استضافت عمران الحضارة في برنامج ساعة فكر يوم الجمعة 18 دجنبر 2020 الدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي في بث مباشر على صفحتها على الفايسبوك لمناقشة موضوع: "كيف ننتصر للأخلاق في عالم السيولة؟" وقد حواره الأستاذ شمس الدين حيمود.
كيف ننتصر لله في عالم الإلحاد؟
سأبدأ بسؤال أو مجموعة أسئلة قبل أن أدخل إلى مداخلاتي، ماذا يعني أن أكون خلوقاً؟ وما تعريف الأخلاق أصلاً؟ لماذا كل هذه الضجة حول قضية الأخلاق؟ ولماذا علينا أن ننتصر لها؟ نحن في زمن أصبحت فيه ظاهرة تُسمى اللاأُبالية واللاإكتراثية، أي شخص معني بما يُسمى بمكافحة الإلحاد أو ما يدور حول فلك هذا الموضوع يعرف مُفردة تسمى Apatheism وهي تعني اللاإكتراثية أي أنني من الأساس لا أكترث بهذه الأخلاق من صدق وأدب وما إلى ذلك، نحن نعيش الآن في زمن السرعة في زمن الحماس والأدرينالين والمتعة حيث لا مكان لأدب طالب العلم أمام شيخه أو أدب الابن والابنة مع الأب والأم أو احترام كبير السن، هذه المسائل أصبحت تُذكر حتى في أوساط بعض المنتمين للإسلام وكأنها عفى عليها الزمن وانتهت ونحن أبناء اليوم، ومن هنا أود أن أدخل إلى أول هذه الأمور.
عندما قرأت العنوان قلت: لما لا نصيغ العنوان صياغة تُعيد طريقة التفكير إلى مجراها، فلا نقول كيف ننتصر للأخلاق في عالم السيولة؟ لأنه قد ينتصر للأخلاق حداثي وقد ينتصر للأخلاق قومي عربي أو وجودي أو رأسمالي.. فالسؤال هو أي أخلاق؟ ولذلك كتوضيح للسؤال الأول هو كيف ننتصر لله في عالم الإلحاد؟ لأننا إذا أردنا أن نُعرف الأخلاق شئنا أم أبينا سنُضطر إلى أن نرجع إلى مرد مُفارِق ومُباين للمخلوقات يكون هو المرّد الذي ترجع إليه الأمور.
ونحن في نظرنا كمسلمين هذا المَرّد هو الله سبحانه وتعالى، فالذي يُريد أن ينتصر للأخلاق عليه أن ينتصر أولاً لله فعندما ننتصر لله تلقائياً سننتصر للأخلاق الحسنة.
ماهية الأخلاق والسيولة.. مُصطلحات التأطير النظري
هنالك بعض الأسئلة المُهمة التي يُمكن أن نعتبرها تأطيرا نظريا قبل أن ندخل في المسائل العملية والنصائح الوقائية، أولاً ما هي الأخلاق؟ وما هي السيولة؟
الأخلاق لها تعريفات كثيرة ولكن باختصار الأخلاق هي كل فعل يصدر عن النفس مما يحق فيه التصويب والتخطيئ، بمعنى أنه إذا كان هناك أمر يمكنك أن تحكم عليه بأنه قد أعجبك أو لا أو تقول عنه صحيح أو خطأ فهذا الأمر الذي حكمت عليه هو خُلق، لأن هناك أفعال لا إرادية ليست من الأخلاق، هنالك أفعال غريزية ليست من الأخلاق، على سبيل المثال: يقول شخص أن فلان هذا الذي كان صديقي في يوم من الأيام قد تركته لأن أخلاقه لم تُعجبني لِأنه يجوع، فهذا أمر لا يُحكم عليه ولا يُعتبر من الأخلاق ولكن أخبرنا عندما يجوع ماذا يفعل هذا أمرٌ يُمكن أن يُحكم عليه، فالأخلاق لها تعريفات كثيرة ولكن باختصار قال البعض أنها سجية أو صفة ملازمة وقال البعض أنها جِبلية أو غير جِبلية ولكني لن أدخل في هذا.
أما السيولة فهي التماهي وعدم الثبات على شكل أو مبدأ أو صورة أو أصل مُعين، أن يتحول الإنسان إلى سائل ويأخذ من السيولة أسوأ ما فيها لأن السيولة فيها معاني جيدة كالمرونة مثلاً ولكن أن نأخذ من معنى السيولة أسوأ ما فيها وهي أن لا يعود للإنسان شخصية وهوية وكيان ثابت.
هذا المعنى انتشر مؤخراً فيما بعد عصور النهضة والتنوير وصولاً إلى عهد الحداثة وما بعدها، فما حدث أن الإنسان ترك ما مضى وما عاد يعبأ بأي شكل من أشكال بالثوابت فصار يُريد أن يحيا هكذا في أي زمان وأي مكان وتحت أي ظرف بغض النظر عن الأصول والمنطلقات، وهنا يجب أن نقف عند مسألة مهمة وهي مفهوم الشخصية، كلمة الشخصية تنبع من شَخَص والتي هي بمعنى بَرَز فشخصية تعني كيانا بارزا له وجود، عندما تكون لي شخصية فمن الطبيعي أن يصطدم هذا الوجود بالأشياء وأن تصطدم به الأشياء، ولذلك أنا أقول دائماً أن الذي لا يُريد أن يُزعج أحداً هذا لا شخصية له، لأن الشخصية معناها أنك تلقائياً ستصطدم بأحد، ففلان سيعجبه هذا الكلام وفلان الآخر لن يعجبه.
إذا هذا باختصار مرور سريع على ما هو مفهوم الأخلاق وما هو مفهوم السيولة، الآن مفهوم الأخلاق يتفرع منه صور الأخلاق وأشكال الأخلاق وتعريفات الأخلاق ومدارس الأخلاق وإلى آخره.
بعد إحكامها السيطرة على كل جوانب الحياة.. هل أصبحت سيولة الأخلاق حتمية نفسية؟
السؤال الآخر الذي قمت بوضعه هو هل حقاً عالمنا عالمٌ سائل؟ الإجابة مع الأسف نعم، نحن في عالم أصبح يُكثر من عبارة "لا تُعقدها" و"لا داعي للتشدد"، "لا داعي للجمود"، "لا داعي للتدقيق" وهذه العبارات والأوصاف تُذكر حتى في أوساط أناس ينتسبون للإسلام والالتزام، هذه اللاءات إذا جُمعت لا تُبقي للشخصية كياناً وبالتالي يتحول صاحب الشخصية إلى كائن سائل، إذا نحن نعيش في عالم سائل ولهذه السيولة مظاهر كثيرة، من بين هذه المظاهر مثلاً أن تأتي مجلساً وتُحاول أن تقول أن هذا الأمر خطأ ستقف أمام سيل هادر يجعلك تستغرب وتسأل نفسك هل أنت الوحيد المؤمن بما تقوله؟ يقولون هذه حرية، فما هو تعريف الحرية؟ وما هي حدود الحرية؟ ما هو تعريف الحرية الشخصية؟ وما هو تعريف حقوق الإنسان؟ ما هو تعريف الجمال؟ وما هو تعريف الترتيب؟ ما هو تعريف الحق والباطل؟ وما هو تعريف النظام؟ ما هو تعريف الحياء؟ وما هو تعريف الرجولة؟ فكل مفردة من هذه المفردات إذا توقفنا عندها نجدها قصة لوحدها.
مثلاً الحرية، ولا داعي لأن نُفصل في ما يحدث الآن في فرنسا.. فما هو تعريف الحرية؟ ما هو تعريف الحق والباطل؟ نجد الآن أحد الدُعاة الجُدد يخشى أن يَدعي أن ما لديه حق لأنه لا يُريد أن يُتهم بأنه يكتنز الحق، عندما يُسأل إذا عن ماذا تتحدث؟ يقول أدعو إلى الله.. فهل تدعوه على بصيرة أم بغير بصيرة ؟إذا فبالتأكيد لديك حق، هذه الخشية الزائدة مما يُسمى بالتصنيف.
ما تعريف الحياء؟ نحن الآن في زمن ترى أمامك شاباً في الشارع يرتدي رداءً غير لائق إذا ذهب ليُحضر بعض المُشتريات، رداءً كان يُعتبر في زمن سابق يُخالف المروءة، الآن تجد شاباً يرتدي ملابس منزلية ومعه فتاة ترتدي ملابس أشبه بالمنزلية أيضاً وهما مع بعضهما في مكان وقد تجاوز الوقت الثانية عشرة ليلاً.
نأتي الآن إلى تعريف الرجولة، الرجولة كانت لها تعريفات سابقاً أما الآن نجد التحرش وسب الفتاة في الشوارع والتعاطي معها بأسلوب سيئ وربما الدخول معها في عراك في قطار وما إلى ذلك ويكتفي الشباب والرجال بتصويره مقطع فيديو، إذا فما تعريف الرجولة؟ وما تعريف الشجاعة؟
ما هو تعريف الصدق؟ صار الآن الطبيعي هو الكذب والخداع والمجاملات وقول ما لا أعتقده إرضاء للغير.
