالطبيعة من حولنا، ثم نعود قبيل المغرب لتناول طعام العشاء ثم نتسامر حتى صلاة العشاء ويعود كلا منا إلى منزله.
لربما ترى حتى الآن أن الأمر طبيعي، ولا جديد فيه، ولكن ماذا عندما كبرنا؟
لقد كان لهذه الذكريات جزء كبير في تكوين شخصيتي عندما كبرت، لقد رسخت بداخلي حالة من الإيمان بأهمية تنظيم الوقت وإدارة حياتي خلال يومي.
علم الإدارة وأثره في تكوين شخصيتي
وعندما كبرت ودرست علم الإدارة اكتشفت أن الناجحين يطبقون علم الإدارة بشكل لا إرادي، ويعرفون قيمة كل لحظة تمضي عليهم.
إنهم يطبقون المفاهيم دون أن يعرفونها، لأنها جزء فطري من حياة هؤلاء الناجحين، إنهم يدونون منذ صغرهم أهدافهم وأحلامهم، ويرتبون يومهم ساعة بساعة، أما الفاشلون فإن أكثر أمنياتهم هو الحصول على لذات الدنيا اليوم قبل الغد، لا يهتمون بفرض قوانين لحياتهم يستخدمونها يومًا بعد يوم.
الإداري الناجح ينكسر يومًا ثم يبحث عن أخطائه ليصلح منها ويعود ليقف على قدميه قويًا بل وأقوى من السابق، أما الفاشل فيعلم أنه أخطأ ولكنه يبحث عن أقرب شماعة ليضع عليها أخطائه وأكثر عبارة يرددها الفشلة "إنها الظروف السيئة يا عزيزي".
الشاب الإداري الناجح يبحث عن الزوجة التي تعينه على النجاح يومًا بعد يوم، يعرف قيمة الحب ويدرك أهمية أن يعيش حياة سوية، أما الفاشل فإن نظرته للفتاة على أنها صاحبة يقضي معها يومه ثم يستبدلها بصاحبة أخرى في اليوم التالي، وكأنه يبدل ملابسه عندما تتسخ.
كل هذه الأمور هي جزء أصيل من التربية التي نربي عليها أبنائنا، إما أن نربيهم على أن يكونوا ناجحين أو أن نربيهم على أن يكونوا فاشلين.
كان من الأمور التي تعلمتها من والدي هو أنه عندما يختلط عليه الأمر ويحدث لديه تشتت ذهني، كان يعود إلى تلك الأجندة الأصيلة يدون فيها كل ما يريد أن يفعله ثم يعيد ترتيب ما كتبه، وكأنه يعيد ترتيب لوحة مقسمة بين قطع البازل.
عندما كنت أذهب إلى القرية كنت أستيقظ مبكرًا وأنام مبكرًا، حيث تعلمت أهمية التبكير في حياتي، وكان هذا دأب أهل القرية دوما، حيث تجد الفلاحين يستيقظون منذ الفجر ويذهبون للعمل في الحقل، ثم يعودون إلى دورهم في الظهيرة، وكانوا يجتمعون مع بعضهم البعض للعمل في الأمور الشاقة التي تحتاج الى فريق عمل، مثل درس القمح أو الذرة.
عندما تجلس مع أحد هؤلاء الفلاحين تجده يحدثك في أمور تتعجب أنه عرفها قبل ستيف جوبز، وستيفن كوفي، وعندما تسأله كيف عرف هذه الأمور يرد عليك ويقول: "ده النبي قال كده".
أذكر عندما كنت أجلس مع الأستاذ "عبده" بجوار الساقية التي كانت تشرب منها الماشية والأبقار، حيث سألته لماذا يستيقظ باكرا ويذهب إلى حقله، فيرد علي بهذه المقولة "ده النبي قال كده" ثم يذكر حديث التبكير إلى العمل منذ الصباح والذي فيما معناه أنه إذا توكلنا على الله حق التوكل لفعلنا مثل الطير تغدوا خالية البطن وتعود ممتلئة من بعد سعيها.
