كان الناس قديمًا مشغولين بثلاث: قوت يومهم، صِلَتهم بربهم وعلاقاتهم ببعضهم.
هذه النوافذ الثلاث هي في الحقيقة مُنتهى أشغالهم على مدار الأيام! وتحقيقها على الوجه المرجو هو آخر أمانيهم في الحياة! وهم يُدركون هذه الحقيقة تمامًا، ويؤمنون بقدسية هذه النوافذ من أعماقهم، ويُسَلِّمون بأحقيتها في ترتيب الأولويات، لذلك لا نجدهم يتقهقرون عن الجد في خدمتها أبدًا، ولا يترددون في إنفاق الأوقات والأعمار لضمان سلامتها والإبقاء على قوامها في حياتهم، بها يُغرِّدون ويَتواصون، وبصحبتها يَحِلُّون ويرتحلون، وعلى ضوئها يُصبحون ويمسون، على ذكرها تغفو عيونهم! وعلى ترانيمها تصحو وتتفتح!
نعم... إنها تستغرق هِممهم واهتماماتهم وجُلَّ تفكيرهم! منها تتقد شرارة الحياة في مساكنهم ومزارعهم ودواوينهم، وعليها تخفتُ وتنطفئ آخر المطاف، ولا نكون مخطئين لو قلنا: إنها تستغرق أيامهم وأحلامهم وأعمارهم ومسيرة حياتهم كلها.
ومع التفرغ شبه الكامل لهذه الثلاث فكريًا وجسديًا وروحيًّا إلا أن تحقيق الأول منها لم يكن سهلَ المنال، ولا طَيِّعَ النزال، فالقُوت الذي يطلبونه صعبُ التحصيل رغم بساطته؛ ولأجله كثيرًا ما تُرهق أبدانهم، وتتزلزل في طلبه قُواهم، إنهم يكدحون من طلوع الفجر حتى يرميهم التعب، فيخلدون إلى الراحة قليلًا؛ لأجل أن يعاودوا النزال والمتابعة مرةً أخرى، يكابدون عناء الحياة مرة بعد مرة، بلا كلل ولا ملل، ولا سآمة ولا سخط، فالرضى يعلوهم، والطمأنينة تخالط قلوبهم، وحُبُّ الحياة على هذه الشاكلة يَشُدُّ على هممهم وقواهم، فيُجالدون الصعاب والمتاعب مستبشرين في كل أحيانهم.
هكذا تدور بهم رِحى الأيام، الفِلاحة والزراعية والرعي والمِهن الصناعية الصغيرة، كلها تحتاج الجهد الكبير، والوقت الطويل، والصبر الجميل! مع البدائية في الآلات والمعدات والوسائل التي يستعينون بها في قضاء حوائجهم وفي تلبية متطلبات مِهنهم؛ لذلك هي فعلًا تستغرق جزءً كبيرًا من أعمارهم واهتماماتهم، رغم أنَّ مطلبهم في النافذة الأولى لم يكن سوى قوت العيال، لا موائد مترفة! ولا فواكه مبذولة! ولا أطعمة مهدورة! ولا مباني عملاقة! ولا سطوح فضفاضة! ولا سقوف ثانوية! ولا حدائق فسيحة! ولا أثاث فاخر! ولا مقتنيات ثمينة!
ثمار زروعهم الموسمية تغنيهم وتسد جوعهم، ونتاجُ مواشيهم يُشبع صغارهم وكبارهم، والبُسط المتهرئة تكفيهم طيلة العمر، والأَسرَّة والملاحف والقُدور والأواني المتواضعة يُوَرِّثونها لأجيالهم عبر السنين والأعوام، الأبناء ثم الأحفاد ثم أحفادهم وهكذا.
صِلتُهم بربهم وخالقهم هي الأكثر استحضارًا في سائر شؤونهم، تجدها حاضرة بعمق وإخلاص في كل فضاء يسيحون فيه، عليه يتوكلون، ومنه يطلبون، وإلى أسمائه الحسنى تَصمدُ قلوبهم وتهفو أرواحهم على الدوام، يلهجون بذكره قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، يُعظِّمونه ويُمَجِّدونه ويَحمدونه، ويستغيثون به سبحانه العظيم الكريم ليحفظ أبناءهم وزروعهم ومواشيهم ومساكنهم وقُراهم، ويعينهم على تمام الحصاد وجمع المحاصيل وعُمران الدور، ويتوسلون إليه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، آناء الليل وأطراف النهار، أن يدلهم على الخير ويوفقهم له، وما أجملها من فطرة!