ما تعريف العزة، العزة هذه الأيام هي أن تكون فقط من كتائب سويسرا وألمانيا وهولندا وكندا وهكذا، أما أن تعتز بكونك مسلم وإن كان لباسك ليس لباساً مدنياً أو أنك لا تقرأ لنيتشه ولا تعرف شوبنهاور ولكنك مُعتز بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا أيضاً صار له تعريفات مختلفة.
السعي بالنميمة في مواقع التواصل الاجتماعي المتمثلة في نقل المنشورات بين الناس ولكنها رائجة، التسويق مثلاً هذه الأيام يُقال لك تُوجد كلية اسمها التسويق فعندما تدخل إلى محتواها تجد أن ثلاث أرباعها كذب وقد لا يجوز شرعاً أن تُدرس كثير من موادها ولكنها في أخلاق الرأسمالية لا بأس بها.
قبل فترة كنت في مخيم والمفروض أنه يتبع لجماعة إسلامية والمفروض أن شباب هذه الجماعة يحملون الفكر والرسالة وما إلى ذلك، كان عندهم بالمساء محاضرة سياسية حول الأوضاع وما إلى ذلك وكانت عندي معهم في اليوم الثاني دورة تدريبية بعد صلاة الفجر مباشرة، عندما أتيت أنا وجدت المكان مُبعثرا بشكل سئ جداً، الكراسي والأوراق والمخطوطات على الأرض فأنا أبقيت كل شئ في مكانه وعندما بدأت قلت لهم كيف كانت محاضرتكم أمس؟ قالوا جيدة، قلت لهم وهذه هي مخلفات المحاضرة؟ هل تُريدون إقناعي بأنكم شباب مسلمون، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "نظفوا أفنيتكم" وهذه هي أفنيتكم؟
هؤلاء الشباب رغم أنهم والمفروض أنهم ينتمون لجماعة إسلامية لكنهم جزء من عالم السيولة واعتادوا على هذا الأمر، اعتادوا على أن الندوات تُقعد في فنادق 5 نجوم فيترك نصف زجاجة المياه المعدنية ويذهب إلى البوفيه المفتوح فيأكل ويُسرف ولا يُعيد بقية الطعام لأنه أصلاً لا يجوز أن يُعيد بقية الطعام إلى البوفيه، منظومة كاملة من سيولة الأخلاق يعاني منها حتى المنتسبون إلى التديُن.
أما إذا أتينا إلى مظاهر السيولة في أخلاق من يُسمون بأهل الفن، أغاني المهرجانات والألفاظ النابية المستخدمة في برامج السخرية السياسية، هنالك برنامج معروف يجمع مجموعة شباب على أساس أنهم يُمثلون الأمة العربية في عرض القضايا وهكذا، في هذا البرنامج استدعي ساخر سياسي معروف أيضاً على أساس أنه لديه استجواب، فعندما قوبل بعبارة أنك تستخدم ألفاظ نابية وأن البرنامج فيه قلة حياء وكذا والمفروض أنه ينتمي سابقاً إلى مجموعة إسلامية وأن فيه شئ من التدين، فإذا به يقول بكل بساطة هذا هو كلام الناس في المقاهي ونحن نستخدم أقل شيء، أي أنه يتمنن على جمهور بما لديه. نطرح هنا سؤالا مهما جداً: هل السيولة الأخلاقية أصبحت حتمية نفسية؟ يعني هل لأن هذا هو الواقع المحيط بنا يجب أن يكون هذا ما نخاطب به الناس؟ ولذلك أنا عندي تحفظ كبير على بعض الشباب الذين يُحاولون أن يوصلوا المحتوى الإسلامي بطريقة الكرتون أو غيرها فيستخدمون ألفاظاً غير لائقة أبداً، هل محاولة الوصول إلى الجمهور ستجعلكم تنزلون إلى بئر الوحل هذا بحجة الحديث مع الناس بما يعرفون؟ هذا الأمر ينبغي أن يُعاد النظر فيه.
بين متاهات الإنسانوية وأخلاق السوق الوحيُ ضالتنا في تحديد الصواب من الخطأ
كيف وصلنا إلى هنا؟ هذا محور آخر هو باختصار النظر إلى التاريخ، ما حدث في الفلسفات الشرقية والغربية وما حدث في الأديان اليهودية والنصرانية وما حصل في العصور الوسطى وعصر النهضة وعصر التنوير والحداثة وما بعدها، وبالذات أنا يعنيني بصراحة من أهم التوقفات، التوقف مع مفهوم الإنسانوية الذي جعل الإنسان هو المركز فلم تعد هنالك مقدسات سواه، ما يراه الإنسان حسنا فهو حسن وما يراه قبيحا فهو قبيح مع أن هذا أيضاً ينبغي أن يُراجع، يعني عندما يقول الناس الإنسان أم الإسلام؟ أقول لهم الإسلام أولاً لأن الإسلام عندما يكون حاكماً سيعدل مع الإنسان عموماً، ولكن عندما تقول الإنسان أولاً فأي إنسان تقصد؟ إنسان أمريكا أو إنسان فرنسا أو إنسان طالبان أو مالي؟ فالإنسانوية من القضايا المهمة جداً.
القضية الثانية هي الثورة الصناعية، الثورة الصناعية إلى الآن جعلت الأخلاق الحاكمة هي الأخلاق السوقية، الأخلاق المالية والمادية وصولاً إلى الإعلام وما يصدر من أفلام ومسلسلات (المتحدث الرسمي) باسم الثورة الصناعية وباسم الرأسمالية وباسم الأسواق والموضة، المتحدث الرسمي لجميع هذه الأشياء هو الإعلام والإعلام شئنا أم أبينا يُقدم هوى الإنسان على أنه أخلاق، من كان يظن أننا نناقش الآن فكرة البيدوفيليا وشهوة الأطفال، أنا عندي برنامج قبل حوالي سبعة عشر عاما كنت أقول فيه سيأتي اليوم الذي لن نعود فيه لمناقشة الشذوذ الجنسي وإنما سنأتي إلى نقاش شهوة الأطفال والجنس مع غير الآدميين، الآن يُوجد أشخاص يدعون إلى الزواج من الدمى والهولوجرام والزواج من الشخصيات الوهمية، فإلى أين يصل الإنسان إذا جعل نفسه هو المحتوى؟ ولذلك أن يُضحكني صاحب برنامج شهير في قناة DW العربية صاحب برنامج فتنة يعرف نفسه على أنه إنسانوي ولكن إذا سألته ما هو تعريف الإنسانوية؟ لن يُجيب لأنها مجرد كلمة يحفظها..
هذا يقود إلى مسائل مهمة جداً مسألة ما هو الصواب وما هو الخطأ؟ ومن الذي يُحدد ما هو الصواب وما هو الخطأ؟ وهنا ندخل إلى مسألة مهمة جداً وهي قضية تناولها العلماء المسلمون كثيراً وغير المسلمين أيضاً ولكن المسلمون تحديداً، وهي قضية التحسين والتقبيح العقلي فمن الذي يقول ما هو الصواب وما هو الخطأ؟ هناك من يقول أن الإنسان فطرته تدله على كل شئ، أنا عندي اعتراض كبير على هذه العبارة؛ الفطرة تنسى وقد تُستغفل وقد تُنتهك ولذلك الوحي مهم، رحم الله الإمام الغزالي كان يقول العبارة الشهيرة "الوحي عقلٌ من الخارج والعقل وحيٌ من الداخل".
أنت تحتاج الوحي ليوجهك وإلا إذا تركت المسألة لك لاختلط الحابل بالنابل، نحن لدينا الآن قانون شُرع في نيويورك منذ سنتين يُقنن زواج الفتاة من عمها، دولة كولومبيا منذ عامين قننت تعدد زواج الشاذين جنسياً، إذاً لا ينبغي التسليم فقط بالفطرة وينبغي أن يكون هنالك وحي ولذلك من منظور فقه النفس نقول في ثلاثية عون "عقل، وحي، نظر".
آلية العقل ينبغي أن تكون حاضرة دائماً، فالوحي هو المستند وعملية النظر والسعي والبحث هذه مسألة مهمة.
نصائح وقائية:
- الله أولاً: إذا أردت أن تبدأ أي نقاش مع نفسك أو مع غيرك ضع في حساباتك أن الله أولاً، فإذا لم يكن الله أولاً ستتيه وسيكون المزاج والهوى والمصلحة وما إلى ذلك وستدخل آلاف المصطلحات وتقف حاجزاً بينك وبين الحق، نحن دائماً عندنا شعار يقول "الله، أنا، الآخر" فأخلاقي نابعة مما يقوله الله ومردي هو الله ليس مزاجي وليس الآخرين وعندما أُريد أن أتبصر بنفسي فيكون ذلك حسب مراد الله وعندما أُريد أن أتعامل مع الآخر فحسب مراد الله، عندما يتعامل معي الآخر أُقيم ما يقوله أيضاً بمراد الله سبحانه وتعالى.