عادات نساء القرية
كانت النساء يجتمعن بشكل دوري في دار العائلة يقومون بإعداد مخبوزات الأسبوع كله، ليحققوا بذلك حالة من الاكتفاء الذاتي من القمح المخزن، كنت أتعجب أنني أرى أمامي نوع من الخبز مختلف عن الخبز القاهري المغطى بقشرة القمح المطحونة ( أو ما يعرف بالردة) كانوا يصنعونه في دورهم، كانوا يحسبون الحسبة من أجل الوقوف على قضاء يومهم بأقل التكاليف فتعلمت منهن المثال القائل (من حسب الحسابات في الهنا بات).
أذكر جيدًا عندما جلست مع الأستاذ محمود قنيطة عندما قدمت على القرض الحسن فأخبرته أن حقيقة السوق تقول أن المرتبات هي أكثر بكثير مما أعطيه لمن يعملون معي، ولكني أحاول أن أسير في مشروعي بأقل التكاليف حتى لا أخسر كثيرًا، وقتها قال لي هذا الأمر الصحيح، العبرة ليست بكثرة النفقات، العبرة بالنجاح في تحقيق الهدف المطلوب مع تحقيق نفقات أقل ومكاسب أكثر.
وعندما أعود إلى المدينة تاركا القرية كنت اصطدم بتلك الحوائط الإسمنتية وكأنها تقف حائلا بيني وبين الطبيعة الربانية التي كنت أراها في قريتي الصغيرة، ولهذا أصبح عقلي محرومًا من أن ينشط في تلك المساحة المحدودة ما بين جوانب الشقة الأربعة، وكذلك أحرم من سعة الأفق والمساحات الخضراء المنتشرة في كل مكان.
لقد كانت حياتي في الريف مليئة بالمغامرة والتجربة في أمور تجعلني وبشكل تلقائي أنعش عقلي وفكري فأتلقى وبدون وعي أفكار تربوية في علم الإدارة تساعد وبقوة في السعي نحو النجاح والتفوق.
لقد كنا نكتسب علم الإدارة بطريقة تلقائية وبسيطة وسهلة، وكنا ننمي مواهبنا بدون إجبار، أذكر جيدًا مكتبة القرية التي كنا نذهب إليها بعد صلاة العصر، وأذكر كيف كانت تقوم الخالة صباح بتعلم القراءة والكتابة بدافع شخصي في فصول محو الأمية على الرغم من كبر سنها، أغلقت بداخلي وبشكل لا إرادي حب العلم والتعلم والاستمتاع بالعلم لا النظر إليه على أنه قيد يقيد الإنسان.
تربية الأطفال على علم الإدارة
إن تربية الأطفال وإكسابهم علم الإدارة بشكل لا إرادي أفضل من ألف نصيحة نقضي الساعات في توجيههم من خلالها، يجب أن نضع أبنائنا في جو من التفكير بلا تقييد بقوانين لن يستفيدوا منها سوى أن يكونوا مقيدين، يجب أن نعطيهم جرعات من التفاؤل والاجتهاد والتفوق والبناء.
الأمر لن يكون متعلقا بالمذاكرة والاجتهاد الدراسي، بل بمعرفة قدراته ومواهبه وتبنيها من أجل بناء مستقبله بشكل صحيح من الصغر، يجب أن يعتاد من صغره على تلك القيم التي تجعل منه إنسان ناجح، فيستيقظ مبكرًا ويقسم وقته جيدًا ويدرك أهمية أن أن يكون ناجحًا ومتفوقًا.
إن العالم يتغير يومًا بعد يوم وأصبح العمل يعتمد على المهارة لا الشهادة، وتنمية المهارات لن تكون عند الكبر، بل يجب أن تبدأ من الصغر، فاهتم بتربية ابنك ليكون ناجحًا إداريًَا قبل أن يكون متفوق دراسيًا.