ظاهرة نفسية غريبة يلمسها كل من حضر اجتماعا أو لقاء معين، لمناقشة موضوع معين، أو مشكلة ما.
يجتمع الحاضرون، ويناقشون المشكلة المقترحة - أزمة السكن، أزمة النقل، أزمة الهدر المدرسي… وخذ ما شئت من المشاكل، فتجد من حضر للجمع يناقش القضية المطروحة، حتى لَيُخيل للناس أن القضية ستحملنا على نسف الجبال، وبذل النفيس والمال من أجل إيجاد الحل للمشكلة. لكن إذا انصرفنا، انطلق كل إلى حال سبيله، وانطفأت تلك الشعلة، وذاك الحماس الذي كان في ذلك اللقاء.
خذ مثالا: حادثة انهيار عمارة على ساكنيها، ماذا يقع؟ زيارة لجنة وزارية لمكان الحادث، تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، تقديم مقترحات وحلول، ومع مرور الأيام يخفت بريق تلك اللجنة، وتقل فعاليتها، في انتظار حادثة أخرى، وهكذا دواليك مع باقي الأزمات التي تُنَغِّص حياتنا، وتُقلق راحتنا، وتَعترض تقدمنا ونهضتنا.
وحتى إذا ما باشرت هذه "اللجنة الموقرة" عملها، تجد أحدهم يتغيب، والآخر يتأخر، والثالث يتراجع عن حماسه، و"إذا ما بدأت اللجنة عملها، فتجد العمل يخرج من بين يديها ناقصا غير تام - وهذا في الغالب الأعم- وأسلوب أدائها خِلوٌ من العاطفة الحارة، بله العقيدة الدافعة" حتى لَيُخيل لمن رآنا، أننا ممثلون، لا نأخذ أجرا.
وكما يوجد من الناس من يخطط لاجتماعات مثمرة، ومُنتجة، يوجد كذلك من يخطط لاجتماع فاشل، من حيث يدري أو لا يدري.
لأن الذين يسيرون الاجتماعات، تجدهم غالبا ما يفتقرون لمهارات التسيير، والتواصل والتأثير، وإدارة الوقت… وإن شئت فقل يفتقدون لمهارة الإتقان.
ومن الاجتماعات غير المثمرة:
■ وقت الاجتماع غير مناسب.
■ لا أحد يتلقى لنقاط الاجتماع في التوقيت المناسب، بحيث يستعدون للاجتماع، ويجمعون المعلومات حول النقاط المبرمجة في الاجتماع. حيث كثير من الأعضاء المدعوين لأحد الاجتماعات يقولون"لا يعرفون سبب دعوتهم للمشاركة"، كما أنهم لا يعرفون من سيحضر، وبالتالي لا يستعدون بالشكل الملائم للاجتماع.
■ من يتغيب عن الاجتماع، لا يعتذر عن الغياب، ولا يُنيب من يُعوضه في الاجتماع.
■ قاعة الاجتماعات غير مهيأة، ولا مناسبة، ولا مُنسقة، لإدارة الحوار.
■ اجتماع أطول من اللازم: الاجتماعات القصيرة المركزة هي أكثر الاجتماعات فاعلية. فالاجتماعات التي تفوق مدتها أكثر من ساعة ونصف، تقل فيها الفاعلية والتركيز. هل حدث أن نظرت إلى وجوه المشاركين في أي اجتماع بعد مرور 60 دقيقة منه، ولاحظت أنهم بدأوا في فقدان الاهتمام بالاجتماع وشرعوا" في"تسوية أمورهم" استعدادا لمغادرته!!
● تقول بعض الدراسات في إدارة الوقت أن سدس الوقت (10 دقائق من اجتماع مدته 60 دقيقة) ينبغي أن يُغطي المقدمة، وما تم التوصل إليه في الاجتماع السابق. أربعة أسداس 6/4 الاجتماع ينبغي أن تُغطي الموضوعات المذكورة في أجندتك = 40 دقيقة من اجتماع مدته 60 دقيقة؛ سدس الاجتماع 6/1 = 10 دقائق: ينبغي أن يُخصص لاختتام الاجتماع من خلال تلخيص ما جرى فيه، وسرد الإجراءات الخاصة بالاجتماع القادم، وتحديد موعد لذلك الاجتماع.
ومن سمات الاجتماع غير المُثمر كذلك:
- عدم التركيز على ما يُقال.
- عدم قدرة المسير لجلسة الحوار على إدارة الحوار (تحديد جدول الأعمال، مدة المداخلات، تسيير الاجتماع...)