- الأمر الثاني: أيضاً مهم جداً وهو الشعار التالي "لا تُرهبني" أي عندما يقول لك شخص ما: هل أنت من هؤلاء الناس، تقول له: نعم أنا من هؤلاء الناس، يقول لك: ولكن هذا رجعي تقول: نعم أنا رجعي، فلا تُرهبني بهذه العبارات مثل أنت ضد المرأة، لا أنا معها أكثر منك، أنت ضد التقدم، لا أنا مع التقدم ولكن للأمام وليس إلى الخلف، احملوا هذه العبارة واستخدموها ولكن هذا يحتاج إلى علم فعندما يرمي لك أحد عبارة معينة ينبغي أن تكون عالماً كيف ترد على هذه العبارة ولكن لا تُرهبنكم هذه العبارات.
- احذروا من المدخلات المتكررة، مدخلات الإعلام والسخرية والنكت الزائدة، نحن مع الأسف نتقبل الكثير من سوء الخلق الذي يأتينا عن طريق السخرية، للأسف نجد أحد صُناع المحتوى الإسلاميين محتواه مليئ بمقاطع مرئية يأتي بها من أفلام والمقاطع سيئة ولكن يجوز له لأنه يتحدث عن القدس والمقدسات وهكذا، فقضية المدخلات المتكررة ينبغي أن تُراجع.
- استخدموا المصطلحات الأصيلة وأصروا على استخدامها في تواصلاتكم في اليوم وفي الليلة وفي مواقع التواصل الإجتماعي وحتى في التواصلات الشخصية، الذي لا تُريد أن يسمعه الناس منك لا تستخدمه في حياتك الشخصية حتى نُعَوِد أنفسنا أولاً ثم نعود الآخرين على أن هذه هي التسميات الصحيحة وهذه هي الأخلاق، صفوا الأمور كما هي فلا تقول fashion وإنما قُل عُري ولا تقل مُفكر صفه كما هو فقد يكون جاهلا مُركبا وقد يكون عالما، وصف الأمور كما هي مُهم جداً لعلنا ننتصر للأخلاق في عالم السيولة.
في الحقيقة يا دكتور لم ترسم الحداثة الحدود والمعالم الجغرافية فقط ثم ما لبثت كما ذكرتم أن ذابت صلابة المرحلة السابقة وتداخلت الحدود وتلاقت السمات، مشكلة سيولة لم تقتصر على حدود الدول ومعالم المجتمع بل تعدتها إلى سمات الهوية الفردية والخصائص الثقافية، كما ذكرتم سيولة البشر من مكان إلى مكان وسيولة المال وسيولة الهويات وكذلك سيولة القيم الأخلاقية وما أنتجته أيضاً من تدهوراتٍ في السلوك والمعتقدات، في الحقيقة أنتم قد ذكرتم مجموعة من النقاط أتمنى أن يكون فيها مزيد من التفصيل مع الأسئلة القادمة في هذه المتغيرات التي ذكرتم والتي نُحاول تفكيك ظواهرها لفهم العالم المعاصر أولاً والتفكير في متغيراته ومآلاته ثانياً وبالتالي تلمس ما يُعين على التفاعل والاشتباك ثم التجاوز إن شاء الله.
إذا سألتك دكتور عبدالرحمن، نرى أن المنظومة المادية قابلة للتفاوض والتغيير عند الحاجة ولكن مع هذه المنظومة تجعل من الكائن الإنساني مرجعيةً في ذاته وأخلاقياته كاملة فيه ونابعة منه عائدة إليه بالمنفعة أو اللذة أو البقاء، فتصبح الأخلاق أخلاقاً نيتشوية، في رأيكم دكتور لماذا رغم عدم صلابة هذا الطرح الأخلاقي الغربي نجد الكثير متماهياً مع تنقلات وتقلبات هذا الخطاب؟ وفي رأيك ما هو القادم في سلسلة المباحات الغربية وأنت ذكرت مجموعة من الأمثلة التي يستصعب الإنسان حتى سماعها؟
بدايةً دعونا نفهم مسألة مهمة جداً؛ هل الأخلاق بكل تعريفاتها الفطرية والعقلية والإيحائية والنظرية الإسلامية أمرٌ سهلٌ أم صعب؟ هي أمر صعب بالطبع وليست سهلة ولكن النفس تميل إلى الأسهل، فالنسبية تُهدي النفس الأسهل، رحم الله من قال: "ليس العجب فيمن هلك كيف هلك إنما العجب فيمن نجا كيف نجا" لِأن السباحة ضد التيار صعبة.
المادية ليست نسبية كاملة، كل فكرة إنسانية تقف عند حد تقدسه مهما كانت فهي لديها أخلاقها الخاصة، سميها أخلاق نفعية سميها أخلاق هوائية سميها أخلاق مزاجية سوقية لكن هي لديها حد مُقدس تقف عنده، أعطيك مثالاً: الآن يتحدثون عن حرية التعبير لكن تقف حرية التعبير عند صورة كاريكاتيرية لماكرون؛ تقف حرية التعبير عند الهولوكوست؛ تقف حرية التعبير عند السامية، فالقصد هو أن نتذكر دائماً أن حتى هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم متحررين هم في الحقيقة يقدسون مُقدسات معينة، وهي بمثابة صنم العجوة بالمناسبة أو صنم التمر الذي يصنعونه ثم يأكلون منه، لكن باختصار لماذا تتماهى النفس؟ لِأن هذا أيسر.
أنا دائماً أقول واحدة من إشكالاتنا مع ما نسميه شعوذة التنمية البشرية أنها تُقدم للناس دين سُكَر خفيف قليل التكليف، التي هي مزيج بين القليل من الروحانية مع السلام العالمي والمحبة وعدم ضرورة الحجاب وأن الدين في القلب.
الآن ينتشر هذا الخطاب في الوسط الإسلامي، انتشار التصوف الفلسفي مثل الأشعار الصوفية اللطيفة لأنها لا تُقيد، ولذلك أنا بدأت بهذا السؤال هل الأخلاق سهلة أم صعبة؟ عندما نقول الحديث الشهير "ليس الشديد بالصُرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"، الصدق صعب والوقوف مع الحق صعب، العدل صعب والإنصاف صعب فهذه أخلاق صعبة، إمساك اللسان صعب؛ كانت لدينا دورة وكان المطلوب منهم أن يقرأوا كتاب الصمت لابن أبي الدنيا؛ فجائني تعليق من أحد الطُلاب قال لي: اتضح أن هذه المسألة صعبة، قلت له: نعم ومن قال لك أن الأمر سهل؛ لأننا لدينا شهوة كلام وشهوة مفاخرة وشهوة جذب وكبر، فبالتالي أياً كانت الأخلاق نيتشوية أو كانتية أو ما بعدية وما إلى ذلك في الآخر الإنسان يصعب عليه أن يلتزم، لذلك نقول مرة أخرى إذا لم يكن هنالك ثمة إيمان بالكائن المفارق والمباين؛ إيمان بالله سبحانه وتعالى فعلامَ يلتزم الإنسان؟ اليوم سيجد أمراً يلتزم به غداً يراه لا نفع فيه وينتقل إلى شئ آخر ولذلك من المظاهر التي خطرت في ذهني الآن ويعلم الله سبحانه وتعالى أنه لم يكن في نيتي الحديث عنها لكن المظاهر المحزنة أن نجد بعض الشباب الدعاة الذين أصبحوا يتنقلون حيث ترى منشوراً له قبل أشهر لا علاقة له بمنشور اليوم، الأخلاق عنده أصبحت نسبية لأن القضية أصبحت بعدد المشاهدات وعدد مرات الإعجاب بالمنشور وحجم الجمهور.
الإجابة المباشرة باختصار هي أن النفس الإنسانية تميل إلى الأسهل وإلى الأيسر والأخلاق ليست سهلة، فأن تكون خلوقاً معناها أن تكون قوياً وأن تكون بلا خُلق معناها أن تكون ضعيفاً، أُعطيك مثالا صغيرا: أنا أُدرس أطفالاً صغاراً في المدرسة فأقول لهم: أيُها أسهل أن تتحكم أنت بهذا اللسان أم هو يتحكم بك؟ يقولون طبعاً أنا أتحكم فيه فأطلب منهم أن يتحكموا بهذه العَضَلة طول فترة المحاضرة، فيكتشف لاحقاً أنه لا يستطيع لِأن الأمر ليس بهذه السهولة، أيضاً أقول لهم بالمقابل أيها أسهل أن أقول لك ألفاظاً نابية أم أمسك نفسي؟ الكلمات سهلة جداً ولكن ضبط النفس صعب جداً.
