استضافت مدونات عمران في صفحتها على الفايسبوك في ساعة فكر يوم الخميس 24 ديسمبر 2020 الدكتور عامر منير الغضبان للحديث عن الأسرة وكيف تواجه أزماتها المعاصرة وقد أدار الحوار الأستاذ شمس الدين حيمود
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحييكم وأرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج ساعة فكر، ساعة كما درجت العادة نسلط الضوء فيها على مواضيع وقضايا تهم العقل العربي والإسلامي، مفككين تراكيبها ومحللين أبعادها، بما يوافق صحيح النقل وصريح العقل.
موضوع اليوم نتساءل فيه عن كيفية مواجهة الأسرة لأزماتها المعاصرة مع الدكتور عامر منير الغضبان، الكاتب السوري المهتم بعلم النفس والاجتماع والكتابة في مجال الأخلاق والدعوة.
أهلا وسهلا ومرحبا بكم دكتور.
أهلا وسهلا بكم وجزاكم الله خيرا على إتاحة هذه الفرصة.
درجت العادة عندنا أن نفتتح أسئلتنا مع الضيوف الأكارم بالسؤال حول جديد الإنتاج العلمي أو الأكاديمي أو حتى العملي، فهل من جديد في قادم الأيام إن جاز لنا السؤال طبعا؟
ليس هناك جديد كبير، أنا لدي اهتمام في مسارين متوازيين والجمع بينهما يحتاج إلى بعض الجهد، وهما مجال البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية من ناحية، والبحث في العلوم الشرعية من ناحية أخرى، فأحيانا عندما أحاول أن أؤلف بعض المواد التي تربط بين هذين المجالين يحتاج هذا مني إلى بعض الجهد والاجتهاد، ربما من الأفكار التي قد يبنى عليها، ولكن قريبا جدا فكرة الاقتداء بالسنة والهدي الإسلامي في بناء النظام الاجتماعي، وكيف نستفيد من الهدي الإسلامي في بنائه، كانت عندي فكرة في فقه الاقتداء من خلال المصادر الإسلامية في هذا المجال، لكن ليس لدينا الآن مشروع متكامل جاهز في هذا المجال، الذي هو الجمع بين العلوم الاجتماعية بشكلها المعاصر والعلوم الشرعية التي تربط الماضي وتؤثر في الحاضر.
دكتور عامر كما هو معلوم انطلقت الحياة البشرية في أول عهدها من علاقة فطرية تكاملية بين زوجين، وكونوا أسرة بشرية كانت الوحدة الأولى في بناء المجتمع البشري، ومن تلك الأسرة الواحدة تفرعت أسر متعددة تجمع بينها علاقات الأصل الواحد، ومن هذه الأسر تكونت القبائل والشعوب والأمم، وكانت هذه هي السنة الإلهية التي فطر الله الناس عليها لإعمار الأرض وتحقيق الاستخلاف فيها، ومنذ تلك البداية والأسرة هي وحدة البناء الأساسية في كل مجتمع بشري، لكن العالم شهد تغيرات واسعة في مجالات العلاقات بين مكونات الأسر، فقدت الأسرة في كثير من المجتمعات -وإن بدرجات متفاوتة- مفهومها في الطبيعة الفطرية، وموقعها في البناء الاجتماعي، ووظيفتها أيضا في التنشئة والتربية.
سنحاول من خلال هذا اللقاء أن نسلط الضوء على مكانة الأسرة وأسس بنائها، ونستكشف أيضا حالها في الظروف الراهنة، وما يحف بها في زمن الانفتاح والعولمة.
لو استفتحت أسئلتي بالحديث حول الأحكام الشرعية والتي هي وسائل لتحقيق مقاصد الشرع الحنيف، وبالطبع محورها صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة، ولذلك يهدف الشرع من تنظيم أحكام الأسرة إلى جملة من المقاصد، دكتور عامر ما هي أبرز هذه المقاصد في رأيك؟
الأسرة سُنة وهي من أعظم آيات الله:
أريد أن أرجع قليلا إلى البداية التي بدأت بها أنت قبل أن أدخل في الجانب الشرعي مباشرة، أقول كما قلت أنت أن الأسرة سنة كانت مع خلق الإنسان، ومن خصوصية هذه السنة أن الله تعالى خصها وجعلها من آيات خلقه، قال الله تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ)[سورة النحل الآية: 27]، هذا في بيان تعداد آيات الله سبحانه وتعالى.
العلاقة الوالدية بين الوالد والولد من دلائل عظم هذا الخلق وعظم هذه السنة، والتدبير الإلهي أن الله تعالى أقسم بها، قال الله تعالى (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) [سورة البلد الآيات: من 1 إلى 3].
الأسرة كبناء وكَظاهرة موجودة مع الإنسان، علمنا القرآن أنها ظاهرة آية فيها شيء من الإعجاز، ترتبط بها منظومة كبيرة من أنماط العلاقات الاجتماعية، وتؤدي عددا كبيرا من الوظائف، والتجربة التاريخية البشرية تؤيد أن الأسرة هي السنة والقانون الأكثر دواما، المرتبط بشكل أساسي بالمجتمعات.
الأسرة كما قلت منشأ الأسر، أسرة فأسرة فأسر، فتَشأت مجتمعات وتكونت منها مجتمعات، وشعوب وقبائل كما وصف ذلك الله تعالى في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ) [سورة الحجرات الآية: 13]، الزوجية في الذكر والأنثى هي أصل في الخلق وارتبط بها أن البشرية تألفت من شعوب وقبائل.
يعلمنا هذا الأمر أن الفرضية التي تقول بأن الأسرة هي خلية في المجتمع بمعنى أنها هي بناء لها وظائف متكاملة، هذه الفرضية لها ما يؤيدها في التجربة التاريخية للإنسان، ويؤيد ذلك ما دلت عليه النصوص الشرعية المختلفة.
الأسرة تربط بين المقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية
المقاصد الشرعية التي تحققها الأسرة، ترتبط بالمقاصد إذا قلنا أن الشرع يحقق المقاصد الخمسة للشريعة الاسلامية، الأسرة تربط ربما بهذه المقاصد الخمسة، إذا تكلمنا عن حفظ الدين فالأسرة هي المؤسسة التي تنتقل فيها الثقافة، والثقافة والدين على الخلاف الموجود بينهما، من هو الذي يحتوي الآخر؟ ولكن بالتأكيد أن الدين مكون أساسي في أي ثقافة، فالأسرة هي إطار ينقل الثقافة ويحتضنها، وقد يكون إطار يطور الثقافة، فهذا جزء من حفظ الدين.