حين تستمطر القلوب كل لحظاتها العون والتسديد والتوفيق ممن بيده ملكوت كل شيء، وربما سمعنا كثيرًا من تلك الدعوات والتراتيل المنعِشة، على ألسنة من أدركناهم من الشيبان والعجائز الراحلين.
حدثني غير واحد من أبناء القرية التي ننتمي إليها عن الأجداد والأسلاف، وقد أدركت بعضًا مما حُدِّثتُ به عنهم، حين كانوا ينشرون البذور على الصعيد المحروث، ويلجؤون إلى الله متذللين مفتقرين منكسرين، بأن يفتح عليهم بركات السماء، ويُنَزِّل الغيث على هذه الأرض العطشى لتخضرَّ القيعان، وتنبت الزروع التي هي مصدر قوتهم ودخلهم الرئيسي إن لم يكن الوحيد، وإذا حان وقت الحصاد في لهيب الحر كانوا يلهجون بقولهم: "يا رب هواك ودفع بلاك"، تلك كانت واحدة من صور التعلق بباريهم، حين يبذرون وحين يحصدون، وبين الغرس والحصاد دعوات بأن تُحفظ الزروع من الجوائح والنوازل التي تذهب بالزرع وتذروه.
الأهل... والأرحام... والجيران... وأبناء القرية... ينصهرون جميعًا بأرواحهم حُبَّا وعونًا وتكافلًا، يتزاورون ويَتهادَون، يتسامرون ويتناصحون، يعود بعضم بعضًا حال السقم والمرض، يُعين بعضهم بعضًا وقت الشدائد والمحن.
المعدوم فيهم محمول، والمخطئ بينهم مقال العثرة، والغائب منهم مفتقد بالدموع الحارة والمشاعر السخية، والمريض تلاحقه دعوات الشيبان والعجائز، مع تأمين الصغار والكبار على بركة تلك الدعوات الصادقة المخلصة. إنها روح الحياة تجمعهم، وأيّ روح يمتلكون!
يعيشون كالأُسرة الواحدة وإن تباعدت المساكن قليلًا، شركاء في الماء والزاد والرواحل، وفي الثقافة والمعارف والمشاعر أيضًا! أحزانهم معًا! وأفراحهم سويًا! وأحمالهم وهمومهم موزعة على أكتاف سكان القرية، هكذا تشكلت حياتهم حين كانوا هناك! في القرية الصغيرة التي لم تشمّ رياح المدنية يومًا، ولم تنعم بملذاتها ومستحدثاتها التي نراها، ولم تنغمس بصخبها وضجيجها الخانق الذي تعانيه أجسادنا وقلوبنا وأرواحنا اليوم من حيث نشعر أو لا نشعر.
أسفًا... لقد طوينا على عجل صفحات تلك الأيام الغابرة العامرة، وأغلقنا نوافذها الجميلة البريئة الممتعة، وضَيَّعنا حلقات حنينها وأنينها المؤنس، ونكاد ننسى مجموعة القِيم السامية التي كانت تحتضنها تلك القلوب الحيَّة والمساكن المتواضعة، تلاشت أمامنا كلُّ مظاهر التخفف والبراءة والبساطة، لنتوجه نحو الصورة التي نحن عليها اليوم، الصورة المُصَنَّعة والمنحوتة من كلِّ وجوهها ومساحاتها وأبعادها! صورةٌ مختلفة بكلِّ تفاصيلها وأحداثها وألوانها ودقائقها، شَكْلها ومضمونها ونتاجها، وحتى آثارها على القلب والروح والنفس الإنسانية المُرهَقة بكثرة التفاصيل.