علمنة الروح.. عندما تُفكك المنظومة الأخلاقية وتُفصل عن الواقع
العقل في القرآن يأتي بمعاني كثيرة وللأسف عتبي على كثير من الفلاسفة القُدماء والمُعاصرين والمتحدثين باسم النهضة وغيرها أنهم اختزلوا مفهوم العقل في القرآن بالمفهوم الذهني المنطقي (الأرُسطي) مع أن العقل في القرآن أول ما ورد إذا تصفحت القرآن ستجد أول ما تصدمك مُفردة عقل قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) فمعناها أن العقل هو ما يعقلك عن الخطأ أي أنك إن لم تكن خلوقاً فلست عاقلاً، بعد ذلك تأتي قضية التدبر والتفكر وربط الأشياء والأسباب والنتائج وإلى آخره.
دكتور لو انتقلنا إلى نقطة أخرى، لو حاولنا تطبيق نموذج تفسيري لانفصال الأخلاق عن المجالات العامة فيُمكننا مثلاً مُلاحظة تحرك الوظائف حسب قوانينها الداخلية والذاتية الكامنة فيها، فتصبح مرجعية بذاتها منفصلة عن أي قيم متجاوزة وتحييد مضمون الوظيفة جعل بعضها والتي كانت في بعض المجتمعات مُشينة وهامشية وغير مقبولة تُصبح مرغوبة ومطلوبة ومثالية وعلى العكس، في رأيكم دكتور عبدالرحمن ما خطر هذا الفصل بين الوظائف والقيم؟ إذا ضربنا المثل بعارضات الأزياء ومُضيفات الطيران مثل هذه الوظائف كانت نادرة أما الآن أصبحت مرموقة والعكس مثلا وظيفة التعليم كانت قبل قرن من الزمان وظيفة راقية جداً والآن فقدت هذا البريق.
هنالك ما نتحدث عنه في فقه النفس وما أسميه "علمنة الروح" وللأسف هذا يجري الآن في الأوساط الإسلامية ألا وهو (عندما أقول الأوساط الإسلامية لِأني أُفضل أن نُصلح أنفسنا أولاً قبل أن ننقد المجتمعات الأخرى)، فعلمنة الروح المقصود بها عندما تُذكر الروح والجسد نجد أن الروح تُفصل وتُختزل عادة، فعندما نقول كلمة وروحانية عادة ما يتجه الذهن إلى مكان مُغلق مُظلم ومُعتم هو عبارة عن محراب وشمعة أو هلال وشخص رافعاً يديه يدعو الله، تم اختزال مفهوم الروحانية عندنا بالنسك التعبدي الذي لا علاقة له ببقية شؤون الحياة، أصبح الأمر وكأنما المواد الروحية تُخاطب الروح فقط وليس العقل أي أنها أصبحت تُعامل وكأنها لا عقلية وهذا فصل خطير جداً، وبالمناسبة هذا الفصل منتشر في الطروحات الفكرية الإسلامية بشكل كبير، عندما يُقدم بعض رواد المشاريع فكرة أن الإنسان عبارة عن جسد وروح ونفس وعقل وناحية اجتماعية، أنا أقول هذا الخطاب لو سمعته يُصيبني بالمرض فهذا الخطاب يُفككني، أنا الآن عندما أُخاطبك من الذي يعمل الآن؟ الروح هي التي تجعلني أختار كلمات معينة وأبتسم وأصمت وأصدق وأُجامل، وَصف الروح ينبغي أن يكون أشمل مما أُختزل فيه، عندما أختزل وصف الروح على هذه الأمور صارت الأشياء بصورة مُفصلة، أن تقول مثلاً: الشيخ الفلاني يُقدم مادة روحية مُميزة ولكن لا تأخذ منه علم؛ فهذا خطير جداً.
أنا عندي ملحوظة أكررها دائماً، عندما أُسافر إلى المؤتمرات العلمية والتي يكون فيها أحياناً مشايخ ودعاة تظهر مظاهر سيئة، في مرة من المرات حدث أنني وقفت وقلت عبارة استاء البعض منها، عندما يكون المفروض أننا أهل دين وعلم وعندما يأتي وقت الغداء ونجد أن الصحون تُملأ وأكثر من نصفها يُلقى في القمامة، وعندما يأتي النادل لا ننظر حتى في عينه ونخاطبه باحترام، حدث معي مؤخراً أنني كنت في مؤتمر مع مجموعة من الدعاة والعلماء فأعطيت جناحا كبيرا وأنا بمُفردي فاتصلت على موظف الإستقبال قلت له: إنني أُريد غرفة أصغر؛ قال: هذه أكبر غرفة عندنا؛ فهو مُستغرب من الأمر، المفروض أن صاحب الفندق ينتمي إلى جماعة إسلامية والمؤتمر كله عُلماء ورجال دين؛ فعندما قدم إلىًّ الشخص الذي سينقلني إلى غرفة أُخرى قال لي: أنا أعمل في هذا العمل منذ سنوات وهذه أول مرة يطلب فيها شخص هذا الطلب الذي طلبته؛ لقد استئتُ فعلاً، فالمفروض أن الجميع هنا أهل علم ودعوة والمفروض أن تكون هذه هي الأخلاق الثابتة، في حين أن أي واحد منهم لو طُلب منه أن يؤدي خُطبة جُمعة عن الإسراف والزهد سيُعطيك خُطبة عصماء، لكن على أرض الواقع هو الذي ينزعج إذا لم يتم استقباله بليموزين عند المطار، فإذا كان هذا الفصل في الدائرة التي نحسب فيها الخير فما بالك بالفصل في الشركات.
إذا تقدم شخصٌ ما إلى وظيفة فيدرس دورات في التنمية البشرية في المقابلات التوظيفية بما فيها من ادعاء وكذب وتزوير وما إلى ذلك، كان عندي زميل في أمريكا يدرس إدارة الأعمال قال لي يا عبدالرحمن ما درسناه اليوم عكس ما تقوله أنت تماماً ما درسناه اليوم كله يزج بنا في النار، في شرعنا لا يجب أن تبيع على بيع أخيك ولكن ما يدرسونه أنه يجب عليك أن تحاول قدر الإمكان أن تبيع على بيعة أخيك.
فهي منظومة كاملة وعندما فُككت الأمور عن بعضها والتي أُسميها أنا "علمنة الروح" نجد أننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن فأصبح المقياس هو دع مال السوق للسوق ومال المسجد للمسجد ومال البيت للبيت.
في مرة من المرات أتاني شخص كان عنده إشكال مع أبنائه وكان دكتوراً في علم النفس التربوي، قلت له المفروض أنت الذي تُعلمنا؛ قال لي: كلام الكتب هذا شئ والواقع شئ آخر، وهو دكتور جامعي فلك أن تتصور ما هو دون ذلك ولك أن تُعمم ذلك على الجميع: خطيب الجمعة والمُدرس والواعظ والمراكز القُرآنية وصولاً إلى المناحي الأخرى مع الأسف.
أُعطيك مثال: عندما يُخاطب أكثر من مُمثل هل تقبل بأن تدخل ابنتك في مجال الفن؟ يقول لا؛ هل تقصد أن مجال الفن سيئ؟ يقول لا زميلاتي الفنانات كلهم مُحترمات ولكني لا أُحب أن تدخل ابنتي في هذا المجال، فلاحظ هذا عامل تفكيك هذا الشخص يفصل المنزل وأخلاق المنزل عن العمل وأخلاق العمل.
دكتور في حديثك الأول التقطت مُصطلح الإلحاد وأردت أن أسأل حوله بمزيد من التفصيل، قد يقول البعض أن الأخلاق منفصلة عن مبحث الوجود ولذلك يُمكن أن نرى ملاحدة لكن مُتخلقين، مع ما في هذا الطرح من تساؤلات حول العلاقة بين الالتزامات الأخلاقية والتصورات العقلية للملاحدة وهو ما يُشكل المُعضلة الكبيرة للإلحاد الجديد، فرُواد الإلحاد القديم مثل نيتشه قد فطنوا لهذه النقطة ونحوا منحى الوجودية والعدمية تماماً، فما رأيك دكتور ألا يُشكل هذا القول تناقضاً صريحاً بحكم أنه عند إلغاء الإله كما يقول دوستويفسكي فكل شئ يُصبح مباحا؟ ففي رأيك عند إلغاء الإله ما هو المبرر العقلي لوجود الأخلاق والقيم بالنسبة للملاحدة بالطبع؟
هذا سيُعيدنا إلى ما ذكرناه قبل قليل وهو أن تعريف العقل عندنا في القرآن هو تعريف شامل وليس تعريفا جزئيا ولذلك أيضاً من المآخذ على محاولة أسلمة الفلسفة هي الفصل بين الثُلاثية فيها (مبحث الأنطولوجي، مبحث الإكسيولوجي، مبحث الإبستيمولوجي)، أنا أرى أن الثلاثية في ذاتها فيها إشكال في الفصل، نحن عندنا في الدين الإيمان وشعب الإيمان فعندنا لا يؤمن أحدكم حتى يكون كذا وكذا وكذا فمفهوم الإيمان عندنا مفهوم شامل، ومفهوم الإيمان مفهوم شامل لأن النفس الإنسانية إذا أرادت أن تتناغم لدينا ما يُسمى بالعلم والعمل أو ما يُسمى بالفكرة والشعور والسلوك، فالأصل أنك إذا أردت أن تتناغم مع ذاتك ففكرتك وشعورك وسلوكك يجب أن يتناغموا، فالمفروض أنه لديك تصور مُعين، هذا التصور يتناغم معه الشعور فيصدر عنه سلوك يتناغم مع الثنائي، في الإسلام يُوجد هذا التكامل فأنت لديك تصور عن الوجود وعن الكون وعن السنة الكونية وعن الزمان والمكان وعن البيئة وما إلى ذلك؛ وأيضاً لديك شعور تجاه هذا التصور ولديك سلوك ناتج عن هذا التصور والشعور إذاً فأنت متناغم.