حفظ النسل أمر معلوم، وحفظ العقل أيضا، الأسرة شرط ضروري لبناء الإنسان السوي المتكامل في نموه، العلوم الإنسانية المعاصرة كعلم النفس المعاصر الذي يتحدث عن النموذج الإنساني الإيجابي، وهذا التوجه في علم النفس أصبح يزداد قوة، ولكنه لن يسيطر بعد، تصور هذا الإنسان الإيجابي لا بد أنه نشأ في أسرة، هذا هو العامل الأول الأساسي للنمو السوي لهذا الانسان، وأي نقص في بناء الأسرة سينتج عنه نقص في بناء الإنسان الفردي، وقد يستحيل بل ويصعب تعويضه، ولكن الأسرة هي القانون الطبيعي لنمو الإنسان في جوانبه المختلفة، والعلوم المعاصرة تؤيد ذلك على الرغم من الضجيج الذي تحدثه بعض التيارات التي تنتسب إلى العلوم في هذا الوقت، والتي تقول أن الأسرة ظاهرة قد نحتاجها وقد لا نحتاجها، ولكن الذي أعتقده أن العلوم المعاصرة الإنسانية بشكل عام، تقول أن الأسرة هي شرط ضروري لبناء الإنسان السوي المتوازن في جوانب نموه المختلفة.
وفيما يتعلق بمقاصد الشريعة الأخرى أعتقد أنه أمر واضح وبَيّن في قراءتنا للعلوم الشرعية، سواء في الأساسيات والأصول والنصوص، في الاجتهادات التي بنى عليها من قرأ هذه الاجتهادات والنصوص، وبَيّن في قراءتنا للعلوم الشرعية، سواء كانت القراءة في الأساسيات والأصول والنصوص، أو كانت في القراءة الناقدة التي ظهرت في الاجتهادات المعاصرة، وهي كلها تتفق على أن مقاصد الدين هي أن يحفظ بناء الأسرة وأن يدعمها لتقوم بوظيفتها، فيجتمع فيها كمال البناء وتكامل الوظيفة بأمر الله سبحانه وتعالى.
دكتور إذا تحدثنا عن انتقالنا من بناء الأسرة ومقاصدها إلى الحديث عن لفت الانتباه إلى ضرورة الارتقاء بوظيفة الأسرة لتدل على معنى البناء والتربية، غالبا ما ننتبه إلى موضوع توفر الأهلية اللازمة لهذا البناء، ما مدى ضرورة أهلية كل مقبل على الزواج وداخِلٍ في مشروعه، ولنقل كيف نحقق القدر المقبول من هذه الأهلية حتى يقدم الإنسان على هذا المشروع العظيم؟
تكامل دور المجتمع والأسرة في عملية البناء الإنساني
فكرة أن الأسرة خلية من خلايا المجتمع يبنى عليها، وقد تتأثر بالتغير في بنائها الاجتماعي، المجتمعات تتغير في طبيعة أبنيتها بتعقيد بنيتها وتطور وتراكم ثقافاتها، ولا بد أن الأسرة تتصل بذلك إما تأثرا أو تأثيرا، يعني ذلك أن تطور المجتمع سيفرض على الأسرة وظائف قد تكون جديدة في كثير من الأحيان، في بعض الحالات قد يقوم المجتمع بأخذ بعض الوظائف لمساعدة الأسرة في أداء وظائفها، ولكن هذا لا يعني أنه يستبدل بها شيئا آخرا، والعلاقة السوية تبنى على أن المجتمع يجب أن يُقِيم على هذه الأسرة وظائف أكثر أهمية.
وكمثال من الفرضيات التي كانت تدرس تاريخ العلوم الاجتماعية في العصور المختلفة، ووصلت إلى العصر الحديث تقول أن المدرسة مؤسسة اجتماعية متخصصة بالتعليم ترتبط بتطور المجتمع، هي قامت وتأسست لتأخذ عن الأسرة بعض وظائفها، ولكننا نخطئ إذا كنا نفهم من ذلك من المؤسسات التعليمية، المرتبطة بالمجتمعات المعاصرة المتطورة في تركيبها، والمعقدة في ثقافتها، أن هذه المدرسة يمكن أن تقوم بالدور التربوي فقط، وتبقى الأسرة تقوم بأدوار أخرى فهذا غير ممكن، والتطور الاقتصادي والاجتماعي غير ذلك، ومن فهمه بهذا الشكل قد يضر هذا الفهم الإنسان فردا وجماعة.
ربما في المجتمعات المعاصرة الأسرة لا تستطيع أن تقدم المعرفة كاملة، ربما تحتاج أن تتصل بمؤسسات أخرى تقوم بدور التربية والتعليم، لكن دور البناء الإنساني وبناء الأفراد، وأكثر ما يعبر عن الإنسان هو قيَمَهُ التي يحملها، ويؤمن بها ويتوقع أنها تساعده على التكيف مع مجتمعه خارج الأسرة، وعلى التكيف مع حياته في خارج المجتمعات خاصة المعاصرة منها.
هذا الدور المتمثل في بناء الإنسان القادر على التكيف لا يمكن أن تقوم به مؤسسة أخرى غير مؤسسة الأسرة، هذا البناء القيمي وأقصد به الإنسان في تصورنا، إنما يعبر عن نفسه بما يحمله من القيم التي تكون أكثر كفاءة إذا أدت وظيفتها ضمن ثقافة المجتمع، وكانت عاملا مساعدا في الحفاظ على وظيفة تماسكه وتطوره.
بناءا على ذلك ظهرت في العصر الحالي الحاجة إلى أن الانسان الفرد حتى يكون مهيئا لتأسيس أسرة يحتاج أن يؤهل بتأهيل أكثر تطورا، ومهارت أكثر تعقيدا، لم تعد تكفي المهارات المعتادة في التعليم لتعليم هذا الإنسان كيف يؤسس أسرته، فربما نحن بحاجة إلى تهيئة الشباب للزواج، وأيضا مساعدة الأسر على مواجهة مشكلاتها وحل صراعاتها، ولكن هذا لا يعني أن الأسرة يمكن أن تعطي هذا الدور دور التربية وإعداد القيم لغيرها من المؤسسات الأخرى.
