تقرؤون فيما يلي نص مداخلة الدكتور سلمان الحسيني الندوي في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بتاريخ 27 نوفمبر 2020 والتي حملت عنوان "كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمل حملات التحقير والسخرية والاضطهاد؟"
الرسل والأنبياء...أهل محن وابتلاء
لا بد أن نعرف بدايةً أن الرسل والأنبياء لم يُبعثوا إلا في بيئات جاهلية، سادها الكفر والشرك والعداوة والعناد ضد المرسلين والمصلحين، وأن الله تبارك وتعالى شاءت مشيئته وشاء القدر وشاء الابتلاء والامتحان المقدرلأنبيائه ورسله أولاً أن يبعثهم في بيئة مضادة، وأن يواجهوا من بيئتهم جيشا، من بني قومهم ومن أفراد أسرهم ممن يُخاطبونهم يواجهون منهم عداوة ومكرا وسبا وشتما وطعنا وسخرية واستهزاء وإلى كل ذلك من حيل الشياطين، وقد ذكر الله تعالى للأنبياء والمرسلين أنه قد جعل محنة شياطين الجن والإنس الذين كانوا يقفون بالمرصاد ويعادون الأنبياء والمرسلين، وقد جاءت آيات قرآنية تنص على أن عمل الأنبياء والمرسلين والمصلحين إنما كان عملا في أشواك ولم يكن عملاً في الأزهار والرياحين، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[سورة البقرة الآبة: 214]، والأدلة في ذلك كثيرة.
وقد لبث سيدنا نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم نهارا جهارا سرا وعلانية، فقال قوم نوح لنوح "إنا لنراك في ضلال مبين" وهددوه، وقالوا له "لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين"، وقال قوم هود لهود "إنا نراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين"، وقال قوم لوط عن لوط وأصحابه: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"، وقال قوم شعيب لشعيب وصحبه: "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا"، ولم يكن ذلك أمر يخص شعيب أو نبي من الأنبياء بل عامة الكفرة الفجرة والمشركين والمعاديين من شياطين الجن والإنس قالوا لرسلهم مثل ذلك.
أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد تعرض للأذى الكبير والكثير، فقد قال: لقد أوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وكان بلاء النبي صلى الله عليه وسلم الصادم بلاء شديداً نفسياً وجسدياً وروحياً واجتماعياً واقتصادياً، وكانوا يكذبونه وينسبونه إلى الكذب والافتراء وكانوا يظنون عنه أنه ساحر وقد يقولون أنه شاعر وقد يقولون أنه يفتري على الله وقد يقولون أنه يأتيه الجن، وقد يقولون أنه والعياذ بالله مجنون ومخبول، فلا يتركون شتيمة إلا ويلصقونها بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يسمع كل ذلك، قال تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون)، "بل قالوا أضغاث أحلام وافتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون".
وقد كان الله تبارك وتعالى يُنزل عليه الآيات والآيات وهو يواجه هذه المظالم والاتهامات والطعون ويواجه الأذى النفسي والبدني، لكنه مرتبط بالله يوحي الله إليه ومتوكل على الله معتمد على الله يأخذ عن الله ويأتيه جبريل الأمين ويبلغه كلام الله تعالى وهو في أشد حالات الابتلاء والامتحان يكون موصولاً بربه تبارك وتعالى والذي يتكفله ويقيه ويحفظه ويرعاه ويحرسه والذي يوحي إليه بأن النصر مكفول لك.
التمكين في الأرض: وعد الله لمن أحسن التوكل وصبر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة بعد أن أمره الله تبارك وتعالى بالصدع بالحق، فذلك اليوم عندما صدع بالحق وصعد على جبل الصفا ونادى الناس بقوله يا صباحاه، ولما اجتمع الناس حوله قال لهم: لو قلت لكم أن وراء الجبل جيش يريد أن يغير عليكم أفتصدقوني؟ قالوا: نعم، فقد كان يسمى بالصادق الأمين لم يجربوا عليه كذبة قط، وبعد أن استوثق منهم موقفهم قال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فإذا بعم محمد صلى الله عليه وسلم أبو لهب سيد قريش يقول له: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، أصبح هذا العم عدوا لدوداً شديدا فتكفل الله سبحانه وتعالى بالرد عنه والمتكفل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تكفل بجميع الأنبياء والمرسلين والمصلحين، وقد ابتلاهم وامتحنهم حتى قُتلوا تقبل الله شهادتهم، فالمشيئة مشيئة الله سبحانه وتعالى ولابد من التوكل على الله، فالنبي الذي قُتل والنبي الذي صُلب والنبي الذي أدخل في حفرة من الحفر، كل هؤلاء كانوا يتوكلون على الله تبارك وتعالى وهذا ما كان يجعل الأمل في نفوسهم فينقلون هذا الأمل وهذا الرجاء وهذا الإيمان والتوكل والإعتماد على الله سبحانه وتعالى في كل الأحوال وفي كل الأوضاع وفي كل الظروف، سواء كانت البعثة قاسية شديدة جداً أو كانت الحالة مختلفة.