عندما يأتي الملحد نجد التصور غير مُنضبط والشعور مضطرب والسلوك إما أو، ولذلك لن نُكرر ما هو منثور على الشبكة في قضية أن هنالك ملاحدة لديهم أخلاق وليس هناك إلحاد أخلاقي، يعني أن المُلحد قد يكون خلوق ولكن السؤال هنا من يأتي بأخلاقه؟ هو لن يستطيع أن يأتي بأخلاقه إلا بتفسير يُبرره إلحاده أو بمصلحة نفعية ناتجة، فهو إما أن يقف أمام تفسير لا يجد له تبريرا إلحادياً أو أن يقول فقط أن هذا الأمر يجعله يشعر بشعور جيد فتكون الأخلاق نفعية أو ما أُسميها بأخلاق الدوبامين والأدرينالين والإندورفين، ولذلك لا عجب أنهم الآن يدعون إلى الروحانية ولكن بلا دين، وآخره ما فعلوه في الصيف كان شيئاً مُضحك فقد دعوا للحج فذهبوا في رحلة روحية أشبه بالحج.
يقول دي بوتون صاحب كتاب دين للملاحدة في مقدمة كتابه: "دعونا نعترف أننا لا نستطيع بإلحادنا أن ننشأ نشأة سليمة، ولذلك من الضروري أن نسرق من الأديان ما يجعل حياتنا مطمئنة أكثر"، فإذاً الملحد بكل اختصار لديه إشكالية كبيرة مع الأخلاق وهي أنه لا يستطيع تفسيرها، اعتقادنا ويقيننا وما يعتبرونه مزاعماً عندهم بأن هذا من بقايا الفطرة الإلهية فالذي يجعلك ترحم وتصدق وهكذا هو بقايا الفطرة الإلهية وهو شيء متوارث من سيدنا آدم عليه السلام.
الملاحدة عندهم حالة من الخيانة وما نعنيه بالخيانة أنهم يدعون لأنفسهم أمراً لا يتناغم مع منظومتهم مثل العدل، فما هي القوانين التي أتت بالعدل في بلادهم؟ على أي شيئ قام العدل في بلادك؟ يقوم العدل في بلادهم على بقايا الكنيسة ومُطعم قليلاً بأخلاق السوق وشيئٍ من أخلاق الثورة الصناعية والحداثة وما بعدها وأبقوا على شيئ من هذا وشيئ من هذا، فهذه خيانة وليست أمانة فإنه عليك أن تُجرد نفسك من كل شئ وأرني كيف ستعيش حياتك، وهذا ما يحدث في فرنسا الآن؛ أن يصل الأمر إلى أن الثوار الفرنسيين يرفعون لافتات في الشوارع تُجرم الإسلاموفوبيا قد يبدو هذا مُضحكاً ولكنهم وصلوا إلى مرحلة الإدراك بأن هذا الأمر غير منطقي، لذلك أنا دائماً أقول أن أي شخص يُجرد نفسه من الهوى وما يسمى بالمُغالطات المنطقية وغيرها لن يصل إلا إلى أن ما يجري الآن في العالم الغربي هو عبارة عن جنون في الحقيقة، ولكن الذي يُحركهم هو القوة نحن بالنسبة لنا لا نعرف عن العالم الغربي إلا ما يُثيره الإعلام والقضايا التي تُصبح قضايا رأي عام ولكن هل نعرف حقيقة وضع المرأة في العالم الغربي؟ وهل نعرف وضع العُمال في العالم الغربي؟ وهل نعرف وضع الأجور والمساواة في الأجور في العالم الغربي؟
على حديثك دكتور هو أن الملحد الحقيقي إن جاز لي التعبير كما ذكرت لا يُمكنه أن يُعارض بعض الممارسات التي يُمكن حتى وصفها، أتذكر مقطع على اليوتيوب لأحد أباطرة الإلحاد مع الداعية البريطاني من أصل يوناني حمزة تزورتزس، أثناء الحديث تطرق لسؤال وقال عفوياً أمام الجمهور أنه لا مشكلة لديه مع الأخلاق، هنا نفهم لماذا ريتشارد دوكينز يقول أن هناك الكثير من الممارسات الأخلاقية التي لا يُمكن تفسيرها إلا في الإطار الديني.
من الأشياء المضحكة في بعض شبابنا هداهم الله أنه ينبري لدراسة فلسفة نيتشه وأخلاق نيتشه ويقول نيتشه هو فيلسوف الأخلاق، أي أخلاق هذه؟ هل لأنه تحدث عن الأخلاق نسميه فيلسوف الأخلاق؟ وكأن البعض من شبابنا لم يعد يعجبه قال الله وقال الرسول فصار من الضروري أن يُطعم ما لديه بكلمات مثل سارتر وهيغل وتوماس هوبز وهكذا.
صحيح دكتور إذا قلت مثلاً قال الشافعي أو قال الغزالي أو قال الرازي وهكذا لن تجده متفاعلاً معك بجدية ولكن إذا ذكرت أنه قال ديكارت أو سارتر ومن هم على شاكلتهم سيحسبك مثقفاً وواعياً ومُلِماً بخبايا العصر، فهذه من المعيارية التي كما ذكرت نحسبها من تبعات عقدة النقص التي نشأ عليها شبابنا.
"فقه النفس".. مادة إسلامية أصيلة تستقي مفرداتها من النصوص القرآنية والنبوية
إذا انتقلنا إلى نقطة أخرى دكتور بعد أن ذكرت مشكلة أسلمة الفلسفة ثم تحدثت عن المعترك النفسي أريد أن أسأل وأنت كنت قد لمًحْت إلى هذه النقطة في حديثك وهو أن العلم يتلون بالمجال التداوُلِي الذي يُتَداول فيه، في رأيك دكتور هل فقه النفس يُفكر من داخل المجال التداولي الإسلامي؟ أم أنه يُشابه ما هو حاصل في محاولة أسلمة باقي العلوم والمصطلحات تلبس لباس الإسلام؟
هو في الحقيقة أي شخص يحضر معنا فقه النفس يعلم أننا سلفيون جداً في هذا بل بالعكس أنا أزعم أن مما يُؤخذ على المادة أنها تقريباً تكاد تخلو من الألفاظ الغربية، سأضرب مثلاً فقط من باب التقريب والتشبيه وهو أني قريب جداً من مدرسة الدكتور طه عبدالرحمن الذي يمتلك مفرداته الخاصة به والتي ينحتها نحتاً من الأسلوب القُرآني مثلاً ثُلاثية فقه النفس وهي "إقرأ، ونفس، لتعارفوا" فهذه كلمات قٌرآنية وكلما دخلت إلى العمق ستجد أن كل النصوص قُرآنية نبوية؛ في مرة من المرات دُعيت إلى دورة تدريبية وبعد خمسة أيام قال لي الأخ المُنسق: يا دكتور أنا استغربت أن المادة غنية جداً لكنك لم تذكر فيها مُصطلحا غربيا؛ قلت له: بالطبع فنحن الأصل لماذا أتجه إلى مستنقعات مثل هذه لآخذ منها بعض القطرات وأنا عندي كل هذا الفيض؛ وبالطبع لا يعني كلامي أبداً أننا نتكابر على الآخر ما أقوله أن ميزة مصطلح فقه النفس أنه لا يرى بأس في أن يأخذ مما لدى الآخرين لِأنه حيثُما وُجد العلم أهلاً وسهلاً به ولكن هذا بعد أن تكون قد أكملت ما لديك، فالإشكال عندنا هنا أننا نقفز إلى مُستنقعات الآخرين ونحن لم نخض فيما لدينا؛ كمن يقفز لتعلم اليوغا وهو لم يقرأ صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُتقن الطُمأنينة في الصلاة والأسوأ منه هو من يُحاول أن يُأسلِم اليوغا.