إن المشكلات الاجتماعية سببها هو المجتمع والأسرة، ولكن الحل لا يكون إلا بإطار اجتماعي وأسري، فالأسرة هي إطار الحل ومساره في مواجهة المشكلات الاجتماعية مهما بدت معقدة، وقدرتنا على حل هذه المعادلة، وهذه المشكلات بمشاركة النخب والمؤسسات الثقافية والتربوية، معادلة أن المجتمع يفرز مشكلاته، وكيف نحل هذه المشكلات من خلال بناء المجتمع، والأسرة خلية المجتمع التي يبنى عليها هي التي تمكن المجتمع من الوصول إلى مستوى كفاءة عالية في حل مشكلاته وبنائه بناءا صحيحا.
سؤال آخر يتحدث عن التنشئة الاجتماعية والتي تعني العلائقية التي يتم بها انتقال الثقافة والقيم التي ذكرت من جيل إلى جيل، بإكساب الفرد بعض السلوك في مجْتمعه ليتمثل القيم والمعايير التي يتبناها المجتمع، هل هذا المفهوم في التنشئة ما يزال سائدا أم أنه تم تحويره نوعا ما بفعل النموذج الغربي الغالب في رأيكم؟
التنشئة الاجتماعية هي ترجمة لكلمة socialisation باللغة الانجليزية، ترْجمت في اللغة العربية إلى كلمة التنشئة الاجتماعية، وأحيانا تعتبر مكافِئة لكلمة التفاعل الاجتماعي في بعض الأحيان، والتنشئة الاجتماعية هي العملية التي تقوم على المجتمع وينتج عنها الإنسان الذي يرى المجتمع أنه يستحق الانتماء إليه، فهو الذي يعكس ما يدور في المجتمع من عمليات لتَطبيع الإنسان بطابع هذا المجتمع.
يقوم مفهوم التنشئة الاجتماعية أيضا على أنها انعكاس لعمليات الإعداد المقصودة أو التعليم المقصود، وهي مجمل التفاعلات في المجتمع التي يتعلم منها الانسان، حتى لو كانت حالا تبني تفاعلات سلبية وسلوكا معاديا، والمؤسسات التي تقوم بهذه التنشئة هي متعددة أولها الأسرة.
ما هو تأثير عاصفة العولمة على الأسرة والفرد في مجتمعاتنا؟
الآن نحن نمر بعاصفة والمتمثلة في العولمة، والطرق الحديثة في التواصل التي غيرت فعلا في قنوات التواصل ووصول النشئ إلى الثقافة، غيرت وبنسبة كبيرة، ربما يبدو وللوهلة الأولى أنها أضعفت دور الأسرة في كثير من الأحيان وفاعليتها في التأثير، وهذا الأمر كان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أكثر، يعني هذه العاصفة كان لها تأثير كبير على المجتمعات العربية والإسلامية أكثر منها في الغرب، مروا بعواصف سابقة، ومسارات مختلفة للتأثير بهذه العوامل، وهذا لا يعني أن الأسرة ضعف دورها.
من الواضح أن الأسرة نظام قادر على التغيير والتكيف، هذا الوضع الجديد ربما أنتج أسرا بأنظمة مختلفة.
وظيفة الأسرة أصبحت مختلفة الآن، وهي كمؤسسة تحتاج أن تتكيف مع هذه العاصفة. المجتمع كمؤسسات أخرى إذا أراد أن يحمي نفسه، يحتاج أن يؤسس آليات جديدة، ولكن ليس معنى ذلك أن الأسرة تتنازل عن مكانتها كمؤسسة أولى في التنشئة الاجتماعية، ستبقى هي المؤسسة الأولى للتنشئة الاجتماعية ويتم ذلك بطرق مختلفة، ربما لو دخلنا ببعض التفاصيل والأمثلة قد نرى ذلك بشكل أكثر وضوحا.
مثلا الأجيال المختلفة من التكنولوجيا التي دخلت في حياة مجتمعاتنا غيرت بعض قوانين الأسرة، كالتلفزيون الذي كان قبل عصر الفضائيات والإنترنت، كان يؤثر على بناء الأسرة من حيث أوقات اجتماعها، وآليات تلقي الثقافة داخلها، بعد أن تفاعل هذا الجهاز مع الأجهزة الجديدة أدى ذلك إلى كثرة الشاشات في البيت الواحد، وأدى إلى قوانين مختلفة داخل هذا النظام الاجتماعي الذي تفرق، وأدى ذلك أيضا إلى تناقل القيم والثقافات وأنماط السلوك بطرق مختلفة، لكن في النهاية سنجد هذه التغيرات تفاعلت، ونجد أسرا جديدة يمكن أن نميزها بأنظمتها وقوانينها، والثقافة السائدة فيها، والثقافة التي تنتمي إليها ويصبح أيضا على المهتمين والباحثين والمجتهدين والمخلصين في مصلحة المجتمع، أن يفهموا التغييرات التي حصلت، مما يؤدي إلى مزيد من الدور الفاعل للأسرة في هذا العصر الجديد.
من المستحيل أن نتحدث عن مفاهيم الأسرة وتغيرها في عالمنا العربي والإسلامي دون التعريج على دور الإعلام في إحداث التنشئة الاجتماعية، وجعله من البرامج التلفزيونية مخبرا لإنتاج القيم والمعايير الاجتماعية، وأنت قد تحدثت عن هذا التأثير والدور، ووجوب حسن التفاعل معه.
لو أخذت مصطلحا آخر واستعملته في حديثك، ويتعلق بالعاصفة التي تواجهنا هذا جعلني أتساءل بين أمرين:
الحديث عن الهجوم الخارجي وإن كان المصطلح فيه نوع من الهجوم، لكن أقصد به حالات الالتزام من المنظمات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، فهي تتدخل في قوانين وقواعد تشكيل الأسر والمجتمعات بشكل عام عندنا.
الحديث عن الهجوم الخارجي هذا هو محاولة الإلزام بنمط حياتي معين، يصاحب هذا ويُوازيه غالبا تبعية داخلية من بني جلدتنا وممن يتحدثون بلساننا وكأنهم وكلاء حزبيون لأصحاب هذا الضغط الخارجي.
