إنها القُضبان العشر التي أريد أن أُحدِّثكم عنها هذه المرة! وأظنها هي المسؤولة عن تطويق الأقلام، وتحجيم مساحة هديرها الحر، في فضاء حِراكنا الثقافي المعاصر. حقًّا لماذا أقلامنا أسيرة؟! حبيسة؟ مترددة؟ خجولة؟ شحيحة في الكتابة والتحرير والتدوين؟! لماذا هي فقيرة في التعبير عن الأفكار والآراء والمفاهيم والتصورات؟! لماذا لا تنطلق في الفضاءات المختلفة وتُعبِّر عمَّا تتمنى وترجو؟ وتُثبتُ ما تريدُ وتختار؟ وتدافعُ عمَّا تؤمنُ به وتعتقده؟ وتشاركُ في مسيرة الإبداع الثقافي الميمون؟ لماذا هي كذلك؟!
أسئلة تتردد على أذهان الكثير منا بين الحين والحين، في مؤسساتنا التعليمية والتربوية، وفي رحاب نوادينا الثقافية والمعرفية، لماذا يعجز كثير من شبابنا المتعلمين والجامعيين عن كتابة مقالٍ من صفحتين أو ثلاث؟! مقالٍ قصير قويم، متسلسل الأفكار، متماسك العبارات، منسجم المعاني، رفيع اللغة! ما سبب هذا الفقر؟ ما السر في هذا الضعف الرهيب؟!
في مراتٍ كثيرة أطلب من الطلبة الجامعيين –المنتسبين إلى تخصصات علمية مختلفة- وفي منتهى المراحل الجامعية أحيانًا كتابةَ مقالٍ صغير حول فكرة محددة، يُعبِّرُ فيه الشاب عن وجهة نظره ورؤيته حول موضوع من الموضوعات الحياتية العامة، التي يُجيدون الإجابة عنها بيسر وعجلة لو جاء السؤال والجواب مشافهة؛ لما لها من علاقة وثيقة بواقع حياتهم التي يمارسونها، وسهولة بناء التصورات الذهنية المتفرعة حولها، لكنَّ ذات الطلب يتحول إلى مشكلة مُحرِجة! وفزَّاعة مقلقة! عندما يتحول الأمر من المشافهة إلى التحرير كتابيًّا، ومن اللهجة العامية المتداولة إلى العربية الفصحى المنضبطة.
بعد هذا الطلب العاجل والمفاجئ -والذي أظنه يسيرًا ومتواضعًا في مثل هذه المراحل المتقدمة من التعليم- أجد في عقول الشبان من البنين والبنات تشتتًا يصعب توصيفه غالبًا، وفِي أقلامهم إحجامًا وترددًا ربما من العسير تعليله، وفي أذواقهم اللغوية بعد إنجاز المطلوب قصورًا مُحيرًا في تفسيره، مع أنهم من المتعلمين وفي مراحل متقدمة من المسيرة الأكاديمية التي نعرفها.
في مثل هذا الحال المحزن ينتاب الأساتذة والتربويين شيءٌ من الحيرة والدهشة، وشعورٌ بالتقصير، ولومٌ للنفس وتأنيبها تجاه هذه الأجيال المتخرجة، ما الذي أنجزه الشابُّ بعد هذه الرِحلة التعليمية الطويلة في هذا الميدان خصوصًا؟ ما الذي تعلمه؟ وما الذي أتقنه في بناء القدرات اللغوية والفكرية والثقافية؟! حين لا يقوى على كتابة إنشاءٍ من صفحتين بلغته التي ينتسب إليها ويعرفها! ومن المفترض أن يكون قادرًا على التعبير بها عن أفكاره وتصوراته بسهولة ويسر، ومهارة أيضًا.
وإذا أردتُ الإجابة عن السؤال الذي صَدَّرتُ به المقال، فإنني أستطيع -بعد الاستقراء والتأمل- تلخيص الجواب عن هذه الفكرة في عشرة أسباب متشابكة، سميتها "القضبان العشر"، وأراها تكمن وراء ذلك العناء الذي يجده شبابنا في تحرير الأفكار، والفقر الذي نعاني منه في ميدان الكتابة والتدوين والتعبير في مختلف محطات الحياة:
أولًا: اضطراب في مسيرة تعلم العربية
إننا نعاني من أزمة حادة في تعلم لغتنا العربية بلا شك، ولسنا بحاجة إلى جهد لإثبات هذه الأزمة؛ لوضوحها واتساع رقعتها، وأما منطلقات هذه الأزمة فهي تتصل بالمناهج والمقررات الأكاديمية أحيانًا، أو تتعلق بالآلية التي نُعلِّم بها الأجيال في أحيانٍ أخرى؛ مما يجعلنا نصل إلى مثل هذه النتائج الضعيفة، والإمكانات المتواضعة والمترهلة.