ولذلك الإجابة المباشرة هي أننا نزعم أن فقه النفس مادة إسلامية بامتياز بل ستسغرب إذا قلت لك التالي ـ وهو مما يأخُذه عليً بعض إخواننا ممن نحسبهم على خير ـ أنني عندي تجاوز لبعض عُلمائنا الذين كانوا في القرن الخامس والسادس والسابع وقبلهم قليلاً لأني أجد أنهم كانوا مُتأثرين بالطرح اليوناني؛ فبعض عُلمائنا المسلمين كانوا متأثرين بتقسيم النفس في الطرح اليوناني عند أفلاطون وأرسطو وغيرهم ولذلك أنا أرى أنه إذا أردت أن تخرج بفقه نفس إسلامي حقيقي سيكون عليك أولاً بالقرآن والسنة النبوية وما أجمع عليه القرن الأول من الصحابة والتابعين وبعد ذلك استفد مما تشاء من الخارج.
في الإشكاليات الموجودة كما ذكرنا في كثير من الأبحاث هو عدم الاتساق مع الخصوصيات الحضارية والرضوخ لخصوصيات أخرى وتقمص مشكلات اخرى؛ فلو تأملنا المشهد دكتور بصورته الشاملة إلى مدى نحن بحاجة للتذكير دوماً بأن من يُريد أن يرسم ملامح إسلاميةٍ في موضع ما سواء فقه النفس أو غيره فلابد أن يتحرر من هيمنة النموذج الثقافي الوارد فهذه مشكلة كبيرة جداً.
يُحدثني أحد الأخوة الأفاضل وهو كان دكتورا يتخصص في العلاج النفسي في بلد غربي يقول أن أحد الدكاترة المسؤولين عنه كان يسأله ويقول له أنتم المسلمون أين نظرياتكم؟ عليكم أن لا تنظروا إلى غيركم عندما تخرجون بنظرياتكم؛ عليك أن تخرج بنظريتك ثم بعد ذلك قارنها بغيرك؛ هذا الكلام عندما سمعته منه ذكرني بأمر كنت قد نشرته سابقاً وهو أن مما أعجب له ويُحزن أنك تسأل أشخاصا يعيشون الآن في عصر غوغل عن النفس في الإسلام فتكتشف أن هنالك مستشرقين دكاترة لا يعرفون عنك شيئاً بل لا ينظرون إليك أصلاً فهو مكتفي بما لديه.
وأنا أعد المادة لهذا راجعت بعض الأشياء في كتاب دستور الأخلاق في الإسلام فاستوقفني في المقدمة أنه يقول عندما قرأ كُتب الأخلاق عند الغرب وجدهم دائماً يونان ويهود ونصرانية وهكذا ثم قفزاً إلى عصر التنوير ولكن لا يُوجد إسلام، أنا أقول في مادتي مدخل إلى علم النفس أنصح بخمس نصائح:
أولاً: على أي إنسان إذا أراد أن يدرس أي شئ مُتعلق النفس والاجتماع أن يتمكن من أصول الدين وأصول الفقه.
ثانياً: أن يتمكن من الاستنباط من القرآن والسُنة النبوية ما له علاقة بالنفس البشرية والاجتماع من المصدرين الأساسيين.
ثالثاً: أن يطلع على مُصنفات المُسلمين القديمة.
رابعاً: أن يطلع على علم النفس الإجتماعي الحديث من مدارسه (فرويد، التحليلية، الإنسانية، إلخ) لِأنه ينبغي أن يكون قوياً، أنت ستنزل إلى السوق فينبغي أن تعلم ما في السوق.
خامساً: بعد أن تمتلك الأدوات نستطيع أن نُسميك مُجتهداً نفسياً الآن وتستطيع أن تُخرِج وتستنبط مواد مُعينة خاصة بك أنت ولكن لا ينبغي لهذا إلا أن يكون بعد المراحل السابقة.
من وسائل تحقيق العزة: التسلح بما لدينا ومراجعة خطاب النهضة المُمجد للغرب
وللتثنية على ما ذكرت أقول أنه ينبغي عليك أن تنطلق أولاً مما لديك، وهنا نأتي إلى مفهوم العزة الذي ذكرناه سابقاً أنه لدينا إشكال في العِزة، نحن للأسف ومما يُبكي قلبي أن شبابا كانوا في يومٍ من الأيام طُلابا توسمنا فيهم خيراً تخرجوا كأطباء نفسيين في أمريكا ثم اختزلتهم أمريكا فأصبح الواحد منهم الآن عبارة عن علماني نفسي فيه مسحة إسلامية فما عاد المُسلم الذي كُنا نرجوه، وأنا عندي بالمناسبة رؤية عامة توجد بها القليل من الاستثناءات التي لا تكاد تُذكر وهي أن مُعظم من رأيناهم يتخصصون تخصصات نفسية إنسانية في الغرب معظمهم للأسف لا يثبتون على الملة التي كانوا عليها فالإستثناءات قليلة جداً وهذه القلة تؤكد القاعدة، فكما أقول دائماً شبابُنا يخرُجون إلى الغرب مُشلَحين لا مُسلحين فإنه يحتاج أن يعد نفسه عدة حقيقية ولكن هذه العدة غير موجودة مع الأسف والله المستعان.
داخل هذا الإطار الذي ذكرته دكتور دائماً ما أتذكر كلام مالك بن نبي رحمه الله حول هذا الذي ذكرته ويضرب مثالا ويقول لماذا أولئك الأعراب في جزيرة العرب والصحابة أمام قوتين عظيمتين وهما الفرس والروم ولم يشعروا بعقدة النقص هذه أمام هذه القوى وقد كانوا أنفُسَهُم، فقد كان يتحدث ثم يعود ويقول أن التمكين لابد أن ينطلق من عدم الانتقاص من النفس وأن لا تكون هنالك عقدة النقص أمام الغالب والمهيمن أو المسيطر مادياً.
عندما آتي إلى قضية العزة أُعطي مثالاً دائماً وهو أن المُسلمين عندما هاجروا إلى الحبشة وعندما عادوا لم يتكلموا عن العمران فيها بل على العكس انتقدوا بعض المظاهر من ضمنها الشرك فهذا الذي يُحركهم، كذلك قصة هُدهُد سيدنا سُليمان عليه السلام عندما زار بلقيس وقومها فهو لم ينتبه إلى أي شئ آخر سواء استنكاره لشركهم وسجودهم لما هو دون الله، مثالٌ آخر على ذلك هو ربعي بن عامر في معركة القادسية، هذا الرجل الذي عندما تقرأ وصفه في السيرة قد تضحك هو رجلٌ قصير القامة رث الهيئة يشُد رمحه بخرقة لِأنه مكسور وحصانُه تحْسَبه بغلاً ومع ذلك يدخل إلى رستم ويفعل ما يفعل لدرجة أنه بعد ما يخرج يقول من حول رستم لرستم ما نراك إلا أخذ بِلُبِكَ الأعرابي؛ فأين درس رِبعي هذ؟ا هل ذهب إلى أوكسفورد أو درس علوم سياسية؟ أم درس مهارات المفاوضات وهذه الأمور؟ لا أبداً فكل ما يعرفه هو العقيدة التي جاء بها مُحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكلة تكمن في منظور العزة عندنا.
أنا أضم صوتي إلى مجموعة من الأخوة بارك الله فيهم الذين بدأوا مؤخراً في الإشارة إلى الأمر التالي وهو أنه على دُعاتِنا ومُديري مشاريع النهضة وغيرها أن يُعيدوا النظر في كيفية خطابهم الذي مع الأسف ألّه الغرب دون قصد منهم؛ كل النماذج التي يطرحونها هي بيل غيتس وستيف جوبز وأمريكا والتجربة اليابانية وما إلى ذلك فعندما تُغدق هذه الأمثلة على الجمهور تطمس هويته فما عاد يعتني به.
وكذلك نُلاحظ الخطاب السياسي الإسلامي مُعظمه يدور حول الفردوس الأرضي والأبراج وناطحات السحاب فهذا الشخص إذا مات ولم يُحقق هذه الأمور ماذا يفعل؟ ولذلك لا عجب من محاولات الانتحار والإلحاد الشائعة في أوساط الأشخاص الذين لم يُحققوا الفردوس الأرضي الذي كانوا يتمنونه ووُعِدوا به، أحد الكُتاب المشاهير عندنا في المنظومة الإسلامية جاء في يوم من الأيام إلى الأردن وحضر محاضرة كاملة قوامها أن الذي حُرِقوا في الأخدود هم عبارة عن فَشَلة؛ القرآن يقول ذلك الفوز الكبير وهو يقول أنهم فشَلة ويقول أن هذا ليس نصراً لِأنه مأخوذ بهوليود وبالنصر المربوط بالتعريف المادي، فأنا أضُم صوتي إلى صوت الدعاة الذين يُحذرون من هذا.
علِموا الناس أن انتصارهم الحقيقي هو عندما يقفوا بين يدي الله يوم القيامة وقد نجحوا في امتحان الدنيا فهذا هو الفلاح، لذلك أنا دائماً أقول من مآخذي على بعض الدُعاة استخدام كلمة النجاح كثيراً؛ لماذا لا يستخدمون كلمة الفلاح؛ النجاح في اللغة هو الظفر بالشئ فقط أما الفلاح هو الظفر بالشئ الباقي أثره، ولذلك لا عجب عندي عندما يُستمع إلى حيً على الفلاح يومياً أن لا يُحرك فيه ذلك شيئاً لكن لو قال حيً على النجاح يهب مُلبياً أياً كان الكورس؛ إذا فالمعايير تحتاج إلى مُراجعة.