كان الله سبحانه وتعالى يُنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بما يدعوه إلى الصبر، "واصبر صبراً جميلا"، وكان الله سبحانه وتعالى يوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)، هكذا كانت تنزل وعود الله تبارك وتعالى وبشرياته في هذه الأوضاع والظروف الشديدة القاسية، يعدهم الله والله لا يخلف الميعاد يعدهم بالخلافة بالحكم والصدارة، وكان النبي صلى الله عليه لأجل ذلك رغم المحن الشديدة القاسية يُخاطب الناس ويدعوهم إلى الله تبارك وتعالى يقول لهم: "كلمة تقولونها تملكون بها العرب والعجم"، كان يقول ذلك وهو في مكة المكرمة معذب وآله معذبون فمنهم بلال بن رباح كان يُلقى في رمضاء مكة ويكون الحر شديداً فيضعون قطعة من الحجر على صدره، وكانوا قد أضجعوا خباب رضي الله عنه على الجمر، ورغم كل هذه المحن الشديدة والقساوة والإيذاء فالله تبارك وتعالى يعد محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه المستضعفين بأنهم سيكون لهم الملك وسيكون العرب تحتهم ويكون العجم تحتهم وبأن ملكهم سيبلغ ما سُبي للنبي صلى الله عليه وسلم من الأرض وكان الله تبارك وتعالى يقول: (وإن جندنا لهم الغالبون).
ويذكر ما ينفق المشركون في سبيل الصد عن الإسلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخبر الله تبارك وتعالى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن كل هذه النفقات ستكون وبالاً على هؤلاء الناس، ويقول الله تعالى عن هؤلاء القساة الجبابرة الطغاة وأكبر الفراعنة في ذلك العصر أبوجهل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "أبو جهل فرعون هذه الأمة"، كان يذكر ضعفهم ومآلهم وكان يذكر أنهم سيُهزمون وكان يذكر أن بيتهم مثل بيت العنكبوت، قال تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)، ولا شك أن هذا الكلام لم يكن لذلك العصر الذي مضى قبل أربعة عشر قرن من الزمان فقط بل القرآن خالد ودائم، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة خالدة دائمة عالمية، والنبي عليه الصلاة والسلام عندما كان في مكة المكرمة يوجه دعوته إلى الناس وإلى القبائل فلم يكن يظن أن هذه الدعوة ستنحصر في مكة، فقد كان يعرف معرفة يقينية وكأنه يرى رأي العين أن ملكه سيبلغ أقاصي الأرض وأدانيها وأن الله تبارك وتعالى قد وعده بأن رسالته ستبلغ العالمين حتى يأتي يوم لا يبقى على الأرض بيت إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، فقد قال تعالى أن هؤلاء الذين يبنون القصور ويبنون المباني الشاهقة والقلاع الحصينة ليست هي إلا مثل بيوت العنكبوت.
هكذا كان إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان الصحابة فلم تكن تخدعهم المظاهر ولم يكونوا يغترون بما يرون من مظاهر جوفاء فالله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيأمره أن لا يغره تقلب الليل والنهار ولا يضره تقلب الناس في الأقطار والأمصار.