في رأيك دكتور ما مدى الترابط بين هذا الضغط الخارجي والمنظمات الخارجية والتبعية الداخلية لبعض أفراد المجتمع، ومحاولتهم فرض أنماط قد تكون مغايرة لمنطلقاتنا ومُرتكزاتنا التي يبنى عليها هذا البناء الأسري؟
سنن الصراعات تحكمنا فعلا.. لكن نحتاج الرد بطرق أخرى
أنا أؤيد فكرة أن هناك هجوما مدبرا يستهدفنا، ويدور حوله كثير من الجدل، هل هو مؤامرة مرتبة تديرها غرف عمليات تسعى إلى ذلك؟ أم هي مجرد صراع تحكمه سنن الصراعات المختلفة؟ تنازع ثقافت مختلفة، أنا أقول ليس كل ما يجري هو غرف عمليات مدبرة، لكن في النهاية نحن تحكمنا سنن الصراعات، ونحتاج أن نرد على الصراع بردود أخرى.
الثقافات بطبيعتها تتحاور وتتفاعل وقد يكون أحد طرق تفاعلاتها أن تسعى إلى إثبات صحة تجربتها، وتأسيس نفسها على الأرض لتثبت صحة فرضياتها التي تقوم عليها، وهذا أمر معروف في التاريخ، وليست هذه هي المرة الأولى التي يحتد فيها الصراع الثقافي في العالم، وإنما حدثت هناك صراعات أخرى، وهو صراع ثقافي تحكمه سننن الصراع، وهناك ما يستفز آليات دفاع عند كل مجتمع وعند الأسر.
التجارب التي مرت بها مجتمعاتنا العربية خلال العقود الأخيرة في المئة سنة الماضية وما قبلها، بداية عصر التفاعل الحاد بين الثقافتين العربية والغربية، يبدوا لي الحالات التي يكون فيها الصراع حادا يرهق المجتمع وتكون السيطرة عليه صعبة، هي الحالات التي يكون فيها صراع بين الأجيال حتى الأجيال المتقاربة، بمعنى ليس صراع بين جيل شيوخ وجيل شباب الفرق بينهم خمسون عاما، إنما عندما يحتد الصراع قد تختلف ثقافة جيلين الفرق بينهما أحيانا لا يزيد عن العشرين.
وعندما يكون المجتمع مستباحا غير محمي من تدخل القوى الخارجية، السياسية والسيطرة وغيرها، فهذه القوة التي تستبيح المجتمع تستهدف أجيالا معينة، تستهدف جيلا كاملا تسعى من خلاله إلى تثبيت نفسها في هذا المجتمع. هذه سنة طبيعية ولا نتحدث هنا عن مؤامرة يجب أن نعرف رؤوسها ونقطعها فتنتهي القضية، هي سنة الله تعالى كذلك في صراع المجتمعات.
صراع الأجيال عندما يحدث في المجتمع هو ظاهرة خطيرة داخل الأسرة، الأسرة هي أصلا من سنة الله تعالى أنها مؤلفة من أجيال، وهي بطبيعة الحال نظام إداري كما هي نظام مشاعر، هي نظام إداري يتصل به نظام مشاعر، وعندما يكون النظام مستقرا إداريا وفي حالة المشاعر، فهو يحقق حالة السكينة التي وصفت في القرآن الكريم (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم الآية: 21]، السكينة ليس معناها برود المشاعر، السكينة معناها نظام مستقر مريح للإنسان من تبادل المشاعر، هذه هي السكينة.
عندما يحدث صراع الأجيال داخل الأسرة، فهذا قد يهدد في كثير من الأحيان النظام الإداري، لأنه قد يغير الأدوار، بمعنى أن التغيرات الثقافية الكبيرة قد تؤدي أحيانا إلى إضعاف دور الأب القائم على الأسرة، أو إضعاف دور الوالد، وأحيانا بسبب التمرد الذي يحمله الجيل الجديد ورغبته في التغيير مثلا وأحيانا ليس لسبب ما يحمله الجيل الجديد من رغبات تمرد، فقط لأن الجيل الجديد أكثر ثقافة من الجيل القديم، لأنه وصل إلى قنوات ثقافية، أخذ منها ثقافة أكثر قدرة على التكيف مع الواقع، وقد يظهر هذا الأمر في بعض الأسر فجأة، فجأة يكتشف الأب أنه أصبح غير قادر على التكيف، أو غير قادر على حماية أسرته، وقد يكون الأكثر أهلية لذلك هم أفراد من الجيل الجديد. وبالتالي هذا التغيير نتج عنه حالات من التفكك والصراع الأسري من جهة، ومن جهة أخرى حالات تَكيف طبيعي وإيجابي مع هذا الوضع، الذي انتقل إلى الأسرة، وهذا الانتقال لتغيير نمط العلاقات فيها.
أنبه إلى ظاهرة تحدث عنها كثيرا بعض علماء الاجتماع العرب في نهاية القرن العشرين، وبقيت حتى اليوم، وهي فرضية أن مجتمعاتنا العربية لها بناء بطريركي، أي سلم ثابت من البناء لا يمكن أن يتغير، الأعلى أعلى، والأدنى أنى، وهي مجتمعات أبوية ذكورية مرتبطة بحالات التسلط، أنا لا أنفي هذه الأمور كظاهرة ولكن ليس هذا البناء هو المشكلة الجوهرية والأساسية التي تختصر كل المشاكل، ولكن نحتاج أن ننظر بمنظار آخر.
عندما ينتقل صراع الأجيال إلى حالة من التفاعل الذي يهدد كثيرا من الأسر، ويجعل العلاقة داخلها علاقة صراع خالية من الحوار والتفهم، هذه الحالات أعتقد أنها مدخل لتهديد بناء الأسرة ودورها.
دكتور بالحديث عن صراع الأجيال والأبوية، إذا ربطت بتأثير منظومة التفكير الاجتماعي الغربية في المنظومات المعرفية لباقي الشعوب، يحيلني إلى السؤال حول مدى التأثر بفكرة كون الأسرة وانطلاقا كون الأسرة شكل من أشكال السيطرة الأبوية المطلقة. ومن رام إبداعا وتجاوزا فلا بد له من تمرد على أشكال الأبوية، وبالطبع في مقدمتها الأسرة، ما رأيك في المغالاة في الصراع بين الأجيال، وفي التملص والتخلص من الأبوية مطلقا؟
صراع الأبوية بين البقاء ومحاولة التكيف مع الوضع الجديد
فكرة المجتمع الأبوي لا أرفضها تماما، ولكن أرفض اعتبارها اختصارا لكل المشاكل، وأن حلها حل لكل المشاكل، هناك خلل بالتأكيد في مجتمعاتنا وتصَوراتنا عن تَراتل السلطة في هذه المجتمعات.
