تلاشى مفهوم المدينة الإسلامية تدريجيا بفعل تسليط الضوء على جانب واحد من الشريعة وهو علاقة العباد بالخالق سبحانه في العبادات وإهمال جانب علاقة الناس في الدولة، حتى وصلنا إلى العصر الحالي الذي اندثرت فيه المدينة الإسلامية كُلية، وعَرف الناس خاصة في العالم الغربي أن الشريعة الإسلامية شريعة نسك وعبادة فقط بعيدة عن الحضارة والنظام والإنتاج، أما المسلمون فقد ارتبطت المدينة الإسلامية في أذهانهم بالمنتج النهائي للعمارة القديمة وهو البناء المعماري، هذا الاعتقاد الخاطئ المتوارث البعيد عن أسرار منظومة شريعة عظيمة قائمة على توزيع حقوق تسيّر الإنسان سواء كان مسلما أو غير مسلم والأرض بالكامل. من هنا انبثق اهتمام أستاذ العمارة والتخطيط الدكتور جميل أكبر بالعمران الإسلامي والتنمية الاقتصادية مقارناً المنظومات المعاصرة بمنظومة الشريعة الحقوقية في كتبه: أزمة البيئة العمرانية، حالة المدينة الإسلامية، عمارة الأرض في الإسلام، وقصّ الحق الذي تعرض فيه لمفهوم المدينة الإسلامية وعلاقته بتطبيق الشريعة الإسلامية قديماً التي كفلت علاقة متوازنة بين الناس والدولة دون بيروقراطية وأعطت الناس حقوقهم مع تحقيق إنتاجية أعلى ورفاهية أكبر دون إحداث أي تلوث للبيئة.
فكيف نمت المدن الإسلامية التقليدية قديماً؟ وكيف كانت آلية اتخاذ القرار بها؟ وما الفرق بينها وبين آليات السلطة المركزية في التنظيم والتخطيط اليوم؟ وما هي مقصوصة الحق الواردة في كتاب قص الحق؟ وهل نستطيع تطبيقها في الوقت الحالي؟
هذه الأسئلة وغيرها نجد أجوبتها في هذا المقال الذي أجملنا فيه رؤية الدكتور جميل أكبر.
بين المدينة الإسلامية التقليدية والسلطة المركزية.. فَرقٌ في آليات اتخاذ القرار وفي التنظيم والتخطيط
لاحظ الدكتور جميل من خلال دراسة المدينة الإسلامية التقليدية أنها نمت بناء على الشريعة بغياب الدولة وعدم تدخلها، وهذا ناتج عن دور الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما؛ ففي الشريعة القائمة على إحياء الأرض كانت الناس تأخذ الأرض وتعمرها دون الحاجة إلى موافقة الدولة مما جعل الناس تبادر بالعمل وتتحرك باستمرار للبحث والإنتاج وتنسق فيما بينها في المصالح العامة المشتركة، وبهذا كانت قرارات العمل والإنتاج تخرج من تحت إلى أعلى دون إحداث فوضى بغياب تدخل الأنظمة والقوانين، حيث تعطي الشريعة المطبَّقة الحقوق للجميع دون أن تحتاج إلى طبقية وتغطي فراغ غياب الأنظمة والقوانين بهذه الحقوق.
أما المدن الرأسمالية الحديثة فهي منظَّمة لوجود سلطة مركزية تأخذ الأرض وتستفيد من خدماتها وتستخرج خيراتها في المقابل تعطي الناس والإعلام والقطاعات المختلفة حرية الانطلاق في قطاعات العمل المختلفة دون توجيه منها، وتمنح الحقوق والقوة للفقراء في المشاركة في اتخاذ القرار بحيث لا يستطيعون أخذها بأنفسهم دون السير بسلم الطبقية حتى تصل إليهم.
