تنبيه جديد على حسابي تلته عشرات التنبيهات، اهتزاز متعاقب لهاتفي أثناء اجتماع ممل جعلني أسحب هاتفي من فوق الطاولة ببطئ لأسكت هاتفي من جهة ولأسكت فضولي من جهة أخرى، مجموعة نسائية أخرى تم إضافتي إليها دون رغبة مني كالعادة ولكن هذه المرة لم أنسحب مباشرة كعادتي فقد شدتني المنشورات التي وجدتها مكتوبة داخلها؛ ليست مجموعة نسائية باهتمامات أنثوية كالعادة من طبخ وتنظيف وترتيب، إنها مجموعة للاستشارات حول العلاقات المالية في الحياة الزوجية.
آلاف من التعليقات تصل عقب كل منشور لسائلة عن قضية مادية أخرى.. تقول إحداهن إنها تعبت من عملها اليومي كبائعة في محل خاصة وأنه لا يتبقى من راتبها إلا القليل بعد توزيعه على مصاريف روضة الأطفال ولكنها تخشى من نظرة المجتمع لها إن هي أصبحت مجرد ربة بيت عادية، تخاف من تغيير معاملة زوجها وأهله لها إن هي بقيت مجرد شخص مستهلك دون عمل وتسأل المشاركات بالمجموعة الرأي والنصيحة... انسحبت من الاجتماع لفترة خاصة وأن رنين هاتفي قد أبان للحاضرين أن لدي سببا مقنعا للخروج، جلست في احدى زوايا الحديقة المجاورة لقراءة التعليقات.
سيدات ماكثات في البيت يروين مآسيهن عن رغباتهن المكبوتة تحت غطاء لا أريد أن أزيد وضع زوجي المادي تأزما أو طلبت منه فاعتبر طلبي تافها... أو عن سلفاتهن العاملات اللواتي يشترين بمالهن الخاص كل ما يردنه في حين تنتظرن صدقة الأقرباء أو تلك الدنانير المتسربة من الملابس أثناء غسلها على غفلة من الزوج وأهله. تحذيرات بالجملة لها ومحاولة لإقناعها عن العدول عن فكرة تخليها عن عملها حتى وإن كان يُدّر لها القليل، فالقليل أفضل من لا شيء.
بدى لي النقاش ثريا بحضور سيدات عاملات يشاركنها نفس التعب ويخبرنها أن تختار العناية بأولادها إن هي رأت أن وضع العائلة مستقر دون راتبها وأنهن سيتركن مناصبهن المختلفة عند قدوم أول فرصة، لذلك تحدثن عن ألم عدم مشاهدة صغارهن طوال اليوم وعن غيابهن أثناء الذكريات المميزة لكل أم كالخطوة الأولى لطفلهن داخل الروضة أو عند الجدة بعيدا عنها، وذكرى أول كلمة قيلت من فم صغيرها والتي كانت ماما التي يشتاقها طوال اليوم. تحدثن أيضا عن معاناتهن في التوفيق بين شقهن الأنثوي اللطيف وجانبهن الجاد الذي قد يأخذنه معهن إلى المنزل.
احتدم النقاش وتوالت التعليقات التي لا أراها إلا زيادة لحيرة السائلة وهنا أجد نفسي ألوم مجتمعنا المادي الذي جعل المرأة اليوم تخجل من كونها "مجرد ربة بيت" بل وجعلنا أطفالها أيضا يخجلون من ذلك في جوابهم على سؤال المعلم "ماذا يعمل والداك؟"
ألوم منهجا استوردناه دون أدنى دراسة لخصائص بيئتنا، أجبرنا فيه المرأة على تقبل أن قيمتها في راتبها وليس في العمل الذي تقدمه أو في الإضافة التي تفيد بها مجتمعها؛ ليس هذا فقط بل جعلنا أحد شروط الزواج في مجتمعنا وجود راتب ثاني يدعم الحياة المادية للأسرة.
من قال أن علينا جميعا أن نعيش ضمن نفس المستوى المادي؟ "وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات"، لماذا لم نعد نتقبل وجود تلك الدرجات؟ هنا علينا أن نعيد هيكلة فكرنا المجتمعي وتقويم الاعوجاج الذي أصابه قبل فوات الأوان، هنا المرأة ليست جانيا لتحاسب على اختيارها للعمل بدل العناية بوظيفتها الأساسية وهي تربية الأطفال وتقديم الحب لهم... لماذا نجبرها على أن تلعب الدورين معا تحت غطاء المادة؟ لماذا عليها أن تتحمل عبء العمل لتثبت مكانتها المجتمعية وعبء إنجاب طفل آخر وهي لا تستطيع إدارة حياتها بشقيها الوظيفي والأسري؟
كنت سأعلق على المنشور قبل أن أنتبه لمنشور جديد آخر يتحدث عن إدارة راتب سيدة أخرى تريد النصح في كيفية احتفاظها براتبها أو على الأقل جزء منه دون أن يشعر زوجها بأنها أصبحت أنانية بعدم تقديمها راتبها كاملا له... أي فوضى وأي ضغط أدخلناه على أسرتنا العربية البسيطة التي عاشت لسنين سعيدة ومليئة بالذكريات الحلوة رغم الفقر والحاجة؟ لماذا نكرر عبارات الحنين للماضي وذكرياته وكم كانت الحياة سعيدة خلاله ونحن بأيدينا نصنع بؤس حاضرنا؟ من أخبر بناتنا أنهن مجبرات على تقديم قدر من المال لأسرهن؟ ومن قال أن عليهن أن يكسبن قلوب أزواجهن بالمال؟ من قال أن عليهن أن يُسنزفن للقطرة الأخيرة منهن ماديا وعاطفيا لكي يرضى عليهن هذا المجتمع المادي الذي لم ولن يشبه بيئتنا أبدا.