فرَح العبد بالطاعة من العلامات الظاهرة للقوة الإيمانية التي تهيمن على قلبه، كما قال صلى الله عليه وسلَّم: "مَن سَرَّته حسنتُه، وساءته سيِّئتُه فذلكم المؤمن"، إلاَّ أنَّه عند التحقيق والتدقيق نجد أنَّ هذا الفرح ليس محمودًا على إطلاقه، وذلك بالنظر إلى زاويةِ مبْعَث الشعور به، إذْ يرجع السِّر في ذلك إلى التأمُّل في "حسن الأدب مع الله تعالى" في أداء العبادة وانتظار العائد منها.
فقد يكون مبعثُ الشعور بالفرح هو نِسبة التوفيق فيها إلى الله تعالى، فهو الذي خلق الإنسان على الفطرة، وهو الذي أنعم عليه بالعقل، وهو الذي بعث إليه بشعاع الوحي، وهو الذي أكمل عليه النِّعمة ببعثة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهو الذي وفَّقه للهداية، فأطلق قدراته للطَّاعة، وشرح صدره لها، ووجَّه قصده إليها، ومنع عوائقه عنها، وهو الذي سيتجاوز عن النَّقص فيها.
ولا شكَّ أنَّ هذه الحالة الشُّعورية الرَّاقية لا تزيد العبد إلا إحساسًا بعمق العبودية، وقمَّة التواضع لله تعالى، مع الشعور بالتقصير والحاجة إليه سبحانه، وهو يردِّدُ دائمًا في أمِّ الكتاب: "إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين"، فيزيده هذا الشُّعور شكرًا وتعظيمًا وامتنانًا، وهو ما سيدخله في حالاتٍ إيمانيةٍ غير متناهية، وفي تماهٍ لا محدودٍ في معاني العبودية الكاملة التي لا تنقطع، كما قال تعالى: "ولَئِن شَكَرتم لَأَزِيدَنَّكم"(إبراهيم:07).
سوف نُكْمِل عبادة الصيام والقيام، ونفرح بهما فرحًا محمودًا بهذه اللَّطيفة الدَّقيقة من الأدب مع الله تعالى عندما ننسب نعمة التوفيق فيها إلى الله تعالى، فيبشِّرنا صلى الله عليه وسلَّم بقوله: ".. وللصَّائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقِيَ ربَّه فرح بصومه"، والدَّليل على هذا الفرح المحمود قوله تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"(يونس:58).
أمَّا إنْ كان مبعث هذا الفرح، هو: الغرور بالطَّاعة، والزَّهْو بالذَّات، والإعجاب بالنَّفس، وأنَّها بطولةٌ نادرة تفوَّق بها على غيره ذاتيٍّا: بإرادةٍ قويَّة أو همَّةٍ عالية أو تألُّقٍ متميِّز، فلا شكَّ أنَّ هذا السُّلوك يتنافى مع الأدب مع الله تعالى في عدم نِسبة النِّعمة إلى المنعم الحقيقي، وهو الفرح المذموم الذي ضرب الله تعالى به مثلاً بقارون لمّا حَكَى عنه: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"(القصص:76)، وإنَّما جُعل هذا الفرح مذمومًا لأنه نَسَب النِّعمة إليه لمّا قال: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي.."(القصص:78).
ولا شكَّ أنَّ هذه الحالة الشُّعورية الاستعلائية تنْبُع من نفسٍ متكبِّرة مغرورةٍ لا ترى أمامها إلا نفسها، فهي مبعث القوة إذا تحرّكَت، أو مبعث الفهم إذا تعلَّمت، أو مبعث الغِنَى إذا تنعَّمت، أو مبعث النَّصر إذا غلبت، أو مبعث التمكين إذا حكمت، فيغيب عنها: التَّشبُّع بمعاني الكلمة القدسيِّة التي نكرِّرها دائمًا: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم".
وثمرة هذا الشعور أن يُحجب العبد عن الله تعالى فيُقصى من رحمته، ويكون ممن قال فيهم الحقُّ سبحانه: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف:103 ،104)، وفي هذا المعاني يقول ابن عطاء الله السّكندري – عليه رحمة الله: "لا تفرِحُك الطَّاعة لأنَّها برَزَت منك إليه، ولكن افرح بها لأنَّها برَزَت منه إليك ".
ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أنَّه ما من عبادةٍ أو طاعةٍ إلا ولها ثمرةٌ إيجابيةٌ في حياة الفرد والمجتمع، وهي جزءٌ من الحكمة التي شُرِّعت من أجلها، كما قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً .."(النَّحل:97)، والصَّادقون لا ينشغلون بمراعاة شروط الصحَّة في الأعمال، بقدر ما يحرصون على شروط القبول، فليس كلُّ عملٍ صحيحٍ يكون - بالضرورة - مقبولاً.