ما أريد أن أقوله أن مجتمعاتنا العربية فيها مقدار من التسلط لا ننكره، ومرت بحالات كما أسميتها أنت الهجمة، فلنسَميها مجازا هجمات التغير في الثقافة، وبالتالي التغييرات في الأدوار.
أقبل أن الفرضية التي تقول أن البناء الأبوي للأسرة يقوم عادة بصفقة مع الجيل الجديد، لأنه سَيعطيه دورا أكبر في داخل الأسرة، بشرط الحفاظ على البناء الأسري أو بقاء السلطة الأبوية.
كثيرا ما يحدث أن تأتي أنماط ثقافية جديدة تكون غريبة على المجتمع ثم يقبلها في النهاية، قد تكون خارج البيت ربما في وسائل الإعلام أو في الشارع، ثم تدخل هذه الثقافات داخل الأسرة فتحدث صراعا بين الأباء والأبناء، الآباء يرفضون، والأبناء يصرون، وقد تحدث حالات من الصراع، وينتهي هذا الصراع بقبول الوالدين للوضع كما هو، أي إضافة هذا المكون الثقافي الجديد إلى ثقافة الأسرة والاعتراف به عنصرا في الأسرة.
إبقاء دور الأب شرط فرضه الآباء لإعادة تشكيل الأسر وبناء ثقافتها من جديد، هذا الأمر تكرر في مجتمعاتنا، ونشأت أسر بثقافات جديدة، ولكن بقيت مشكلة الأبوية مسيطرة في هذه المجتمعات.
هذا التسلسل مقبول في كثير من الحالات وواقعيا حدث ذلك، والأسر الآن تقبل أنماط جديدة من الثقافة داخلها، ويصبح هذا هو الحل لبقاء الأسرة قائمة، وهذا يقودنا إلى نمط العلاقات داخل الأسرة، بعد أن تحدث هذه الظاهرة، فهل ستبقى الأسرة فعلا بنفس بناءها حتى ولو ظهر ذلك؟ هل فعلا يبقى دور الأب والأم هو دور الموجه؟
إذا كان يقول أن هذا الأمر قبلته وهو ليس من ثقافتي وسيصبح مصدر للثقافة أيضا، وبالتالي العملية التربوية هنا ستتغير داخل هذه الأسرة، أيضا هذا يؤدي إلى تغييرات في وظيفة الأسرة، ولا يمكن أن نقول عن الأسرة أنها حاملة للثقافة وحاميتها في نفس الوقت، الأسرة هنا تعكس مشكلات الثقافة، فهذا الحل لو حصل فعلا وهو حاصل، لن يكون هو الحل لمشكلة المجتمع الثقافية.
ازدواجية المجتمع والصراع الثقافي داخله، وهذه هي حالة الذروة للانقسام، بما أن المجتمع ككل يتألف من مجتمعات فرعية تتنازع في ثقافتها، مجتمع المحافظين ومجتمع المجددين وأنماط أخرى من الثقافات تتفاعل وتتصارع، وتضعف بناء المجتمع عموما، لكن هذا الوضع هو وضع ليس سهلا ويحتاج إلى حل يساند الأسرة لإبقاء دورها حتى نحمي هذه الأسرة لأداء دورها بشكل فاعل وفعال. التفكيك وإعادة البناء ليس هو الحل هنا، لا، الحل هو حل نظامي، أن ننتقل من نظام فيه ازدواجية إلى نظام فيه نمط من الحوار. ولكن هذا كله يرتبط بوجود قيم مجتمعية تقوم على الحوار، وحالة من النظام الاجتماعي والسياسي يسمح للناصحين والمجتهدين في نصحهم بأداء دورهم، وأن لا يكون النظام السياسي للمجتمع فقط هو نظام لأصحاب المصالح الذين يسعون للسيطرة، وإنما يجب أن يسبق ذلك تيار في المجتمع يدعو إلى إعادة النظر في قيمه، والنظر بهدوء إلى المرحلة التي وصل إليها، هل هو يسير في الخط الصحيح أم العكس؟
هكذا يبدو الأمر لي فهو ليس سهلا، والأسرة تحتاج فيه إلى مساندة، لأن هناك تحديات تدلنا أن هذا ما نحتاجه في النهاية، وأن المجتمع مهما مر بصراعات ومهما اندفع خلف تيارات ومهما تم دفعه بغير إرادته تجاه تيارات بعيدة عن قيمه، سيصل إلى اللحظة التي يشعر فيها أنه لا بد أن ينظر نظرة ناصحة مخلصة إلى وضعه، ويواجه مشكلاته بنفسه.
دكتور أنت تحدث عن هذه العلاقة الأسرية وهذه التعقيدات في التعامل، بعد الحديث عن صراع الأجيال والأبوية المفروضة، أتساءل في نفسي ولطالما تساءلت عن بعض التغيرات التي شهدتها الأسرة أو على الأقل لنقل في ظاهرها من المظاهر التي يعسر مشاهدتها هو سيادة مفهوم الأسرة النواتية على حساب الأسرة الممتدة، ومع ما في الأولى من فردانية وقطع أواصر، وما في الثانية من بناء القيم وتنمية التفاعل الاجتماعي.
في رأيكم دكتور عامر، لماذا يجب النحي نحو الأسرة النواتية، أي التي تبدأ بالمحيط الضيق فقط يعني الأب والأم والأبناء فقط، في حين قديما كانت الأسرة ممتدة إلى الأعمام والأخوال والأجداد، وهؤلاء كلهم يساهمون في التنشئة الاجتماعية ويساهمون في بناء الطفل وتهيئته لما هو قادم.
التحول من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النواتية واقع فرضته التحولات
منذ بداية القرن العشرين ونشْأة الفكر الاجتماعي العربي المعاصر، تم التركيز كثيرا على فكرة أن التحول من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية أو النواتية هو مدخل لحل كثير من مشكلاتنا، هناك ظهر تيار محافظ يقول لا، هذا الأمر ليس صحي ويهدد بناء المجتمع ويمنع قدرة الأسرة على الحفاظ على القيم ونقل الثقافة وغير ذلك، وأعتقد أن الصراع بين الفكرتين مر بفترة طويلة من الازدواجية، كان فكرا أحاديا حكمته آلة من الاستقطاب، يعني لم يكن صراعا عقلانيا بين هاتين الفكرتين، هذه يحملها المجددون، وتلك يحملها المحافظون، لكن أقول فكرة الأسرة النووية أو النواتية الممتدة هي ظاهرة اجتماعية لا ترتبط دائما بحالة تفكك القيم وبناءها، لا، بل هي أمر تفرضه بعض الظروف الاجتماعية، يعني أنا ليس لدي مشكلة بأن يقال الحياة في المدينة، خاصة المدن العربية التي فيها كثير من الصراع، حتى تؤدي الأسرة دورها تحتاج أن تكون أسرة نووية، أما العلاقات الاجتماعية في أسرة ممتدة فهي ترهقها وتشغلها عن دورها حتى التربوي.