وتعتمد الرأسمالية في الإنتاج على هذه الطبقية بوجود طبقة الفقراء الكادحة وطبقة الأغنياء المسيطرة التي تعيش بترف من كدح الفقراء المضاعِف للإنتاج، بالإضافة إلى تواجد شفافية الدولة ومحاسبتها في حال أخلت بمنح الحقوق، كل هذا ساهم في تقدم الشعوب في الغرب أيضاً لكن على حساب تلوث الكرة الأرضية بسبب الاستهلاكية الزائدة والحاجة إلى استخراج الموارد من الدولة بكثرة، دون مراعاة لتلوث البيئة ودون منح الحق للشعوب باستخراجها وأخذ حصة منها.
وفي ظل هذا الوضع تحتاج هذه الدول إلى وضع حقوق وقوانين حتى تضبط السكان وتسيطر على الموارد النادرة، من هنا جاء كتاب قصّ الحق للدكتور جميل؛ المنبثق من الآية الكريمة "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ " (57) الأنعام، بحيث إذا لم نقص الحقوق كما هي واردة في الشريعة دون الحاجة إلى طبقية وتحت سيطرة عليا تكون النتيجة حدوث التصادم والتحاكم بين الناس، بالتالي سيحتاجون إلى الأنظمة والقوانين الموضوعة التي تحل المشاكل الحالية والتي ستأتي بمشاكل أخرى بعدها وهكذا دون انتهاء، وهذا يعتبر قذفاً بالغيب لا جدوى منه؛ لأن هذه القرارات لسنين قادمة مجهولة والبيئة العمرانية بكل ما فيها من اقتصاد، بيئة، موارد بشرية تحتوي على العديد من العوامل شديدة التعقيد، وبطبيعة العقل البشري القاصر لا يستطيع التنبؤ بمخرجات هذه العملية بشكل تام لتستمر هذه المشاكل بالظهور، فتأتي الشريعة كحل مثالي بفاعلية عالية تناسب كل زمان ومكان، وتعتبر حلا أمثل للرأسمالية الحالية.
فنحن هنا إلى جانب هذه المنظومة الحقوقية العادلة الدقيقة تتواجد المعرفة العلمية المتطورة والتقنية المزدهرة إذا جمعنا بينهما تحيا المجتمعات بعزة وازدهار وثراء، وذلك عبر تمكين الناس من امتلاك الموارد والخيرات والأراضي وإقامة الشركات بها تحت مسؤوليتهم دون ضرائب واحتكار من الدولة كما هو وارد في الشريعة؛ مما يزيد من كمية الشركات ومن التنافس بينها وابتكار أدوات جديدة تعتمد على التقنية للتخلص من المشاكل فتقل نسبة حدوثها، وتحمُّل المسؤولية من الناس جميعاً بعدم تعدي الحقوق التي رسمتها الشريعة لأن ذلك يمسهم ويعود بالضرر عليهم وعلى شركاتهم ومصالحهم المترابطة؛ فالجميع يمتلك شركات والجميع يتبادل المصالح.
مقصوصة الحق.. من أين جاءت الفكرة؟ وما أساسها؟
يعزى اهتمام الدكتور جميل بمفهوم مقصوصة الحق إلى الصدمات الحضارية المعمارية التي عاشها أثناء دراسته في أمريكا والتي يتعرض لها الكثير من العرب في الوقت الحاضر خاصة المغتربين في الدول الغربية حين يرون البناء الحضاري هناك، وأول سؤال يتبادر لأذهانهم حينها لماذا هذا الفارق الشاسع بين المسلمين والغرب في البناء العريق؟ لذلك كان لا بد للدكتور جميل من البحث عن المدن الإسلامية وزيارة مدن إسلامية تقليدية للاطلاع على تاريخ الحضارة القديمة بالكامل ومعرفة كيف كان وكيف صار وهل حقاً كانت العصور الإسلامية القديمة غنية بمثل هذه الحضارة التي نراها اليوم في الغرب من بناء ونظام وإنتاج ودون ذلك أم لا.