فالمناهج التي نعتمد عليها في تعليم اللغة العربية قاصرة عن أداء مهمتها مع تنوع المراحل الدراسية، أو غير ملائمة لعقول الأجيال العصرية، أو غير متكاملة ولا متسلسلة في بنيتها المعرفية، والأسلوب الذي تُقدَّم فيه تقليدي خال من الإبداع والجذب للمتعلمين في الغالب، يضاف إلى هذا هو أننا نتعلم لغة لا نمارسها في حياتنا اليومية، أداءً أو سماعًا، أو نحفظ قواعدها الصارمة متجردة عن الجانب العملي، دون استيعاب وقدرة على التطبيق، أو نختار لها في بعض الأحيان تطبيقات غاية في الأناقة والمثالية، يصعب فهمها عند المتعلم، فضلًا عن محاكاتها والقياس عليها في الأداء اللغوي نطقًا أو كتابة، وبهذا نكون قد افتقدنا العنصر الأساس الذي يمنحنا القدرة على الكتابة والتدوين والتعبير عن الأفكار بلغة منظمة وواضحة.
ثانيًا: غياب ثقافة القراءة الجادة
القراءة الواعية الجادة، وسعة الاطلاع على المدونات والمؤلفات العربية العلمية منها والأدبية، المتألقة في نظمها ولغتها هي الرصيد البنيوي لعقولنا وألسنتنا وأقلامنا وثقافتنا، وما لم نتمكن من تحقيق هذا الرصيد ونعمل على تنميته والتعلق به والتواصل معه بحب ورغبة وقناعة، لن نستطيع تنمية قدراتنا على الكتابة والتحرير وحسن النظم، فالعقول تبث ما تختزن، وتروي القلم واللسان بهذا المخزون أولًا، وبعد ذلك يمكنها التفريع منه، والقياس عليه، والإبداع والابتكار مثله ونظيره وأجود منه، وكلما تمرَّن العقل على المطالعة الواسعة والقراءة الدقيقة للمدونات الرفيعة في لغتها وتركيبها وسبكها كان أقدر على محاكاتها وتمثلها في كتابة النصوص، والتعبير عن الأفكار التي يحتاج إليها في حياته.
ثالثًا: نقص في الثقافة العامة
يحتاج الذهن في العادة إلى تراكمات معرفية، ومادة خام من المفردات والتراكيب والتصورات والمفاهيم والفلسفات لإنتاج فكرة محددة ومنتظمة، ومن ثم قدرة عقلية مرنة، تقوى على ربط الأفكار مع ما يتعلق بها، ومهارة أخرى في تفريعها وتحليلها إلى أجزائها؛ لينتج عن ذلك إحاطة متكاملة بها، ولباقة في التعبير عنها، وكل هذه المستويات تفتقر إلى تكوين الثقافة المميزة في شخصية الفرد، ثقافة تحيي أذهاننا وتزودها بالمعدات والمواد الأولية، وتجعلها بعد ذلك قادرة على العطاء والإنتاج والتحرير، ومن روافد هذه الثقافة: القراءة والتجارب والبحث والسؤال وإجهاد العقل في الفهم والتحليل والعمق والربط والتركيب وغيرها، وهذا ما يفتقده كثير من شبابنا المعاصر.
رابعًا: الفقر في تنمية العقل
الأسرة والمدرسة والجامعة والبيئة الاجتماعية هي التي تصنع عقولنا وتُشَكِّل خريطة مسيرها في الحياة، وتفتح أو تغلق أمامها بوابات المعرفة المختلفة، والحقيقة المُرَّة أن هذه المحاضن التربوية المتنوعة لا تقوم بدورها في تنمية العقل وتوجيهه بالشكل الأمثل، أو متناقضة الجهود وغير منسقة فيما بينها، وبالتالي يفتقد العقل إلى الانتظام والتسلسل المنطقي في صياغة الأفكار وتنسيقها ووسائل عرضها وتسويقها. إن غياب المهارات المختلفة في تنمية العقل والتخلي عن صياغة مسيرته بطريقة منتظمة في المحاضن التربوية يؤدي إلى شبه العوق الفكري، والاضطراب الذهني، وبالتالي عدم القدرة على تشكيل الأفكار بطريقة سليمة. يضاف إلى ذلك مشكلة التعليم عمومًا، فهي لا تربي ولا تنمي مهارة الإنشاء والتعبير اللغوي، ولا القدرات المنطقية.