ربما في المجتمع الريفي الذي لم تغزوه حياة المدينة كثيرا، قد تكون الأسرة النووية لها دور كبير، أنا ليس عندي مشكلة في ذلك، هناك من يقول أن الشريعة أمرت بحفظ الأرحام، وطورت العلاقات الممتدة، كذلك أنا لا أرى أن تعاليم الشرع الإسلامي تحضنا على أن تكون أسرنا أسرا ممتدة، لها بناء جامد غير قابل للتغيير.
تعاليم الشريعة هي تعاليم فيها حقوق وواجبات، وفيها نظام واضح للأولويات، ومن أهم هذه الأولويات هي الأولوية التربوية، وأولوية بناء القيم، وأولويات حق الأبناء على الآباء، (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [سورة التحريم الآية: 6]، فإذا كانت الأسرة الممتدة تعيق العملية التربوية فليست هي واجبة، وهذا قد يحدث في مجتمعاتنا المعاصرة، التي أصبحت التربية فيها عملية تحتاج إلى مزيد من التركيز والاستراتيجيات الموجهة بالأهداف.
التفاعل الاجتماعي بسيره الطبيعي لا يكفي، نحتاج إلى نسبة عالية من الوعي لدى الآباء حتى نصل إلى الأهداف القيمية المطلوبة، لكن كما قلت نحن الآن نعيش حالة من الاستقطاب بين فرضيتين، هذا يمثل التطور وذاك يمثل التخلف، والقضية هذه فرضتها حالة التطور الاجتماعي، وليس هناك ما يحرم انتقال المجتمع من هذا النظام إلى ذلك النظام، طبعا مع حفظ الحقوق التي أمر بها الشرع، وتقبلها ثقافيا، ونحن نعلم أن هناك مشكلة في مجتمعاتنا بين الثقافة والشرع، كثيرا من التوجهات الثقافية تنسب نفسها إلى الشريعة وكثير من هذه الحالات ليست نسبة صحيحة لا تقرها الشريعة، ولكن نقول إن النمط الذي يحقق للمجتمع حفاظه على ثقافته ثم قدرته على تطويرها وفق احتياجاته هو النمط الذي يساعد في ذلك، وليس أي من الأنماط التي يحتاجها المجتمع وهو النمط الذي ينفي دور الأسرة أو يسعى إلى تفكيك مؤسستها، وإنما نحن بين نمطين كل منهما يعطي للأسرة دورا مختلفا.
دكتور عامر بالحديث حول دور الآباء واستراتيجياتهم يقودني هذا إلى القول إذا اعتبرنا تربية الاطفال في الصف الأول ليست من أولويات الأسرة، فإن التساؤل يطرح حول بعض السمات النفسية لجيل الألفية، الجيل الجديد هذا الألفين وما تلاه، يعني دور الآباء في تغذية الهشاشة النفسية للأطفال، الذين أصبح يطلق عليهم الآن أطفال رقائق الثلج، مع ما في المصطلح وفي الإسم من دلالة على الهشاشة، وسرعة الانكسار وعدم تحمل أي ضغط هذا أولا، وثانيا السمة المشتركة بين أطفال جيل اليوم ورقَائق الثلج هو التفرد لكسب الاستحقاق.
نلاحظ مثلا أستاذة علم النفس الأمريكية جين توين عندها كتاب عنوانه جيل التقنية، يعني لماذا يكبر أطفال الأنترنت اليوم أقل حرية، وأكثر تسامحا، وأقل سعادة، وأيضا غير مؤهلين تماما لمرحلة الرشد.
هل يجوز أن نعيد السؤال على فضيلة الدكتور عامر ونقول له لماذا يكبر أطفال اليوم أقل حرية وأكثر تسامحا وأقل سعادة، وأيضا غير مؤهلين تماما لمرحلة الرشد؟ بالطبع ليس بهذا الإطلاق التام، لكن هي ظاهرة مشاهدة من قبل بعض المختصين؟
دعني أعبر عن الظاهرة بتعبير آخر: مجتمعاتنا العربية مرت بعواصف كثيرة آخرها عاصفة الثورات العربية وبعض التغيرات وغير ذلك. بعدها دخلت عاصفة جديدة من المحتوى الذي جاءنا مع عصر السوشيال ميديا من أفكار جديدة وموجة جديدة من الأفكار. بهذه العواصف الآن في الوضع الحالي تم اختصار وضع الأسرة العربية، ووضع الجيل الجديد من أطفال العرب، أي اختصار هو اختصار فيه نقص وهو مخل، يعني هناك جيل من الأطفال يتسم بالهشاشة، وهناك جيل من المراهقين يتسم بالقسوة، وهناك جيل من المراهقين أكثر تمردا، وهناك جيل معادي للمجتمع بقوة وبقسوة كبرى.
هناك نقاط كل منها يمثل ظاهرة تحتاج للتحليل، ربما من الظواهر الجديدة التي يبدو أنها نشأت ولم نحللها بشكل جيد، فكرة مجتمعات الألعاب، مجتمعات كبيرة إلكترونية، محور المجتمع هو بطل ألعاب، لم تعد القضية فكرة أنه هذا فقط زعيم عنده جماعات، أو هو مجتمع كامل بحوزته آلاف الأعضاء، فيه بناء معين وزعيم معين ويحارب مجتمعات أخرى، وينافس مجتمعات أخرى، مجتمع كامل يتصل به كثير من الأطفال المراهقين والشباب في كثير من الأحيان، وله اختصاصات وثقافات معينة الآن، لكن أقول فكرة الطفل الهش أو غير المؤهل إلى مرحلة الرشد هي ظاهرة موجودة في كثير من المجتمعات.
