إن في كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وفي كل كائن من الكائنات لآية باعثة على الهدى وإن في ذلك التنسيق البديع والتوافق بين سائر الكائنات لتوائم حياة الإنسان وسعادته فوق الأرض لآيات وآيات كثيرة تبعث على الاهتداء إلى الحق وإن في القرآن الكريم وما حوى من دلائل وبينات وما جاء فيه من موعظة وآيات تحيي القلب وتشفي الصدور وتهدي إلى الحق والصراط المستقيم ولكن هذه الآيات وتلك لا تتضح ولا ينتفع بها إلا القلب المؤمن فالكفر حجاب وحاجز كثيف يمنع من دخول نور القرآن في القلب ويمنع كذلك من الانتفاع بالآية الهادية في هذا الكون فإذا زال هذا الحجاب وانكشف ذلك الحاجز انتفع الإنسان بتلك الآيات الكونية، وانفتحت أمامه أيضاً كنوز القرآن من الهدى والمعرفة .
وقد جاءت آيات كثيرة تبين أن المؤمن هو الذي ينتفع ويستفيد من الذكرى ومن هدى القرآن، ومن الآيات الباعثة على الهدى في هذا الكون:
قوله تعالى:"طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" (النمل: 1 ـ 2). وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس: 57) . وقوله عز من قائل:" قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف: 203) . وقال تعالى:" قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(النحل: 102).
وقد أشارت هذه الآيات ـ وغيرها من الآيات في هذا المعنى ـ إلى معنيين رئيسيين هما:
الأول: وهو أن القرآن الكريم فيه بيان وإرشاد لطرق الهداية، وإنه زاجر بما فيه من الترغيب والترهيب، وارتكاب المعاصي، وإنه شافي لما في الصدور من الأمراض المفضية إلى الهلاك والشك والشرك والنفاق والضلال.
وأنه هدى من الضلالة إلى الرشد والحق، وأنه يزيد المهتدي هدى، وأنه تثبيت أيضاً للمهتدين على الهدى، وهو أنه رحمة للناس بكل ما حوى من أوامر ونواه واعتقادات وعبادات وأنه نجاة لمن آمن به من عذاب الله وسبب في فوزه ودخوله الجنة.
الثاني: أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بهدي القرآن، ويستفيدون مما حوى فيهتدون بهديه ويسيرون وفق هداه، فيهتدون إلى صراط مستقيم دون غيرهم من الجاحدين والكافرين به الذي هو عليهم عمى وضلالة وغم وخزي، وفي الآخرة جزاءهم على الكفر به الخلود في لظى، وقد صرح القرآن الكريم بهذا المعنى في آيات منها: قال تعالى:" هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"(فصلت: 44) . وقال تعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا" (الإسراء: 82) . وقال تعالى: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة : 124 ـ 125).
هذا بخصوص هداية القرآن وأن المؤمنين هم المنتفعون بهديه، وما حوى من آيات، وأما عن الآيات الكونية وأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بها ويهتدون بما ترشد إليه من التوحيد، ومن إضافة صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، فقد جاء في مثل قوله سبحانه: قال تعالى: "أَلَمْ يَرَوْ اْإِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل: 79). إن مشهد الطير وهي تحلق في جو السماء "مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ" مشهد عجيب بديع ذهب ما به من عجب: الإلفة والتكرار، ولكن قلب المؤمن هو الذي يشعر بإبداع الخلق والتكوين، ويدرك ما فيه من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر، ويدرك قدرة الله وإبداعه وحكمته فيما أودع فطرة الطير من سنن تمكنها من الطيران، وما أودع الكون من حولها من سنن مناسبة لهذا الطيران. (في ظلال القرآن، 4 / 2186)
ومثل قوله سبحانه وتعالى: "أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النمل : 86). ومشهد الليل الساكن، ومشهد النهار المبصر، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجداناً دينياً يجنح إلى الاتصال بالله الذي يقلب الليل والنهار، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان.
وقال سبحانه وتعالى مبيناً إنتفاع المؤمنين بما في السماوات والأرض من آيات، قال تعالى: "إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (الجاثية : 3).
وإذا كان الإيمان سبباً في إهتداء العبد إلى الحق، وانكشاف الحجب أمام بصيرته، فإنه كذلك سبب في هدية الله في العبد وإعانته وتوفيقه وزيادته هدى إلى الصراط المستقيم، وتثبيته عليه، وقد جاءت آيات كثيرة تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها، منها: قوله تعالى: " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن : 11). وقال عز من قائل: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (يونس : 9). وقال تعالى: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء" (إبراهيم : 27).
وبين سبحانه وتعالى صفات المؤمنين الذين يهديهم فقال: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (البقرة : 2 ـ 5).
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في كثير من مادته على كتاب: "الإيمان بالقدر"، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته من كتاب: "في ظلال القرآن"، لسيد قطب.