خامسًا: عجز الأسرة أو تقصيرها:
الأسرة في مجتمعاتنا العربية إما عاجزة أو مقصرة في أغلب الأحيان، فكثيرًا ما تجهل حاجات الطفل اللغوية، وتفتقد لأساسيات التعليم ومهارات التربية، وتغيب عن سجلاتها ويومياتها واجبات التنمية الفكرية لأفرادها، فهي لا تتيح للطفل أن يُعبِّر عن أفكاره بحرية من وقت مبكر، ولا تزوِّده بما يحتاجه من إمكانات، ولا توفر له ما يعزز هذه المهارة، ولا تساعده في تحصيل ذلك، عجزًا أو جهلًا، أو تكاسلًا وتفريطًا، وهكذا يسير الفقر اللغوي والتشتت الفكري مع الطفل حتى مع كبره وتقدم سنه.
سادسًا: غياب المحفزات الداعمة والمنصات الراعية
تغيب في مجتمعاتنا المُحفِّزات التي تستثير العقول وتستنهضها، وتدعو النفوس وتغريها، وتستمطر الأفكار وتستدر حبر الأقلام، وفي سياق هذا الغياب تندثر كثير من الطاقات، وتموت كثير من القدرات، وتتأخر عن الساحة الثقافية كثير من الأقلام النادرة والفذة، فنحن لا نشك بأن هناك طاقات هائلة تضمها أوطاننا، لم تتح لها الفرص الكافية لتثري فضاءاتنا الثقافية والمعرفية بمدادها المنير، هذه الطاقات الكامنة قد تضمر أو تموت عندما لا تجد طريقها نحو الحياة، وحين لا تتيسر لها السبل نحو التحرر والانطلاق، ومثل ذلك غياب أو ندرة المنصات والمدونات المتاحة لأقلام المثقفين والراغبين بالكتابة والتدوين، حتى مع الحاجة إليها في التوعية والتعليم ونشر الثقافة المأمونة والسامية.
سابعًا: الجهل بالقدرات والإمكانات
يتوهم كثير من المتعلمين والمبتدئين وحتى بعض المثقفين أن الكتابة والتدوين، والتأليف والبحث الناضج، والتعبير عن الأفكار والآراء مكتوبةً لا يقوى عليه إلا الراسخون في العلم، ولا يحق أن يتقدم له إلا العلماء والأدباء والأفذاذ والمتخصصون، ولهذا فإنهم يتهيبون من هذه الخطوات، وينظرون بدونية لما يملكونه من مواهب وقدرات على الكتابة والتحليل والنقد وإبداء الرأي، فيتخلَّون عن القيام بمثل هذه المهمات العلمية والثقافية، التي ترتقي باللغة والفكر والذوق والمهارات، ولعل الطريق الأمثل في التعامل مع مثل هذه المشكلات هو المشورة والتجريب والمبادرة وتكرار المحاولة والتمرين المتواصل؛ ليكتشف الفرد قدراته وإمكاناته المندثرة، ومن ثم يقوى على النزول في هذا الميدان، ويشارك بثقة في العطاء والتدوين.
ثامنًا: الخمول ونقص الهمة
تحتاج الثقافة والقدرة الكتابية إلى جهد ليس بالقليل في طريق تحصيلها وتنميتها والارتقاء بها، وتتطلب قدرًا من التفكير العميق، وإشغال الذهن والخاطر، والتأني والمراجعة، والجود بالأوقات والأعمار، وربما السهر والتعب والتدقيق للوصول إلى نتائج قيمة ومفيدة في هذا السياق؛ لذلك يخلد كثير من المثقفين والمتمكنين إلى الراحة والخمول، ويفضلون الانكفاء والانكماش على المشاركة وبذل الجهد، ويحرصون على تجنب الكلفة والضريبة المترتبة على هذه المنجزات العلمية والثقافية، ويزداد الأمر رغبةً في التخلي حين يتعرضون للمراجعة والمتابعة والنقد بعد أي تجربة كتابية يقومون بها. فنقص الهمة عند الأفراد حتى مع قدراتهم على الكتابة يجعلهم أسرى لهذه المشاعر النفسية السلبية، وعرضة للانزواء والانطواء.
