تقوم فلسفة الدين على الإيمان بثلاث ثنائيات تحقق الانسجام للإنسان في هذا الوجود، الإيمان بالمطلق في مقابل النسبي، والإيمان بالحياة الأخرى في مقابل الحياة الدنيا، والإيمان بالبعد الروحي للإنسان في مقابل البعد المادي.
المطلق هو الموجود القائم بذاته وليس قائمًا بغيره، هو التامّ والكامل والمتجاوز للزمان والمكان، أمّا النسبيّ فهو ما ليس قائماً بذاته وإنما هو في حاجة إلى غيره، ويتوقّف وجوده عليه، وهو مقيَّد وناقص ومحدود، ومرتبط بالزمان والمكان، ويتغيّر بتغيّرهما.
المطلق هو الكائن اللامتناهي، هو المُتّصِفُ بالكمال المُطلق، هو الله الذي خلق كلَ شيءٍ، وما عداه من مخلوقات نسبي ناقص، وعلى رأس هذه المخلوقات الإنسان، ولا يمكن أن نفهم النسبي إلا بالإيمان بوجود مطلق كامل، وقد تنوعت الأدلة التي ذكرها الفلاسفة على وجود الله، منها الدليل الكوني، والدليل الوجودي، ودليل النظم أو العناية أو الغاية، والدليل الأخلاقي، وغيرها من الأدلة التفصيلية.
أما الثنائية الثانية فهي الإيمان بالآخرة في مقابل الدنيا، فالحياة ليست هذه التي نعيشها فقط، وإنما هناك حياة أخرى تحقق التوازن مع الحياة الدنيا، إذ لدى الإنسان كما يرى كانط شعور فطري بالعدالة، والعدالة تقتضي أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء.
ولما كنا في الحياة الدنيا نجد أن هناك محسن لا يثاب ومسيء لا يجازى، كان لا بد من وجود حياة أخرى امتداد لهذه الحياة، تتحقق فيها تلك العدالة.
أما الثنائية الثالثة فهي الإيمان بالبعد الروحي للإنسان في مقابل البعد المادي، والدين هنا يسعى إلى تحقيق التوازن في حياة الإنسان بين هذين العنصـرين، الباطن والظاهر، الروح والجسد. وتعاليمه تستجيب للحاجات الروحية للإنسان والمادية معاً. وإغفال واحدة منهما لا تحقق للإنسان التوازن في الحياة ولا الانسجام مع الكون.
إن أي اختلال في تلك الثنائيات الثلاث سيجعل الإنسان أقل انسجاماً مع الكون ومن ثم أقلّ سعادة في الحياة، فالقطيعة مع المطلق تضعفه، والقطيعة مع الآخرة تفقده الطمأنينة والشعور بالعدالة، والقطيعة مع الروح والأخلاق تفقده معنى الحياة.
وتأتي فلسفة العبادات في الإسلام كقسم من الأقسام الثلاثة له، وهي العقائد والشعائر والشريعة، والعبادات هي الشعائر الأربع من صلاة وزكاة وصيام وحج، وقد سميت شعائر لأنها بمثابة الشعيرة والعلم التي تميز هذا الدين من غيره، فالعقائد في الباطن لا نراها، وما في الشريعة من أخلاق ومعاملات حسنة قد توجد عند كل الأديان، ووحدها الشعائر هي التي تميز ذاك الدين من غيره.
ولما كانت العقائد هي التصورات لعالم الغيب، والشريعة هي التنظيم لعالم الشهادة، فإن العبادات هي عامل الوصل بين عَالَم الغيب و عَالَم الشهادة، فيتحقق للإنسان الانسجام مع الكون بأكمله، ما يدركه منه وما لا يدركه، ما فيه من قانون تحكم عالم الشهادة وما فيه من قوانين في عالم الغيب تؤثر في عالم الشهادة كتأثير الترس على الترس الذي يليه، فلا يرى الإنسان إلا نتيجة آخر ترس يلامس حياته.
ولما كانت الصلاة هي أعظم ما يحقق هذا الاتصال بعالم الغيب، وكان الدعاء هو ركيزتها الأساس، كان ذلك الاتصال بمثابة التجاء لمن يدير الكون طلباً للاستعانة به في إدارة حياتنا.
إن من أهم مقاصد الصلاة ذكر الله، وذكر الله تعني ببساطة أن تذكره كلما طالت بك الغفلة، فتتذكر في تلك الصلاة أنك هناك إله، وما دام هناك إله يراقبك ويحاسبك فإن أفعال الشر قد تتخفف عنك، وأفعال الخير تزداد، وهذا هو المقصد الثاني من مقاصد الصلاة، تزكية النفس وتهذيبها وتفعيل الرحمة فيها كلما أقستها الحياة، وبالتالي تصير أفعال الإنسان تراحمية لكل من حوله، وهذه هي الثمرة الأخلاقية للصلاة، وإن لم تتحقق كانت عبارة عن شجر بلا ثمر.