الإيمان والأمل زاد السائر في طريق الدعوة والإصلاح
والنبي صلى الله عليه وسلم واثق بوعود الله تبارك وتعالى أن النصر لهم فيخاطب قومه ويقول لهم "اعملوا على مكانتكم فإني عامل فستعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون"، وعندما يتحدث رب العزة والجلال عن سيدنا موسى وقومه وعن فرعون الذي كان يدعي أنه الرب الأعلى يذكره تذكيراً للمسلمين المستضعفين في مكة المكرمة، وهذه الصور كلها مرئية حيث يُمتحن الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل من الله سبحانه وتعالى ما يُطمئن القلوب وما يولف الإيمان في النفوس وما يُقوي الاعتماد على الله تبارك وتعالى فيقول رب العزة والجلال: (ونُريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأٍض ونُري فرعون وهامان وجنودهما...)، هذا ما قاله الله تعالى عن فرعون مصر سيتحقق في فرعون مصر وحاشيته في هذا العصر أيضاً إن شاء الله لأن هذا القرآن هو قرآن طازج وكأنه ينزل الآن علينا ولابد أن نقرأه كأنه أُملي علينا ولم يُملى منذ زمن قديم، فالقرآن جديد ويأتي بالأخبار لكل إنسان جديد بخبر جديد ومزيد، فلابد أن يُقرأ القرآن غضاً طرياً وأن يُطبق هذا القرآن في كل عصر وفي كل مصر وعلى كل فرد وعلى كل قوم أينما كانوا وأينما حلوا وأينما نزلوا، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى عندما أعطى الوعود والبشريات في كتابه هذا فإنما هذا الكتاب يُخبرنا عن دورنا هذا وعن أصلنا هذا وعن فراغنا في هذا العصر وعن القوة المتحكمة في هذا العصر أن الإسلام سيغلبهم ويقلب أمورهم رأساً على عقب وأن الإسلام له النصر وأن حزب الله هو الغالب وأن الله تبارك وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر كما وعد الرسول بالنصر، فلابد إذاً من الإيمان ولابد أن تكون هناك صلة وعلاقة قوية كأنها علاقة المشاهدة والله تبارك وتعالى عندما يأمرنا بالإيمان ويُعطينا هذا الدين الحنيف ففيه الإيمان والإسلام والإحسان وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ولا شك أن كل الأعمال الدعوية والتربوية والإصلاحية والثورية لابد أن تكون كأننا نراه مثلما عمل الأنبياء والرسل ومن كان على طريقهم ومنهجهم، كانوا يعملون وكأنهم يرون الله تبارك وتعالى وأن الإيمان هو زادهم وأن الإيمان هو الذي كان يشحذ بطاريتهم وهو الذي يحركهم ويدفعهم إلى الأمام ولا ييأسون ولا يقنطون ولا يُحبطون وكان الأمل في الله تبارك وتعالى وفي دينه عز وجل وفي شريعته مستحكماً في نفوسهم فكانوا يندفعون إلى الله عز وجل يُريدون الشهادة في سبيل الله ويريدون النصر لدين الله وإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى فلا شك إذاً أننا نجد ذلك في حياة الأنبياء والمرسلين ونجد ذلك مجسداً ظاهراً مشهوداً ملموساً مرئياً في حياة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ولم تُختم به الرسالة إلا لأنه نبي الأولين والآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، والذي هو رحمة للعالمين لابد أن تصل رحمته إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب لابد أن تصل هذه الرحمة إلى الجن والإنس وكل أجناس العالم لأن الرحمة عالمية، وصف الله تبارك وتعالى النبي بهذه الرحمة العالمية بهذه النعمة المهداة، قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا ينتظر شعب أو قوم أو طبقة أو فئة نبياً جديدا، ولا شك أن الله تبارك وتعالى يُعد لهداية الناس ويُعد الناس ويبعث الناس، فإذاً إذا لم يأت نبي لابد أن يخلف النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم العلماء الربانيون والدعاة المبلغون والساعون في سبيل الله تبارك وتعالى لنصر دينه، لابد أن يكون هنالك هؤلاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ألا أن نهب لنصرة الإسلام ولنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يُمكن أن تتحقق نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالغضب والطيش وردة الفعل.
لابد أن نأخذ بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة، لابد أن نأخذ من منهج الصحابة الميامين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة يقومون بالدعوة إلى الله ويجهرون بهذه الدعوة أمام المُشركين والكفار، فلابد إذاً من موقف الدعوة القوية وموقف الإصلاح القوي.
لابد أن ينتشر المسلمون في فرنسا بكل الشوارع بكل حي وكل مكان يقولون كلمة الله فلا يطيشون ولا يغضبون ولا يتشددون ولكن يوجهون دعوة الأنبياء ودعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، لابد من التعريف بالإسلام بالقرآن وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان وكل الشعوب الإنسانية لابد من تعريفها بهذا الدين لأن الله تبارك وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)، والله تبارك وتعالى يصف القرآن بأنه هدى للناس، فالقرآن عالمي والشريعة عالمية والإسلام عالمي والنبي الخاتم عالمي، فأين ذهبت هذه العالمية في توجهاتنا وفي دعوتنا وفي كلماتنا، لابد أن ننتشر في الناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إليهم وكما كان الصحابة يذهبون إليهم، فكانوا ينادون باسم الله تبارك وتعالى وبكبريائه وجلال الله وعظمة الله بكل ناد ولكل واد وعلى كل جبل وفي كل مكان يجتمع فيه الناس كانوا يرفعون لا إله إلا الله محمد رسول الله، مؤمنين صادقين واثقين مطمئنين يحدوهم الأمل والإيمان واليقين فكانوا بهذا الهدى يتقدمون إلى الأمام دائماً ولا يتقهقرون ولا يتقاعسون أو يتكاسلون ولا يُحبطون إنما كانوا يحملون هذا الأمل لوعود الله تبارك وتعالى القطعية التي جاءت في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.