ها هي الثلاثية التي يحققها الإسلام ولن تجدها عند أي أيديولوجية أخرى؟
دكتور أنت ذكرت الشيخ عبدالله دراز وهو يؤكد في كتابه دستور الأخلاق أن الإسلام لا يطلُب ولا يرضى أن تُنفذ أوامره تنفيذاً آلياً خضوعاً لصولة حكمه كما ذكر؛ ولكن قبل كل شئ لابد أن تسري أوامره إلى أعماق الضمير ويتشربها القلب ثم تتحول إلى أوامر ذاتية؛ فأول خطوة في امتثال الواجب هي الإيمان بوجوده وعدالته ثم يُحمل هذا الإلزام للنفس على كف الضمير، دكتور إلى أي مدى راعى الإسلام هذه النفس البشرية وتحرى ما يُوافقها ويتناسب معها؟ وهل الأمر غالباً يحتاج إلى فقه واستنباط حتى يستكشف الإنسان هذا الأمر؟
هل تذكر الخماسية التي ذكرناها قبل قليل لكل من يُريد أن يتخصص في هذا المجال؛ وكان أولها أصول الدين وأصول الفقه؛ سؤالك هذا مبحثٌ أصوليٌ بامتياز لِأنه يتحدث عن مقاصد الشريعة، ما الذي أتى به الوحي ليُحققه للإنسان؟ أنا دائماً أقول الأمر الذي أتحدى به أي أيديولوجية على وجه الأرض هو أن تحقق ثُلاثية لن تجدها إلا في الإسلام:
ـ الإسلام يُعطيك الإجابات اليقينية عن الأسئلة الوجودية.
ـ الإسلام يُعطيك ما أُسميه أنا بالشمولية؛ يعني مثلاً رب منزل يُعطيك الإجابات التي تبحث عنها وكذلك ربة المنزل تُعطيك الإجابات التي تبحث عنها؛ وكذلك المُدرِس والتاجر والطبيب وهكذا.
ـ الإسلام يُعطيك أسباب الطُمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة.
أنا دائماً أقول أتحدى أي إنسان أن يأتيني بِأي أيدولوجية تُعطيك هذه الثُلاثية، فالإسلام غطى لك هذه المناهج كلها؛ ماذا تفعل في خلوتك الإسلام يُعطيك التوجيه؛ مع زوجك وأبنائك وبناتك وفي العمل في اللباس وفي جميع شؤونك يُعطيك الإسلام التوجيهات اللازمة، إذاً فأين الإشكال؟ الإشكال يكمُن في أن الذين يتكابرون على السلفية والتراث أصبحوا لا يعرفون هذه الأمور.
والله إني أعرف بعض الأخوة الذي يتصدرون لعمل إسلامي لا يُحسن أحدهم التعزية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أو التهنئة بالمولود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأنه لا يعرف أصلاً، أذكر في مرة من المرات رأيت أحد زُملائي من أيام الجامعة كان زعيم الاتحاد الإسلامي وكان مظهره قد اختلف تماماً فاللحية خَفت واللِباس قد تبدل؛ سألته من ترى من الشباب وأين تجتمعون؛ قال لي أنهم يجتمعون في أحد الكافيهات التي أعرفها ولا تخلو من المُنكرات؛ قلت له تجتمعون هناك بصورة عادية؟ طيب هل هناك قيام ليل وهكذا؟ فمع الأسف إذا به يُشير إلى أن هذا كلام من غابر الأزمان وقديم فقد أخذته الدُنيا، فشخصٌ مثل هذا أنا أأسف عليه وأأسف على الدعوة التي أنشئت أشخاصاً مثله، ويقول لك دع قال الله وقال الرسول والأربعين النووية فقد آن الأوان لنقرأ الفلسفة ونتجه للحداثة.
ويبقى السؤال ماذا قدم هؤلاء؟ أنا لستُ ضد القراءة ولكن اقرأ حسب الحاجة وليس حسب الهوى؛ لا أُريد أن أُطيل الكلام في هذه الظاهرة ولكن اسأل نفسك سؤالاً ما الذي يُقيم نفسك؟ وما الذي يُقيم أمتك؟ وما الذي ستُسأل عنه في القبر؟ عندي رسالة طويلة اسمها "لن يسألك الملَكان عن" وضعت فيها قائمة بأسماء كتب لن يسألك الملَكان عنها وقائمة بأفلام هوليوودية لن يسألك الملَكان عنها؛ وأنا اخترت هذه الأسماء لأنها منتشرة في أروقة شباب الدعوة والنهضة والتنوير. يعني باختصار أقول للناس عودوا إلى ربكم واعتزوا بما قال وانظروا إلى هذه النماذج.. ربعي هذا مثلاً ذهب بعده شخص آخر وثالث.. يوم ذهب شخص ثالث وجميعهم قالوا نفس الإجابة وآخرهم قد كان يتبختر بحصانه حول خيمة رستم، فمن أين جاءوا بهذه العزة؟ وما الذي أوصلهم إلى هذه المرحلة؟ ما الذي أوصل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن يقول عن بلال بن رباح "أبوبكر سيدُنا وأعتق سيدَنا" ما الذي جعل بلال الحبشي سيداً لعُمر بن الخطاب القُرشي رضي الله عنهم أجمعين؟ أسألُ أن يُعيدنا إلى ديننا وأن يردنا إليه رداً جميلاً وأن يجعل عزتنا فيه حقا.
كيف نغلق الباب في وجه شعوذة "التنمية البشرية" ومصادر الإلحاد الروحي؟
دكتور ذكرت في معرض حديثك "التنمية البشرية" ولم أُرِد أن أتجاوزها فعلى ذكرها مازال يتجدد الحديث عنها في سياقات مُختلفة؛ فما آثار ذلك على المنظومة القيمية؟ كل القول بالسلام الداخلي والحب والامتنان والتناغم مع الكون؛ كيف تؤثر الفلسفة الشرقية على أخلاقنا وكيف يتجنبها الشباب؟ فكل فترة يتغير العنوان ولكن اللُب مُشابه للذي سبقه.
لذلك معرفة الحق مُهمة؛ لِأنك إذا تتبعت أروقة الباطل في كل مكان لن تنته، فالشيطان سيصدر لك في كل صورة؛ أما إذا عرفت الحق من أوله ستعرف أن كل ما هو دون ذلك ليس من الحق في شئ؛ فمثلاً إذا عرفت اللون الأبيض ستُدرِك مباشرة كل ما هو ليس أبيضاً، أقول لكم دعكم من هذه الأمور لِأن أمثال هؤلاء المشعوذين أنفسهم لا يقبلون التشكيك فيما لديهم؛ ومثالٌ على ذلك أحد مشاهيرهم الذي أعتبره من المشعوذين وليس من رواد الفلسفة الشرقية؛ هذا الرجل كان يقول لمُريديه في مُحاضراته شك في كل شئ وفكر في كل شئ، احذر أن تقبل أي شئ على ما هو عليه؛ في يوم من الأيام في مُقابلة صدروا له فيديو لشخص يُشكك في رسالته للدكتوراة مباشرة قال: "هذا حقير"؛ قال له المُذيع أن تقول شككوا في كل شئ لماذا لا يُشكك في رسالتك؟ يعني شككوا في النص القرآني والنص النبوي ولكن لا تُشككوا في رسالتي، باختصار الفلسفات الشرقية عموماً نحن نُسميها مصادر الإلحاد الروحي؛ هل أقصد أن الهندوسية لم يكن فيها نبوة؟ لا أعلم؛ الهندوسية والبوذية والطاوية هذه الثلاثية يكتنفها كم من الغموض كبير، الوحيد الذي لدينا ويقول أنه قرأ بعض الأصول الهندوسية التي تقول أن فيها شئ من الحق هو الدكتور ذاكر نايك؛ ما عدا ذلك من تحققي هذه الثُلاثية غامضة جداً لا نعرف أصولها، هذه الفلسفات الشرقية أظهرت لنا ما نُسميه بالإلحاد الروحي؛ الإيمان بعقل كُلي وطاقة كلية وطاقة كونية وأنت إذا اجتهدت بالتأمل ستُصبح إنسانا خارقا وتتواصل تواصل كُلي مع عالم آخر؛ وهذا التواصل هو ما نُسميه باليوغا فالاسم الآخر لليوغا هو الاتحاد بالكُلي هذا الاسم بالسنسكريتية، الفلسفات الشرقية عادت الآن بمظاهر روحية مثل السلام العالمي، إرسال النية للعالم، الشفاء من كورونا، وأشياء من هذا القبيل فكلُها في الآخر لا تُسمن ولا تُغني من جوع؛ رموزهم التي نعرفُها أوشو وهو ملُحد مُنحرف، ديباك تشوبرا مُلحد تماماً يقول أنا الإله، صلاح الراشد هذا عنده من الكلام في تويتر ما يُخرج من الملة وهو الآن هارب لِأن عليه الكثير من القضايا وهو يدعي الآن أنه يرى كائنات فضايئة ويتواصل معها ويدعي أنه يُسافر عبر الزمن ورجع إلى زمن الفراعنة والتقى بالأنبياء وإلى آخره؛ والأسماء كثيرة فأمثال هؤلاء لا يُؤخذ منهم دين، مثلاً يُوجد مشعوذ صغير اسمه أمين صبري قبل أيام أخرج فيديو يُحاول أن يُلمح فيه بأنه النبي الجديد وأن الله تواصل معه ليُجدد دينه وأن على المُسلمين أن لا يُقدسوا نبيهم؛ انزل إلى التعليقات تستغرب قُرابة نصف مليون مُتابع يُقدسونه فأنا عادة أقول هنيئاً لهذه الجماهير بهؤلاء؛ الذي سلم عقله لِأمثال هؤلاء هنيئاً له بهم.