أما الزكاة فهي اتصال مع الخلق، في مقابلة الصلاة التي هي اتصال مع الخالق، فالزكاة في تعريفها البسيط عطاء دون مقابل من كل ما وهبك الله، وفي العطاء بلا مقابل تحقيق للذات وشعور بمعنى الحياة، ولا يصح حصر الزكاة في الانفاق المالي فقط، لأننا بذلك سنحرم عدداً كبيراً منها وهم الفقراء الذين لا يملكون المال، ولكن الله سبحانه وزع عطاياه ونعمه لكل إنسان، فمن حرمه نعمة أعطاه غيرها، فهذا مال وذاك علم وذاك صحة وذاك مهارة،... ومن هنا نعلم اتساع مفهوم الزكاة الذي يجعل حتى ابتسامتك في وجه أخيك صدقة.
والزكاة اقترنت في كل مواضعها في القرآن -عدا موضعين- بالصلاة، وذلك لأنها عبادة يومية لا سنوية، فكما أن الاتصال مع الله يومي، فكذلك الاتصال مع خلقه والعطاء لهم دون مقابل يومي، وفعل الزكاة ينمي عند الإنسان الإيمان بالله، لأنه يعطي ذلك ويستشعر أن هناك إله راض عنه بذلك الفعل ومثيباً له، وهنا نلاحظ هدف الزكاة هو الصلاة، كما أن هدف الصلاة هو الزكاة..
أما الشعيرة الثالثة فهو الصيام، وهي عبادة سنوية، تأتي في المنتصف بين الشعيرتين اليوميتين الصلاة والزكاة، وبين الشعيرة العمرية وهي الحج، وكأننا بحاجة لتنوع الشعائر التي تطهرنا وتزكينا في محطتنا اليومية والسنوية والعمرية.
الصيام كما ذكرت الآيات هدفه التقوى، والتقوى هي ما يحجز الإنسان من الوقوع في الأخطاء، وخاصة تلك الأخطاء التي تأتي من قهر غريزتنا لنا، فالغريزة تقهرتنا والعادات تستبد بنا، وكان لا بد أن نتحرر من ذلك قدر المستطاع، ومن هنا جاءت هذه العبادة لمتنعنا مما تشتهيه تلك الغريزة من أكل وشرب وجماع في مدة معينة من النهار، وعلى امتداد شهر كامل، يتحكم الإنسان بعاداته ويسيطر عليها، وبالتالي يكون أكثر حرية لإرادته، يجوع والأكل أمامه، ولكنه لا يأكله رغم كل العوامل الدافعة لأكله، إنه إحدى الفوارق الأساسية بينه وبين الحيوان، فالحيوان إن جاع وكانت فريسته أمامه فإنه سيأكلها، لأنه لا يمتلك إرادة، بينما الإنسان يمتلك تلك الإرادة التي تحتاج إلى تحرير لها بين حين وآخر حتى لا تفتر.
أما الحج فإنه الشعيرة العمرية التي يغتسل فيها الإنسان ويتطهر من ذنوبه التي قصر فيها مع الله، فيعود بتلك الشعيرة بحياة جديدة، وشعور بالأمل جديد، إنها باب كبير للتوبة يقف فيها في عرفات يومه ذاك ليتضرع ويتذكر ويتفكر، ويعزم على الحياة الجديدة ورد كل مظلمة، ومسامحة من أساء إليهم، لينطلق خفيفاً من جديد في ترسيخ قيم الحق والخير والجمال في هذا الوجود.
إن شعيرة الحج كغيرها من الشعائر السابقة لها ذلك الهدف الأخلاقي الذي تنعكس ثمرته على معاملة الناس ، وكذلك هي أعظم زاد وخير زاد للتقوى.
إن حالة الطواف حول الكعبة باتجاه عكس عقارب الساعة، أي بنفس اتجاه دوران الأرض حول نفسها، ودورانها حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض، ودوران الكواكب داخل المجموعة الشمسية، وربما المجموعة داخل المجرة، يذكرنا بما يثمره ذلك الدوران من جاذبية بين كل تلك الكواكب والأقمار، فهل ندور حول المركز الذي اختاره الله لنا لتزداد جاذبيتنا نحوه!! هكذا أظن..
إننا لا ندور حول أحجار بعينها فقد تزال تلك الأحجار وإنما ندور حول مكان لا يمكن إزالته، وتعبدات الزمان والمكان لا يمكن إزالتها، ولأننا نسبيون فإننا محصورون بين جداري الزمان والمكان، ولو تجاوزناهما تماماً لتحولنا المطلق، ومن ثم فقد كانت الرمزية للإله المطلق رمزية زمان ومكان لا ندرك سر اختيارهما تماماً، ولكننا نؤمن بما وراء تلك الرموز من إله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.