الهشاشة النفسية وأزمة الهوية..أهم التحديات التي يواجهها شباب اليوم
سأبدأ بوصف ما مررت به أنا عندما أعطيت بعض الاستشارات التربوية، أنا تفاجأت بنمط جديد من المراهقة، لم أقرأ عنه كثيرا ولكن يبدو أنه تكرر في عدة حالات مرت علي، هو المراهق كما قلت أنت المراهق الهش الذي يخشى أي خطوة للأمام، لأنه لا يستطيع أن يميز نفسه أو يعرفها.
نعلم أن في علم النفس المعاصر يركز على فكرة أزمة الهوية في مرحلة المراهقة، وأيضا في علم الاجتماع فترة الصراع والأقليات وغير ذلك، هناك تصور ونظريات معينة لبناء الهوية في مجتمع الأقلية ومجتمع الأغلبية، هناك تركيز كبير على بناء الهوية في مجتمعات الأقلية، التي تظهر كيف يكتسب مجتمع الأغلبية، كيف يتبنى مجتمع الأغلبية، كيف يميز نفسه، كيف يحارب المجتمع...
هناك تصورات مهمة نحتاج أن نتعرف عليها، لكن يبدو أن كل من هذه التصورات، وكل هذه الآليات التي تعرضها لنا هذه النظريات لم تصل بعد مثل هذا المراهق الذي هو عاجز عن اتخاذ قرار كيف يميز نفسه، وقد يكون في مرحلة متقدمة من العمر.
قد يكون أحيانا بعض الحالات التي عرفتها جاوز العشرين عاما في عمره، وهو لا يستطيع أن يعرف نفسه، ربما هو يعرف نفسه بينه وبين نفسه، ولكن لا يستطيع وفي كثير من الأحيان لا يريد أن يعرف نفسه لأي شخص آخر وأحيانا حتى لأسرته، هذا المراهق في كثير من الأحيان قد يكون مر بموجات ثقافية مختلفة، يعني قد يكون في مرحلة من حياته يعيش في بلدته في المشرق العربي، في مرحلة لاحقة أصبح في حالة لجوء، في مرحلة تالية هاجر إلى بلد أوروبي، في مرحلة لاحقة استمع إلى كثير من الموجات المعاصرة التي تخاطب الفتيان المراهقين وفكرة التمرد وغيرها، في مرحلة أخيرة انتبه إلى مجتمع الألعاب التي تكلمت عنها.
فهو تنقل في انتمائه كثيرا، وفي النهاية عندما تريد أن تسأله كيف تعرف نفسك لا يقدم لك إجابة أو لا يريد أو يحتار، وهو بالعموم ضعيف التواصل مع الآخرين، غير قادر على التكيف، هذا عادة موجود في أسرة تحميه ولكنها لا تفهمه.
وغالب الحالات التي مرت بي هم فتيان مراهقون وبعضهم شباب، من الصعب اختراق صمتهم، هم يواجهون الأسئلة بالصمت، وليس صمت الإنسان الذي يواجه التحديات بصمت، وإنما صمت الإنسان الذي لا يريد أن يتعب، ويكتفي بما لديه من مؤهلات، ويقول هذه ترضي جوابي ويكفيني هذا، أنا لست محتاجا، أنا لن أستطيع أن أصل في الحوار مع الذي أمَامي إلى نتيجة كافية.
وهو إنسان كما قلت يعبر كثيرا عن فكرة الهشاشة، وهذا لا يطمئن الأهل بأنه قادر على متابعة حياته، ولكن ربما هي حالة إذا أردت أن أفسرها من الناحية النفسية، بعض علماء النفس المعاصرين تحدثوا عن حالات أزمات الهوية المختلفة، حالة بناء الهوية الإيجابية هي الحالة الإيجابية، تحدثوا عن حالات الهوية السلبية وعن أنماط مختلفة منها ما يسمى بحالة انفراش الهوية، غياب الهوية تماما، وإذا كانت الأسئلة متعلقة بالهوية هي أسئلة بهذا التعقيد لمراهق مر بهذه الصراعات المختلفة، وتلقى هذا الكم الكبير من التوجيهات والنماذج التي تجذبه باتجَاهات متعارضة ومختلفة، فلا نستبعد أن يكون هو يؤجل ما يريده، أو لا يريد أن يفكر في هذا الموضوع في الوقت الحالي لأنه يزيده كثيرا من الإرهاق.
هذه التعقيدات التي ظهرت في مجتمعاتنا تثير عندنا الكثير من الأمور، فمثلا ابن العشرين أصبح غير مؤهلا، ولم يعد هذا الإنسان الناضج الذي نستطيع أن نقول عنه أنه الشاب الذي يتحمل المسؤولية، وقد يتأخر أكثر من ذلك حتى ينهي مرحلة عمر الجامعة.
لهذا دكتور بعض أساتذة الجامعات يشتكون من هذا الأمر، فيما مضى كانت الشكوى من المربين والمعلمين في المدارس الابتدائية ثم المتوسطة، أما الآن وصل الأمر إلى الكثير من الجامعات والكثير من الأساتذة يقولون أنه تغير الأمر، خاصة الأساتذة الذين مرت على أيديهم أجيال مختلفة فيُلاحظون التغيرات في السمات والتعامل والظروف، يقولون بصراحة أن هذا الجيل ليس كل الجيل لكن الكثير منهم كلمة صغيرة ممكن تجعله في حال من غير الحال التي كان عليها.
هذه الظاهرة تعبر فعلا على أن مجتماعتنا بحاجة إلى ناصحين ينَبهونها إلى أن مستقبلها ليس مطمئنا بشكل تام، آليات التكيف التي نعرفها لا تكفي، نحتاج أن نفهم ما يجري، ونؤسِس لآليات تكييف لهذا الجيل الجديد.
ربما من الآليات التي تساعد وهي مستخدمة الآن في الغرب، وهي آلية تفعيل النماذج الإيجابية، في الغرب الكثير من آليات التطوير الاجتماعي خاصة الخطاب الموجه للشباب والشابات، يقوم على دعم الشباب الناجح وربطه بشبكة علاقات اجتماعية مع شباب يحتاجون لتجارب نجاح قادرة على جذبهم، هذا قد يكون له أثر كبير بآليات العمل التربوية في المجتمع، ما هي نوع القدوات التي سَأقدمها، أنا أحتاج أن أدرس فكرة القدوات التربوية بكثير من العناية، نوعية القدوة التربوية الآن التي تقدم عبر الإعلام أو عمليات الأنشطة الشبابية المختلفة، نحتاج أن ندرس خصائص القادة اجتماعيا بعناية، بحيث يجمعون القدرة على فهم العصر ومشكلاته وقدرته على التأثير، ولا ننسى أننا في عصر ينجح يوتوبارعندما بجمع ملايين المشاهدات بخطاب ليست فيه أية قيمة.