يقدم الدكتور جميل لهذا المفهوم بأن الله خلق الأرض للبشرية جمعاء وحث على السفر لطلب العلم والعمل والخيرات دون حدود، فلا يحق لأحد بمنع آخر من الاستفادة من خيرات أي بقعة في الكرة الأرضية، وقد أثبت الدكتور خطأ النظريات الرأسمالية القائلة أن الموارد معرضة للانتهاء؛ فحين ترتحل الأمة تتفرق الناس والجميع ينتج ويستفيد، حينها لن تظهر العواصم المحتكرة التي تعيش على خيرات باقي البقاع، وتحل مشكلة التلوث، فالكرة الأرضية واسعة جداً وخيراتها لا تعد ولا تحصى.
مقصوصة الحق تتكون من "إحياء الأرض، استخراج المعادن، إخراج الزكاة، حق ابن السبيل، السفر بأرض الله، عدم وجود دفع ضرائب". وهي منظومة شرعية تختلف تماماً عن المنظومة القائمة تحت مسمى الشريعة التي تنحصر في بال الناس من حقوق المرأة والعبادات...
الأساسيات التي تقوم عليها مقصوصة الحق:
- أن الناس متمكنون يملكون خيرات الكرة الأرضية وقد حثت الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة على استغلال الموارد وشد الرحال إليها.
- المعرفة مفتوحة للناس فلا يوجد براءة اختراع وإعطاء حصة ابن السبيل تُحدث حركة عالية مما يساهم في نقل المعرفة أكثر وأسرع فالكل يساهم في نقل العلم.
- للناس الحق في الموافقات إذا أراد شخص عمل شركة معينة لا يحتاج إلى موافقة أحد.
- "الناس تحب ما تملك" وفق القواعد الاقتصادية وبحبها هذا تلتزم وتبدع.
- الشريعة فتحت أبواب الإنتاج للجميع وعملت على تقارب الدخل.
- الشريعة ألغت الطبقية وقاربت بين مستويات الناس واعتبرت الأثرياء أفراد كباقي الأفراد لكنهم متميزون ومجتهدون أكثر على عكس النظام الرأسمالي الذي جعلهم طبقة مسيطرة.
- التقارب بين الطبقات يلغي وجود العمال مما ينتج شراكات في الأعمال، فالكل يملك شركات والشركات تدخل بدائرة واحدة، الملكية الواحدة للجميع فيحرص الناس على عدم إحداث التلوث.
- في الاستهلاك الغير رشيد الأغنياء يشترون السلع الغير مكملة بكثرة مما يزيد من الفضلات والفقراء يستهلكون السلع الرديئة التي تهلك بسرعة ويلقون بها في الأرض؛ حين تلغي الشريعة الطبقية تقضي على ذلك بالتالي تحل جزءا من مشكلة التلوث.
- الشريعة رسمت للدولة طريقا حتى لا تستبد وهذا لن يسبب خللا في النظام، فالأوقاف أيضاً تقوم في بعض المهام وهي مستقلة عن الدولة وتأخذ أموالها من وقف الناس وفق الآيات التالية المنظمة للتركيبة الاقتصادية للأمة:
- آية الصدقات، "إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم" (60) التوبة.
- آية الفيء، "مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " (7) الحشر.
- آية الغنائم، "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (41) الأنفال.
هذه الآيات تذهب بالأموال للناس جميعاً وليست للمشاريع المستبدة للموارد وملوثة للبيئة فقط كما في الرأسمالية.
كيف انهارت منظومة مقصوصة الحق؟
كانت الدول المتعاقبة تطبق الشريعة في بداية نشأتها ثم اتجهت إلى تقليد الغرب والبعد عنها بالتدريج، ولقد تحدثت كتب الفقه عن العمران والتمكين بطريقة عجيبة ولكن ذلك غُيّب في الواقع حيث كان التركيز الأكبر في جانب العبادات فقط ولم تأخذ حقوق الأفراد الحيز الكافي في توعية الناس نتيجة عدم فهم التركيبة العمرانية من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد بشكل صحيح وتطبيقها مما أدى إلى إنهيار هذه المنظومة مع مرور الوقت.
