الشذرات الصغيرة، قطع الفسيفساء البهيّة التي ترسم منظراً آسراً وأخّاذاً، قطع البازل التي يركبها الأطفال: مشاهد تصنع الجمال والجلال والبهاء رغم أنها قطع صغيرة متناثرة يُعاد تركيبها فتشكّل لنا لوحةً جميلة رائعة.
تلك اللوحة مثال للمشاركة الجماعية في الأعمال المجتمعية حين تجتمع نحو تحقيق الأهداف، فتسير برؤى واحدة، وأهدافٍ مختلفة متّسقة مع رؤية الوطن وأهدافه الكبرى، ولن تزداد اللوحة جمالاً إلا بعد تكاتف جماعي، وترابط مؤسسي، وجهودٍ فردية وجماعية كبيرة.
فلو أن كل واحدٍ أخذ قطعة فسيفساء صغيرة دون أن يوظفها في مكانها المناسب لَمَا تحقق الهدف، ولَمَا توافقت الرؤية، ولكان المشهد قبيحاً غير متجانسٍ ولا مترابط ولا متكاتف: فوضى من فوقها فوضى!
هذه القطع الفسيفسائية هي جيل الشباب اليوم الذي يمثل "زمن الأبطال الصغار" الذين يضيفون للحياة معانٍ مختلفة، وجهوداً مضنية، وبوارقاً لامعة، وأفكاراً مبدعة من خلال مشاريعهم المتخصصة والدقيقة التي يهتمون بها في عالم اليوم، ويتصدرونها بإبداعاتهم والتي باتت هي أعمال ووظائف ومهن المستقبل بلا منازع.
نحن فعلاً نحتاج إلى جهود عشرات الآلاف من الشباب للعمل في آلاف المهن والاختصاصات والمهارات المستقبلية لتغطية ثغرات العجز التي مُنيت بها أمتنا، ولا مجال في عصرنا اليوم للشخصية السوبرمانية التي تفهم في كل شيء! وتعمل وتنجز كل شيء!.
لقد مضى العهد الذي كانت تنتظر فيه الأمة القائد العظيم المخلّص الذي ينهي كل أزماتها، ويحل كل مشكلاتها، فيقودها في الحلبات والمحافل سياسياً، وينتصر في المعارك عسكرياً، ويرفع أسهمها اقتصادياً، ويمشي في الأسواق يلبي حاجات ورغبات الناس!
إن هذا العهد قد كان نافعاً في زمنٍ مضى، يوم أن كانت العلوم محدودة، والمخاطر معدودة، والأعداء ثلاثة، والتخصصات طبٌ وهندسة، ويوم أن كانت الحرب خشنة بالدبابات والمدافع والطائرات، أما وإن صار الصراع بأدواتٍ حضارية قوامها التقنية والأدوات الناعمة، والاختراقات الإلكترونية، والحرب النفسية، والإعلام المضاد، وهندسة السيطرة فإن ذلك يوجب علينا أن ندفع بآلاف الشباب إلى دراسة هذه الأدوات، وزجهم في أتون المعركة بعد أن يُتقنوا مهارات رماياتها وقصفها وتحديد إحداثيات أهدافها.
إن من واجب الأمة وسادة الحركة الإٍسلامية وقادتها أن يفتحوا المجال للشباب لسدّ ثغرات صغيرة في جدار الأمة الكبير عبر تشجيعهم على تأسيس المراكز والتجمعات الشبابية والمؤسسات الفكرية والعلمية والرياضية بعد أن يتشبّعوا بفكر الرسالة الأصيل، ولتقطع عنهم حبلها السُّريّ لينطلقوا بنشر أشرعة الرسالة ويبشّروا بحضارة الإسلام القادمة.
وإنّه لفكرٌ متقدّم أن تدع الحركة الإسلامية أبناءها إطلاق مشاريع صغيرة تحمل فكرها ورسالتها وبعضاً من دورها ولا ترتبط بها تنظيمياً؛ حتى إذا هوجِم الرأس وضُرِبت الحركة لا تتأثر هذه المشاريع وتبقى تمارس دورها بشكلٍ طبيعي وقانوني!
ولقد آسفنا حال بعض الحركات الإسلامية التي تُقصي الشباب، ولا تعير لهم بالاً، ولا تُقدّم لهم قدماً، ولا تسمعُ لهم خطاباً، بل تمنعهم من الإدلاء برأيهم، أو الحصول على موقعٍ متقدمٍ في هياكلها، وترفض كل ما يأتي من خلالهم، بل تقدّمُ من بلغ في السن الثمانين، وتسمع له وتُذعن، وتعطيه القيادة لجيلٍ وُلد في يديه iPad – Apple
إن هؤلاء الشباب يستطيعون – بإذن الله – إنجاز الكثير من الأعمال الصغيرة التي تشكّل من مجموعها أعمالاً كبيرة، وأهدافاً جليلة، ويسدّون ثغرات هامّة لا يحسب لها أحدٌ حساب، ويراكمون النجاحات فوق النجاحات، ويصنعوا تغييراً لازماً في مجتمعاتهم من خلال التأثير في فئة ما زالت هي الأكبر في عالمنا العربي، ولكنها تحتاج من يفهم لغتها في عصر الإنترنت، وإن القيادة الحاضرة لمدعوّة أن تخاطب الجيل اليوم بلغة العصر وإلا فإنه سيتجاوزها إلى قيادة أخرى تعرف كيف تدخل إلى عالم الشباب!
إنّه "تركيب الشظايا" يا سادة كما عبّر عنه أستاذي الراشد.. وإنّه مقاربة "قطع الحبل السُّريّ" كما سماها خليفة النحناح في الجزائر د. عبد الرزاق مقري..