ويمكن التفريع من هذه الجزئية صورة أخرى تدعو الفرد إلى التنازل عن المشاركة في التدوين، وهي عدم شعور الفرد بالمسؤولية تجاه مجتمعه ووطنه أصلًا، وينقصه الوعي بأهمية النفع المتعدي للغير، وتغيب عن مشاعره واهتماماته روح المبادرة وحمل رسالة الإصلاح والدعوة، وكل هذا يؤدي بالضرورة إلى تراجع حاد في الرغبة النفسية ببذل النافع، وتقديم المميز والناضج من الأفكار والآراء.
تاسعًا: عدم القناعة بجدوى التدوين
إلى الآن ونحن نرى عددًا من المثقفين لا يرى للمكتوب تأثيرًا واضحًا على واقع حياتنا، ويعتقد بأن مجتمعاتنا في الغالب لا تقرأ، ولا ترغب بممارسة هذه الثقافة، وأن الذين يقرأون أفراد قلائل لا تُذكر نسبتهم تجاه العدد الهائل من أبناء المجتمعات، والإحصاءات التي تثبت صحة هذا التشخيص كثيرة جدًا، وبالتالي ليس ثمة كبير حاجة إلى الاهتمام بهذا المجال، وهذا التصور تلحظه في أفكار وتوجهات كثير من المُحبَطين غالبًا، أو البعيدين عن تشخيص الأدواء التي تعاني منها المجتمعات بدقة، وبناءً على ذلك فلا جدوى عندهم من بذل الجهود والأوقات والأفكار والأعمار في مثل هذه المحطات.
ولا يخفى على نابه حصيف ما تشتمل عليه هذه الرؤية من قصور وسطحية؛ فعدم الرغبة في القراءة عند أبناء مجتمعاتنا -وإن كان صحيحًا وواقعيًا- لكنه لا يواجه بمثله، فلا يواجه العجز بالعجز، ولا يجوز أن يواجه هذا التراجع الثقافي بالابتعاد عن الكتابة والتأليف، وترك القيام بهذه المهمة الحضارية التي تنشدها كل الأمم المتقدمة، وهي التي تكشف حجم الرصيد الثقافي الذي تكتنزه الشعوب.
ثم ليس من العدل البت بأن هذه الوسيلة عديمة التأثير على تركيبة المجتمعات فكريًّا وثقافيًّا؛ فالفكرة النافعة المكتوبة قد تستقر يومًا في ذهن عالم، أو مفكر، أو مثقف، أو داعية، أو خطيب، أو قائد، أو مؤثر، ثم تسري شحنات هذه الفكرة عبر لسانه أو قلمه على هيأة نصيحة، أو رسالة، أو مشورة، أو همسة، فتجد طريقها إلى الحياة، وتصل إلى مبتغاها في ثقافة العامة أو الخاصة من أبناء المجتمع، وهنا قد حققنا المطلوب من التدوين والكتابة، حتى مع غياب ثقافة القراءة في مجتمعاتنا.
عاشرًا: غياب الحريات في أوطاننا
ندرك جميعًا حجم التضييق والقمع والحصار الذي يطال الأفكار والمناهج والتوجهات المختلفة في عالمنا العربي، والخوف من القمع والتغييب والمخاطر المتنوعة هو الذي يمنع الكثيرين من إطلاق أقلامهم والتصريح بأفكارهم وآرائهم، وهذه الأزمة لها ما لها في فضاءاتنا العلمية والثقافية العامة؛ لأننا حين نحجر على أقلام المثقفين وأفكارهم نكون قد خسرنا جميعًا شعاعًا لامعًا يضيئ لنا طريق الرقي والصعود في سُلَّم الحضارة، فكثير من الأفكار المودعة في عقول المفكرين والمصلحين والمثقفين هي مثابة مصباح مليء بالنور والإبداع والحيوية، يفتح أمام الأجيال آفاقًا مميزة للتقدم.
وبعد كل ما مرَّ، فلن يكون حالنا أفضل في فضاء التدوين ما لم نعيد النظر في تعاملنا مع هذه القضبان العشر من حولنا، وما لم نتقن مهارة التحرر منها والانفكاك من سجونها، وأتمنى أن يشارك الجميع في تحرير مجتمعاتنا وفك أغلالها من هذه السجون والقضبان البائسة؛ لنصل إلى ما نبتغي من النهضة والتقدم في ميدان الثقافة والمعرفة على وجه الخصوص.