فباختصار بالنسبة لقضية التأمل والتفكُر نحن لدينا دين وقُرآن، فإذا لم تجد فيه السلام والطُمأنينة والرحمة والسكينة وكل هذا.. إذا لم تجده في القُرآن لن تجده في مكان آخر وستجد كالعادة كما أقول دين سُكر خفيف قليل التكليف، فهذا ما يبحثون عنه..
من أجل مجتمع متشبع بقيم الإسلام.. ابدأ بنفسك ودائرتك ثم ابحث عن فكرة مشروع تجسد هذه القيم
سؤال أخير دكتور كيف يتحول المُجتمع من مجتمع تحكمه قيم الرأسمالية إلى مُجتمع تحكمه قيم الإسلام؟ هل بتكوين النُخبة الصلبة أم بتقديم مشاريع نموذجية تُمثل هذه القيم أو غير ذلك؟ وكيف نتحكم في المدخلات وخاصة التي نعيش معها في مجتمعاتنا؟
أولاً المُقترحان الأوليان ليسا متُناقضين ولا مُتعارضين، يعني ما المانع عندما أقوم بالأمر في بيتي مع أسرتي ونكون مجموعة تتحدث نفس اللُغة ثم نخرج بمشروع ريادي نُوصل من خلاله هذه القِيم وهذه الأخلاق؟ مثلاً أنا قمت بإنشاء مركز مكاني تعمدت أن لا آخذ أي تجربة من أي شركة أو المؤسسات من حولنا وحتى التطوعية الخيرية وقُلت للأخت المنسقة علينا أن نبدأ بما نعتقد أنه هو الحق ونُجرِب ونُخطئ؛ الآن بفضل الله من يدخل إلى مركز مكاني يرى أننا لا نتحدث بالأسلوب السوقي، يعني أنا اليوم المفروض في عالم التسويق أن لا أسوق إلا لمحاضرتي معك هذه ولكن إذا دخلت إلى قناتنا اليوم ستجد أكثر من إعلان أنا نشرتها قبل قليل لِأشخاص هم باعتبارهم مُنافسين لي في مجالي؛ ولكن هذه هي الأخلاق الإلهية فكما يقول سيد قُطب رحمه الله نحنُ لسنا تُجاراً نخشى أن تكسد بضاعتنا؛ لا نحن بأن ما يُريده الله سيكون؛ كما يقول رحمه الله تعالى في أفراح الروح: "لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة؛ هُناك أشياء كثيرة أود أن أعملها لو مُد لي في الحياة لكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع لِأن هُناك آخرين سوف يقومون بها" فهذا النموذج غير موجود في السوق الاقتصادي وعند الرأسمالية.
وبالتالي إجابتي مُباشرة: إبدأ بنفسك واقنع بما تفعل وخُذ بالنصيحة التي قُلتُها في البداية وهي كرر ما تقول إلى أن تؤمن به ويؤمن به الآخرون، أُعطيك مثالا بسيطا في قضية الأخلاق وهو اللباس أنا مثلاً ألبس القمصان الطويلة وأنا أرتديها لِأنها ساترة وأقرب إلى اللباس الشرعي وأقرب إليه من اللباس الغربي الحديث؛ أنا لم أقل في يوم من الأيام البسوا مثلي ولكن استمررت في لبسها إلى أن أصبح عندي طُلاب وبعض الأخوة من المُحبين أصبحوا يلبسون نفس لباسي لِأنني أصررت عليه، عندما أستخدم المُفردات ونقول كلمة حرام؛ مثلاً عندما كُنا في أمريكا وكنا نذهب إلى البقالة كُنا نجد الخمور وللأسف وجدت بعض شبابنا وحتى من الملتزمين بعد فترة لا يعود يهتم لوجود الخمر ويدخل إلى المطاعم التي فيها خمر ويأكل فيها؛ ففي مرة من المرات جاء أحد الأخوة معي وكانت معي ابنتي مريم وأنا أضعها بالعربة وقد كان عمرها سنة ونصف تقريباً، فكُنا كلما نمر بجانب الخمور أسألها مريم ما هذا؟ فتقول هذا حرام؛ فعندما دخل معي هذا الأخ وسألتها وقالت هذا حرام فتعجب من العبارة وهكذا؛ وبعد أيام دخل معي إلى نفس المكان وسألت مريم ما هذا؛ فقال لي يا عبد الرحمن هي تعلم فلا داعي؛ قلت له أنا لا أُكرر ذلك من أجلها وإنما من أجلي حتى لا أستبرئ المعصية فأسمي الأمر على ما هو عليه، فنصيحتي ابدأ بنفسك وبالمجتمع من حولك بعد ذلك إذا استطعت أن ترى رجال أعمال ميسورين لديهم إيمان بما تفعل عندها تكون المشاريع قابلة وإلا فإن الأمر سيطول ولا تستعجل النتائج.
أما قضية المدخلات المتكررة تحتاج من الكِبار أولاً أن يتمكنوا من التحكم فيها ليتمكن الصِغار من ذلك، أنا مثلاً وأسرتي لا نملك تلفزيوناً في المنزل وأطفالي لا يملكون أجهزة لوحية ولا نذهب إلى مُدن الملاهي وتوجد حولنا ما يُقارب الثلاثين أسرة بنفس النمط ومع ذلك نحن سُعداء وأطفالُنا كذلك.
دكتور لو قلنا أن كتاب دستور الأخلاق للدكتور عبدالله دراز كان يتحدث عن مفهوم الأخلاق الإسلامية كدراسة مُقارنة لِأنه تحدث عن الأخلاق في السياق الأوروبي أيضاً وقارنها وإذا قُلنا أن كتاب الأخلاق الإسلامية للشيخ عبد الرحمن الحسن رحمه الله وهو كتاب جامع يتحدث فيه عن الأخلاق الإسلامية؛ فهل من مؤلفات في نفس هذا الباب تنصح بها؟
في الحقيقة توجد عندي قائمة في دورة فقه النفس "لتعارفوا" تتكلم عن الأخلاق، معظم هذه الكتب التي ذكرتها موجودة فيها، لكني دائماً أميل إلى تبسيط الأمور فقبل أن نقفز إلى هذه الكتب يجب قراءة الكُتب البسيطة مثلاً "خُلق المسلم" لمحمد الغزالي فهو كتاب بسيط لكن فيه ما لو أُتبع بالعمل سنجد أن الأمور بسيطة بعد ذلك، من الكتب أيضاً كتاب "شخصية المُسلم وشخصية المرأة المُسلمة" لمحمد علي المشهداني؛ وهنالك كتاب "أخلاق القُرآن" هذا الكتاب من الكُتب النادرة جداً للمُفكر الفيلسوف الذي كان علمانياً فترة مُعينة ثم حسن إسلامه عبد الرحمن بدوي، ما عدا ذلك أنا أُحب الكُتب المؤصلة مثل كتاب مسكويه "تهذيب الأخلاق" هو كتاب جيد جداً ولكن أُكرر هو متأثر نوعاً ما ببعض التقسيمات اليونانية القديمة، وكتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للأصفهاني، كما هنالك لمن يُريد الاستزادة موسوعة "نضرة النعيم" كما هُنالك "موسوعة الأخلاق" في موقع الدُرر السنية، "أمراض القلوب" لابن تيمية رحمه الله تعالى، والكتاب الأحب إلى قلبي من هؤلاء "مداواة النفوس" لابن حزم هذه رسالة من ألطف ما يكون أشبه ما تكون بنقل ذاتي؛ هو كان يتحدث عن نفسه ولكن بطريقة من أروع ما يكون؛ ولمن يُريد أيضاً أن يقرأ شيئاً فيه نوع من النقد الذاتي والذي يعتبره البعض من أقدم الكُتب في الترجمة الأدبية الذاتية هو "المُنقذ من الضلال" لأبي حامد الغزالي، وكنصيحة للقراءة عليك أن تلتزم كتاباً واحداً وتُنهيه ولا تتشتت وبعد ذلك لكل حادث حديث.