وهذه الثَّمرات العاجلة للطَّاعات هي دليلُ القبول الآجل لها، فللصيام مثلاً: ثمرةٌ أخلاقيةٌ، وصبغةٌ سلوكيةٌ يصطبغ بها الصائم، كما قال صلى الله عليه وسلّم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"، ووجود هذه الثمرة، والاهتداء الحقيقي إلى سِرِّها، والتمكُّن من جوهرها لا يدلُّ على قبولها إلا الزِّيادة في الاهتداء والالتزام بعدها، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"(محمد:17)، وهو ما يؤكِّد على أنَّ علامة قبولها هو الثَّبات عليها بعدها، وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء الله السّكندري – عليه رحمة الله كذلك: "مَن وجد ثمرة عمله عاجلاً، فهو دليلٌ على وجود القبول آجلاً".
ويتوهَّم البعض أنَّ ما يُسمَّى بالأجر، وما يحتسبه العبد منه هو جزاءُ العملِ والعِوَض عن الطاعة، وأنه استحقاقٌ ذاتيٌّ، استنادًا لقوله تعالى: "إنَّ هذا كان لكم جزاءً، وكان سعيكم مشكورًا"(الإنسان:22)، أو قوله تعالى: ".. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(النّحل:32).
والحقيقة أنه من لطائف الأدب مع الله تعالى هو التدقيق في المسألة، وأنَّ ذلك ما هو إلا محْضُ فضلٍ منه سبحانه، ألزم ذاته العليَّة به من طرفٍ واحد، وليس اشتراطًا عليه أو عقدَ إيجارٍ بينه وبين عبده، وما التعبير بالأجر والجزاء إلا من باب اللُّطف والتودُّد والإغراء بالعمل، فقد جُبِل العبد على حبِّ التملُّك، وحبِّ المصلحة والمنفعة، وأنَّ أعمالنا لن تؤهِّلنا إلى الدخول إلى الجنَّة إلا بمقدار ما تلامسنا به خيوط الرحمة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ "، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلا أنا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ"، وهذه الطاعات مهما بلغت كمًّا ونوعًا، فهي لا توافي حقَّ نعمه سبحانه علينا، وهو القائل: "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا.."(إبراهيم:34)، ونِعم الله مطلقةٌ، وهي على كثرتها لا يحيط بها الإنسان إدراكًا، وقد جاء في الأثر أيضا: "أنَّ لله عبدًا من عباده، عَبَد الله خمسمائة سنة .. فسأل ربُّه عند الأجل أنْ يقبضه ساجدًا، وأنْ لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلاً حتى يبعثه الله وهو ساجد، قال: ففعل، يقول جبريل عليه السَّلام: فنحن نمرُّ عليه إذا هَبَطنا وإذا عَرَجنا، فنجد له في العلم أنه يُبعث يوم القيامة فيَوقَف بين يدي الله، فيقول له الرَّب: أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: ربِّ بل بعملي، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: ربِّ بل بعملي، فيقول الله: قايِسُوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فيجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نِعمة الجسد فضلاً عليه، فيقول: أدخلوا عبدي النَّار فيُجرُّ إلى النار، فينادي: ربِّ أدخلني الجنة برحمتك".
إنَّ الله تعالى هو مَن يستحقُّ الشكر، وليس العبد هو مَن ينتظر الأجر، إذْ أَنَّه هو مَن هداه لعبادة الصيام، وبلَّغه نفحات رمضان، والتنعُّم من خيرات بركاته، والعيش في لطائف أسراره، وقد قال الله تعالى عن هذه اللَّطيفة الدِّقيقة في الأدب معه سبحانه في آيات الصِّيام، وفي التعبير عن الشُّكر له بعده: ".. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"(البقرة:185)، وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء الله السكندري – عليه رحمة الله: "كَفَى مِن جزائه إيَّاك على الطاعة أنْ رَضِيك لها أهلاً"، وقال: "كيف تطلُب العِوَض على عملٍ هو متصدِّقٌ به عليك، أمْ كيف تطلُب الجزاء على صِدقٍ هو مهديه إليك".
وهو ما يضَعُنا عند حدود الأدب مع الله تعالى عند القيام بأيِّ طاعةٍ، أو إنجاز أيِّ عملٍ، فنزداد بذلك أمام الخَلْق تواضعًا، والذَّوبان أمام الخالق سبحانه حياءً.