كتب الدكتور: محمد ولد المختار الشنقيطي مقالا تحت عنوان: (فضائل الثّورة والفقه السّياسي المُرهَق). فيرى بأنّ فِقْهَنا السّياسي في مجال الثّورة على الظّلم: فِقهٌ مرهَق، وأصبح عبئًا ثقيلاً لا مصدرًا مُلهِمًا، ويعود بنا تاريخيًّا إلى "مذابح الأمويين" ضدّ معارضيهم، والتي زرعت في الأمّة روح التشاؤم الدّفين في الثقافة الإسلامية لتعطيل أيِّ جُهدٍ للإصلاح السياسي مهما كان متعيّنًا، وضاعفَ هذا التشاؤمَ المعارضةُ المسلّحة للخوارج، التي استباحت المجتمع كلَّه بحجّة تخليصه من الجور السّياسي.
وهكذا أصبح الخوف من الفتنة كابحًا عقليًّا ومُعطِّلاً، يستبطنه العقل المسلم في كلّ الأحوال، وهو ما أدّى إلى تضحية العقل الفقهي بـالشرعية السياسية للحاكم حفاظًا على وَحدة الأمّة الموهومة وعلى الأمن والاستقرار الموهوب، ويا لها من صفقةٍ خاسرة!!
ويعتقد أنّه لا توجد فتنةٌ أعظم من الاستبداد، وقد أدرك ذلك الشّهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما حينما كتب إلى معاوية مرّةً فقال: (وما أظنُّ لي عند الله عذرًا في ترك جهادك، ولا أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمرَ هذه الأمّة) (ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 14/206).
ولو أنّ فقهاءنا تعاملوا مع سلطة الأمر الواقع، ووضعوا القبول بالاستبداد ضمن فقه الضّرورات المؤقتة، وميّزوا بين (الطّاعة الواجبة) و(طاعة الضّرورة) لما كان عليهم من حرَج، فللضّرورة أحكامها، والضّرورة تُقدّر بقدرها.
ولكنّهم أوغلوا في الكبح، وأَضْفُوا شرعيةً دائمةً على الإستبداد، ومنحوا السّلطة غير الشّرعية حقوق السّلطة الشّرعية، بل وأوغلوا في ذلك إلى درجة: الطاعة المطلقة لولي الأمر، وتوسّعوا في الحديث عن حرمة (الخروج على الحاكم) وخطورتها، ولم يتحدّثوا عن كبيرة (خروج الحاكم عن الأمّة) وجريمتها، إذْ "الطاعة في المعروف"، و"لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.".
وهو بابٌ واسعٌ من أبواب التدليس والتلبيس وقع فيه البعض، كما هو حالُ بعض المتفيْقهين المعاصرين.
ويعتقد أنّ مصدر هذا الانحراف الخطير في فقهنا السياسي، هو اختلالٌ في الذاكرة التاريخية، بسبب الانقلاب على دولة النّبوة والخلافة الرّاشدة بالمُلك العَضُوض، الذي قاومه خيرة الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدث في ثورة الحسين بن علي، وثورة عبد الله بن الزبير، وثورة أهل المدينة ضدّ يزيد، وثورة التوّابين بالعراق، ثم ثورة الفقهاء بعد ذلك بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث.
لكنّ الفقه الذي دُوِّن واستقرّ عليه الرّأي هو ما كان بعيون الملوك وأمراء السّلطان، فالفقه كما التاريخ يكتبه دائمًا الغالب على حساب المغلوب، فطعنوا في شرعيتها الأخلاقية بناءً على عدم نجاحها العملي، وهذا اختلالٌ كبيرٌ في التوصيف الفقهي والميزان الأخلاقي، لأنّ عدم نجاحها لا يطعن - بالضّرورة - في سلامة مقصدها وشرعية فِعلها، للخطأ الشّائع في الحُكم على الأفعال بنتائجها وثمراتها لا بشرعيتها ومبادئها، مع أنّ الله عزّ وجل لم يضمن النّصر الدنيوي لكلّ مَن جاهد في سبيله، وإنّما ضمِن له إحدى الحسنيْين: إمّا النّصر وإمّا الشّهادة. فالأحكام الشّرعية تُبني على سلامة المقصد وشرعية العمل، أما الثّمرات الدنيوية فهي ليست مضمونةً دائمًا، ولو كانت الأحكامُ الشّرعية مبنيّةً على النتائج لاعتبرنا غزوة أُحُد إثمًا، وغزوة مؤتة انتحارًا.
وقد برهن "ابن خلدون" على بصيرته الشّرعية وحسّه السّياسي عندما تجنّب هذا المنزلق في الخلط بين الخطأ والخطيئة، فاعتبر استشهاد الحسين رضي الله عنه في كربلاء "خطأً دنيويًّا لا خطيئةً دينية" (مقدمة ابن خلدون، ص 217)، أي أنّه قصورٌ في الخطّة والأداء، وليس تقصيرًا في الشّرع والمبدأ.
وهذه القاعدةُ تصْدُق اليوم على كلِّ مَن يثور ضدّ الظّلم السّياسي، ويستخدم كلّ الوسائل الشّرعية في ذلك، سواءٌ نجح في إزاحة الظلم وتحرير الأمّة من الاستبداد؟ أم لا؟ وهذه المعادلة في التمييز بين "القصور" و"التقصير" وبين "الخطأ" و"الخطيئة" هي التي تعوز الجامدين من فقهائنا اليوم، والذين ارتهنوا إلى خلاصاتٍ فقهيةٍ تناقض مبادئ الإسلام في: العدل والحرّية والديمقراطية.
ومهما يكنْ فإنّ أولئك الصّحابة رضوان الله عليهم الذين حمِلوا السّيف ضدّ الاستبداد أفقه في الإسلام من أيّ فقيهٍ متحذلقٍ اليوم.
إلاّ أنّنا لا ندعو اليوم إلى مذهب السّيف بالخروج المسّلح على الحكّام، وإنّما تسَعُنا الصّياغة الفقهية للمعارضة السّياسية القانونية والثورة الشّعبية السّلمية، وفق ما تسمح به الدساتير والمواثيق الدولية والحقوق السّياسية والمدنية المنصوص عليها