عقولنا اليوم مشغولة بل مستهلكة بتفاصيل كثيرة، وربما تافهة وغير جادة، لكنها مع ذلك معقدة ومتفرعة ومركبة حد الجنون! مشغولون بــ"زحام الأشياء" وزخمها من حولنا!
أينما تتجه بنظرك سيشغلك شاغل، في البيت والشارع والسوق ومقر العمل، وعلى الشاشة وفي مواقع التواصل، وفي كل موقف نُعامله ونلامسه ونتفاعل معه، كلها تعج بذلك الزحام والضجيج والصخب.
زخم الأشياء وهديرها مفزع! مرعب! ومن كل صوب! لم يترك للروح والعقل والذاكرة والنفس الإنسانية فرصة للتوقف والتأني والمراجعة والهدوء، لم يسمح للإنسانية والفطرة أن تسمو وتصفو وترتوي، متطلبات النفس ورغباتها وحاجاتها متزايدة ومتغيرة كل يوم! بل في كل ساعة، متجددة ومتراكمة ولا متناهية، التقنية المتفجرة بمختلف تفاصيلها -التي نعرف بعضها- تُشَوِّشُ على كل مفصل من الحياة، التجارة والصناعة والوظيفة مشاغل أخرى، حتى أثاث المنزل ومقتنيات الدار! كلها جعلتنا أسرى لزحام الأشياء من حولنا!
هل تعرفون عدد الأشياء والمقتنيات والتفاصيل المتصلة بالتبريد في المنزل مثلًا؟! وأخرى متعلقة بالتدفئة؟! وأخرى بالضوء والإنارة؟! وأخرى بالطعام والشراب؟! وأخرى بالملبس والزينة؟! وأخرى بالتعليم والدراسة؟! وأخرى بالأثاث والحاجيات؟! وأخرى بالنظافة والتجميل؟! وأخرى بالتُحف والديكور؟!! مع تنوع الألوان والأحجام! واختلاف طرق الاستعمال وتفاوت مدى الاستهلاك.
إنني أشعر بالدوار! زحام مرعب فعلًا!
حياة اليوم جعلتنا مستهلكين بلا حدود، ننفق الآلاف والملايين من الدنانير على ما لا نحتاجه! ونحرص على شراء المزيد والمزيد مما لا تدعو الحاجة إليه أصلًا! وننشط دائمًا نحو التجديد والتغيير والاستبدال، فقط لأن زحام الأشياء يُغَيِّبُ الوعي في العادة، وهوس الاستهلاك المفرط يغري بالمزيد، ويحملنا حملًا على تملك أكبر عدد من السلع والخدمات، والاهتمام بتفاصيل لم يكن لها حضور في قواميس الآباء والأجداد، تعلقنا بعالم الأشياء بشكل عجيب، حتى أصبح ديكور المنزل وحده علمًا مستقلًّا اليوم، وقسمًا معتمدًا في بعض الجامعات العالمية، ليُرتِّب لنا زحام الأشياء، ويُعين العقول ويساعدها على استيعاب الجديد وتنظيمه، ويتحمل عنها قدرًا من الزحام الذي تعجز عن استيعابه.
إننا بذلك الانفجار نُبَدِّدُ كلَّ قدراتنا المادية والاقتصادية على زحام الأشياء الفوضوي المنظم! ونُسرف إسرافًا هائلًا في ميادين لا تمنح نفوسنا السعادة والطمأنينة الحقيقية التي ترجوها، ونبتعد مسافة أميال عن مبدأ الاعتدال في الاستهلاك والاقتصاد في الإنفاق، والأدهى من ذلك هو أننا نزيد من تراكم الضغط النفسي والفكري والروحي في حياتنا، وليس ذلك إلا بسبب تنامي مفردات وتفاصيل الأشياء حولنا دون وعي.
وتبعًا لهذا... سيترتب –بالضرورة- تقصير كبير وهائل تجاه أنفسنا! وفي ميدان صلتنا بربنا! وفي نظام علاقاتنا ببعضنا! فقط لأن ثقافة الأشياء المتزايدة استنزفت كل طاقاتنا، وغابت عن جداولنا روح النوافذ الثلاث، التي كانت عند أسلافنا وحدها محل الاشتغال ومقصد الجد والاجتهاد في الحياة.