إن مجتمعًا يقبل بالرداءة، ويصفّق للرديء، ويكرّم أهل الرداءة، وينتخب رموزها، وقدراتُه وثرواته ومفاتحُ خزائنه في أيدي أرَاذِلِهِ، لا يمكن إلا أن يكون مجتمعا سَفيهاً، ولن يستطيع أن ينهض ولا أن يبني مجدا، أو يحقق تنمية أو يكون له وزنٌ دولي، لأن القانون القرآني يقول بوضوح : "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا" (سورة الأعراف:58).
هل نحن فعلاً في زمن السنوات الخدّاعات التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرّف بعض علاماتها؟ تلك العلامات التي يمكن تلخيصُها في كلمة "الرّدَاءَة "، التي باتت تحاصر أبصارنا و أسماعنا وأفكارنا، ونراها في بيوتنا وشوارعنا وأسواقنا وإداراتنا وإعلامنا وفي السياسة والثقافة والأخلاق والمعاملات وفي المظهر والمخبر حتى أصبحت بمثابة الطاعون أو بمصطلح العصر "أنفلونزا" التي هي من أكثر الأمراض انتشاراً..
معنى الرّداءة
رداءةُ الطَّبع: فسادُه، ورداءةُ الملبس: قُبْحُه.. والرديءُ من الناس: الخسيسُ و الحقيرُ والمكروهُ والرديءُ من الطبيخ: أسوأه، والرّديءُ من الأخلاق: أرذلُها. وأرْدَاهُ: أي أهْلكَهُ وأسْقَطَه في منخفض من الأرض، ولهذا فالرّداءة هي سُقوطٌ معنوي، يسقط صاحبُها من عيون الناس، ويفقد قيمته مما يجعله مرفوضًا اجتماعيًّا.
الرسولُ ينفي عن المسلم الرداءةَ
تتنافَى الرداءةُ مع الالتزام الديني، لا يمكن للملتزم أن يتلطّخ بالرداءة، لا في سلوك ولا في معاملات لا في قول ولا فعل، لأنه مكلّف بالاستقامة وأن يكون مع الصادقين وأن يقول للناس حُسْناً وأن يؤدّي الأمانات إلى أهلها وأن يتقي الشبهات. والرسول صلى الله عليه وسلم ينفي في كثير من الأحاديث، الرداءة َعن المسلم، كما في قوله "المسلم ليس بالفاحش ولا المتفحّش" و"المؤمن ليس باللعّان ولا بالطعّان ولا الفاحش ولا البذيء" و"المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" و"من غشنا فليس منا" وهذه جميعها من مفردات الرداءة والبذاءة التي يحرص المسلم الصادق على تجنّبها طاعةً لله ولرسوله.
بل نرى الرسول صلى الله عليه وسلم ينسب الرداءة إلى المنافق، في قوله عند تعريف خصال المنافق: "آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وفي رواية: "وإذا عاهد غدر". والكذب وإخلاف الوعد والغدر والخيانة هي من أخلاق الرديء.
ورب سائل يسأل: ما الذي يجعل المسلم يتعالى عن مجاراة الرّديء من الناس وينأى بنفسه عن الرد عليه عند استفزازه؟ ولا يقابل الرداءة بالرداءة، ولا البذاءة بالبذاءة؟ لا شكّ هو خوفه من الله، ومن الحساب، ومن إحباط العمل. سَبَّ رجلٌ أميرَ المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، (أي مواطن يسبّ رئيس البلاد) فقال له سيدنا عمر: لولا يوم القيامة لرددتُ عليك. إذن ليس عجزا ولا ذلة، ولكنه الخوف من إضعاف الرّصيد بذهاب الحسنات.
الرداءة، مطلب استراتيجي؟
نجد ضمن القائمة التي أعدّها المفكّر الأميركي"نعوم تشومسكي" واختزل فيها الطّرق التي تستعملها وسائل الإعلام العالميّة للسيطرة على الشّعوب اختزلها في 10 استراتيجيّات أساسيّة، والتي من أخطرها: تشجيع الناس على استحسان الرّداءة والقبول بها وأن يقتنع الناس بأنّه من الرّائع لهم أن يكونوا أغبياء، همَجً اوجهَلة وفوضويّين، رِعاعاً كالقطيع.
شواهد وعناوين من واقع الرداءة.
في الواقع، شواهد بالصوت والصورة وبالألوان تترجم وتفضح تنفيذ هذا الخيار التآمري، "التشجيع على الرداءة " في كل ما حولنا وفي كل ما يتصل بالحياة، ففي الملبس: ظاهرة بيع وتسويق والإشهار للملابس الممزّقة أو مايسمّونها ب"الملابس المَقْصُوفَة" وكأنها اخترقتها رصاصات قناّص، وفي الهيئة: ظاهرة حلاقة القزَع التي أفسدت رؤوس الشباب، وفي الخطاب والتحاور وما تزدحم به صفحات التواصل الاجتماعي من نشر صور خاصة، وظاهرة جمعيات "الفيمن"، وتلطيخ الجسد بالوشَم.
وماذا يقدم الإعلام للناس غير رموز الرداءة كقُدوات؟ ونشر ثقافة الرداءة؟ أليس من الرداءة أن يظهر شخص بعد الثورة في برنامج حواري خاص بأصحاب الجرأة؟ ويتبجّح بلا حياء ولا خجل ولا خوف من مقاضاة ولامن متابعة، ويعلن صراحة بأنه عضو في جمعية مرخّص لها؟ تتجسّس على خطباء الجمعة وترفع تقارير إلى الداخلية؟ وأليس من الرداءة أن يسقط وينخدع بعض المصلين في الفخ، ليتولّوا بسذاجة وغباوة المساهمة في تنفيذ العملية؟
أليس من الرداءة، أن يشاهد المارة والمشاهدون على المواقع الالكترونية، امرأة تصفع أمام جمهور رديء، معتمَدا، ولا تستحي أن تقول أنه يتحرّش بها؟
أليس من الرداءة أن ينشر بعض الآباء صورا لأبنائهم الصغار وهم يرضعون علب "السلتيا " ويدخّنون؟ أليس من الرداءة أن يتمايل من سُكْرٍ، مثقفٌ في برنامج حواري، يُبثّ على المباشر؟ أليس من الرداءة والبذاءة أن يُفسَح المجال لقليلي وقليلات الحياء، في برامج تبث على الهواء وتشاهد من طرف الكبير والصغير، ويطلب منهم نشر غسيلهم العائلي وفضائحهم، وما ستر الله عليهم ؟
المؤسف أنه حيثما التفتَ المرءُ، إلا واصطدم بمظاهر رديئة، وحيثما ألقى السمع، إلا وتقزز من بذاذة ما يسمع، وحيثما قلب بصره في الإعلام المرئي والمكتوب إلا واستفزته عناوين الركاكة والخيانة والفساد، وصور الخلاعة والعُرْي، وحوارات الدّجَل والفضائح.
والسؤال المرّ: إلى أين نحن سائرون، أو بالأحرى: إلى أين يسيرون بنا ؟ وماذا يُرادُ لنا؟