- تُدار المعلومات بشكل سيئ، مع متابعة ضعيفة بعد الاجتماع، لما تم التوافق عليه.
- انسحاب بعض الأعضاء من الاجتماع قبل انتهائه.
- المشتتات داخل الاجتماع (الانشغال بالهاتف النقال، أحاديث جانبية...)
وحتى إذا ما باشر أعضاء الاجتماع أو أعضاء "اللجنة الموقرة" تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أحد الاجتماعات، وتم تحديد وقت لبدء العمل، تجد أحدهم يتغيب، والأخر يتأخر، والثالث يتراجع عن حماسه، و"إذا ما بدأت اللجنة عملها، فتجد العمل يخرج من بين يديها ناقصا غير تام -وهذا في الغالب الأعم- وأسلوب أدائها خِلوٌ من العاطفة الحارة" حتى لَيُخيل لمن رأى أعضاء اللجنة، أنهم ممثلون، يأخذون أجرا ولا أجرة.
فعلمت أننا بشر تنقصنا موهبة الإتقان، وأن أمامنا أشواط واسعة من التدريب والعلاج، حتى تستحب نفسنا الإجادة والتفوق، خصوصا ونحن في حضارة صناعية وتكنولوجية تقاس فيها الأبعاد "بالمليمتر" أو بما دونه، ولا تُقبل المجازفات والمساهلات. وقبل هذا وذاك في دين يدعوننا إلى إتقان كل عمل صالح نباشره،"قال النبي صلى الله عليه السلام: إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ" المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع، رقم الحديث 1880.
فلا قيمة ّإذن، لأحدث الآلات والتقنيات، وأحسن القوانين في الإدارات والمرافق العامة، إذا تولى هذه الإدارة وهذه المرافق، من ليس له مهارات وخبرات إدارية، ومعارف كافية في المجال الذي يسيره، وليس له استحضار لمراقبة الله.
وهل سبب تخلفنا وتأخرنا يرجع إلا بسبب فقدان هذه الخاصية؟ وما قيمة الشعائر والوسائل التعبدية التي لا تغير في سلوك الإنسان ونمط حياته ووسائل إنتاجه؟
فالعامل والموظف المسلم، مُطَاَلبٌ بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنية العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. (الأنعام: 162-163).
بل تجد كثيرا ممن أنيطت بهم القيام ببعض مصالح الناس، من موظفين ومسؤولين، على مكتبه جالسا بادئ السآمة، يجيئه الناس لحاجاتهم، فيُرجئ ما يشاء، ويهمل ما يشاء..
إلى أمثال هؤلاء، نقول لهم إن الدولة - أو الناس - قد وضعتكم في هذه الوظيفة لتيسروا للناس أمرهم لا لتعرقلوا مصالحهم فأين الإحساس بالمسئولية والأمانة التي في أعناقكم؟ نقول لهم إن أنتم عسرتم على المسلمين أمورهم فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد دعا عليكم ودعوته عليه الصلاة والسلام مستجابة، قال"اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)) ،"من ولَّاهُ اللَّهُ شيئًا من أمرِ المسلمينَ، فاحتجبَ دونَ حاجتِهِم وخلَّتِهِم وفقرِهِمُ، احتجبَ اللَّهُ دونَ حاجتِهِ وخلَّتِهِ وفقرِهِ وفي روايةٍ أغلقَ اللَّهُ أبوابَ السَّماءِ دونَ خلَّتِهِ وحاجَّتِهِ ومسكنتِهِ"
المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح – رقم الحديث 3655 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
وهذا الحديث مع ما يتضمنه من وعيد لمن يشق على عباد الله المؤمنين، فيه أيضاً بشرى لمن يسَّر على المسلمين أمورهم، فلكل من شق على المسلمين نقول له أبشر بمشقة من عند الله يسلطها عليك!!! ولكل من يَسَّر على المسلمين أمورهم نقول له أبشر بتيسير من عند الله لك.
فلا قيمة ّإذن، لأحدث الآلات والتقنيات، وأحسن القوانين في الإدارات والمرافق العامة، إذا تولى هذه الإدارة وهذه المرافق، قلب خَرِبٌ، وفؤاد مستوحش مقطوع عن الله، مولع بشهواته ومصالح نفسه.
وما حققت الأمم نهضاتها، إلا لأنها استطاعت أن تستثير قوى النفس، وجعل أبنائها وموظفيها كخلية النحل نشاطا ونظاما..