كيف نستطيع تطبيق "قص الحق" في عصرنا الحالي؟
إجابة على هذا السؤال، يؤكد الدكتور جميل أكبر أن ما علينا سوى تطبيق أي مذهب بالشريعة ثم تأتي البقية تباعاً فالمسائل، حسب رؤيته، تحل نفسها بنفسها وهي مترابطة ومتكاملة لأن الشريعة إعجاز رباني.
فبالنظر إلى طبيعة التصنيع مثلا فإنه يتفتت إلى أحجام حيث أن كل منتج يحتاج إلى مراحل إنتاجية عديدة تتطلب بعضها شركات أخرى مختصة لإكمال التصنيع، أما في الشريعة الإسلامية هذا التفتت قائم دون بيروقراطية، بحيث الشراكة لا تتم إلا بين أهل توكيل وتوكل ولا تكون إلا بوجود أمان بين الشركاء، والعمل المشترك القائم على الثقة المتبادلة والتنسيق والأعراف التصنيعية التي تؤدي إلى أفضل منتج ممكن بتكافئ الفرص والمهارات وتساوي نطاق العمل فلا أحد سيد على أحد.
الشريعة تركز على القيم والحركات معا هذا يجعلها تطبق على غير المسلم أيضاً حيث يطلبها من تلقاء نفسه إن فهمها على أنها ليست عبادات وحدود فقط "مع حفظ مكانتها" فهي أيضاً نظام كامل متكامل شامل لنطاق الحياة، قائم على الحقوق العادلة والإنتاج.
ثلاث تركيبات يؤدي لها تطبيق الشريعة
- الخطة المكانية وهي حيز أو مكان السلطة فيه للناس التي تسكن فيه.
- الخطة الإنتاجية تندرج من الخطة المكانية وهي الترابط والتكاتف بين الجماعات الإنتاجية والتبادل التجاري بينهم.
- الخطة الولائية هي الولاء لشخص الإمام وتلبية ندائه للتبرعات والجهاد ومثل ذلك.
القوة العسكرية في المنظومة المدنية الإسلامية
من جهة أخرى، يؤكد الدكتور أكبر أن الأمة الإسلامية هي أمة لا تقبل الظلم وتثور عليه، والمجتمع المسلم مجتمع مدني لا سلطة لقائد على جندي، ومجتمع عسكري وقت الغزو حيث وردت العديد من الأدلة الشرعية التي تحث على الجهاد في سبيل الله؛ معتبرا أن المنظومة المدنية قائمة على التدريب العسكري لكل الناس دون استثناء فحسب توجيه الإسلام على كل شخص أن يكون عنده الحد الأدنى من الدفاع عن النفس وهذا يشكل مهابة في نفوس الغازيين بالتالي يقل طمعهم وتفكيرهم في غزو البلاد الإسلامية، وحين يأتون بالأسلحة الحديثة للغزو يُفتح مجال الصناعة والتطوير الحديث للشباب المسلم لتظهر شركات في العالم الإسلامي تصنع الأسلحة بدعم من الناس والأوقاف، حينها يخضع هؤلاء الأفراد للخليفة ويطيعونه، كما وتتمثل مهام الخليفة في الشريعة بالمهام التي قام بها الرسول صلَّى الله عليه وسلم وهي واردة في صحيح البخاري منها الفصل بين الناس في القضاء وغيرها الكثير. أما حالياً فالقوة العسكرية تمتص خيرات الأمم وتُضعف الاقتصاد مما تسبب في سقوط الأمة كما حدث مع الكثير من الأمم السابقة.
فكلنا أمل بعودة الأمة الإسلامية بحضارتها العريقة بجهود الشباب وإيمانهم المقدس بالهدف الذي خلقوا من أجله عبادة الله وعمارة الأرض.