يجب أن يوجه قدوات للأفراد الذين أعطوا ليوتبرما هذه المكانة ليستطيع أن يجذبهم، فمن الآليات المهمة في هذه الحالة البحث عن القدوات المناسبة ودراستها دراسة واقعية تناسب فهم هذا الجيل وواقعه.
دكتور عامر محاولات عامة في الأسرة كما يسميها الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله أنتجت لنا اليوم تيارات تدعو إلى التمركز حول الأنثى وحول الذات بدلا من التمركز حول مؤسسة الأسرة، إضافة إلى هذا ما هي المعالم التي تعبر في رأيكم عن ما تواجهه الأسرة من تحديات؟
فكرة حذف الأسرة غير وارد مهما نودي بها ونادى بها كثيرون، لأنها تهدد فكرة حياة المجتمع، ولكن ستبقى الأسرة هناك القوى المختلفة من الناصحين وغير الناصحين من يسعى إلى توجيهها، ومن يسعى إلى الدخول إليها واختراقها وتوجيهها بأليات مختلفة، ربما مجتمعاتنا العربية دائما في مثل هذه الهزات تشعر بأنها بحاجة إلى الدين وهذا شعور عام، ولكن لا تفسر هذه الحالة دائما بالشكل الذي يحل مشاكلها.
التغييرات الكثيرة التي تصيب المجتمع وأقصد مجتمعاتنا العربية، والتي أحيانا تهدد الأسرة تأتي على شكل موجات، ثم تليها موجات من التوبة والعودة، فيصبح المجتمع بقدر ما فيه من الحالات التي تغزوا القيم، أيضا تظهر حالات من العودة والتوبة، وأحيانا تجتمع الحالتان في نفس الوقت أي الخلط بينهما، أي هناك إنسان يلتَحق بمجموعات من الفاسدين، كما يلتَحق بمجموعات من التائبين، وهذا موجود كثيرا في أجيالنا الجديدة، ويشعر الشاب أنه يحتاج لهذا ويحتاج لذلك ولا يستطيع التمييز بينهما.
إننا نحتاج إلى أن ننظر للدين على أنه ليس فقط حلا إسعافيا لواقع مجتمعاتنا، علينا أن نبني علاقاتنا وثقافتنا الدينية بالبناء الذي نجعله أساسا لتكوين وتطوير مجتمعاتنا في مراحلها المختلفة، ونحل هذه المشكلة فكريا وثقافيا وواقعيا، لنقول أنه بين أيدينا إمكانية الوصول إلى أسر سوية نستطيع أن نطمئن إلى بنائها.
بما أنك تحدثت عن دور الدين في ذلك فإننا نتساءل بالطبع عن المداخل التي تمكن الأسرة من مواجهة تحدياتها المعاصرة، وهل الدين مركب لازم في أي جهد نهضوي في خضم هذه التحديات، مع العلم أنك ذكرت هذه النقطة لكن لو تفصل فيها قليلا؟
فكرة المداخل التي تواجه فيها الأسرة المعاصرة التحديات، يبدو لي أننا في هذا الوقت نحتاج أن نقدم عونا للأسرة، ويحتاج الأمر إلى حركة من المجتمع لمساندة الأسرة.
نحتاج إلى القيادات على مستوى المجتمع لنساند أسرنا ونقدم لها الثقافة المناسبة لتقويتها وتمتينها، فالأمر يبدو الآن في هذه المرحلة لا يُكتفَى فيه بأن نترك الأسرة تواجه التحديات لوحدها، بل يجب أن يقوم المجتمع بحركات اجتماعية عامة تستطيع أن تواجه تلك التحديات.
الوضع الحالي في مجتمعاتنا التي واجهت مجموعة من العواصف والتغيرات، ومع أن هذه العواصف غيرت في البناء ولكنها أوصلتنا إلى أنظمة جديدة نحتاج أن نفهمها، ونفعلها مثل الشبكات الشبابية الموجودة بمختلف أنواعها إذا استطعنا أن نفعلها.
من المداخل المهمة التي يجب أن ننتبه لها في مجتمعاتنا العربية المعاصرة هي أن الحركات التي تسعى لدعم الأسرة ليست فقط من الأمهات اللاتي يعانين من تربية أبنائهم، وإنما جيد أن تكون هناك حركات شبابية تدعم المجتمع وتساعد أسره، ويكون هناك ترابط بين أكثر من مجموعات داعمة وثقافات طوعية مختلفة تستطيع أن تتحاور فيما بينها لتقدم بعض النماذج التي تقدم إمكانيات الحلول.
في مجتمعاتنا المعاصرة كثرت التجارب فيها أعتقد أنه من المهم الحديث عن التجربة الأنموذج، يعني هناك مبادرات وحركات كثيرة وشعور بالحاجات بشكل كبير وكثير من التكرار، خاصة وأن إمكانات الاتصال تسمح بأن أي تجمع يستطيع أن يبدأ دون أن يمر بتجارب سابقة.
يجب أن نسعى ليس فقط لبناء التجربة الناجحة، وإنما إغناء التجربة الأنموذج التي ترفع درجة النجاح المطلوبة في التجارب القائمة، وتقدم حجة يمكن أن تصل إلى مزيد من التطور، ومن إحدى علامات التجربة الأنموذج أنها التجربة التي تفهم واقعها ومشكلاته بشكل واضح، وتستطيع أن تصل إلى مساحات أو زوايا لم تصل إليها التجارب الأخرى، بحيث أنها تستطيع أن تستهدف بعض تجمعات المشكلات الاجتماعية من أماكن الاستبعاد الاجتماعي أو غيرها، وتقيم فيها بعض التجارب التي تحقق أملا، وليس واجبا عليها إصلاحه كله فتنهض بالناهِضين بالمجتمع، وتضع لهم مستوى جديدا من إمكانيات النهوض، وتقوم على التواصل بين ثقافة تجمعات فرعية مختلفة، هذا ربما من المداخل التي أعتقد أنه يمكن أن يكون مفيدا في هذا البناء الجديد الذي ظهر في مجتمعاتنا.