إن ما شهدته تركيا من أحداث صقلت نبوغها، وبلوغها ما هي عليه الآن، كان نتاج أزمات كبيرة تعرضت لها، من المؤامرات الأولى لإسقاط الخلافة العثمانية، ومن ثم إنقاذ الدولة بعدها، وهو ميلاد الجمهورية التركية الحديثة، التي بدورها أيضا مثل أي دولة لها مكانة عالمية، وتاريخ يؤكد قوة الإنسان التركي وصلابته، وأيضا القدرة على التعايش الاجتماعي، ووحدة الهدف العام المتجه نحو النهضة، والذي كان الشعب بمختلف توجهاته، وانتماءاته، وتنوع ثقافته، سندا وعونا، وله دور أساسي فيها؛ وكل هذا مرَّ بمراحل عديدة حتى وصل إلى ما يمكن أن نسميه اليوم النهضة التركية الحديثة.
وسَنلخص في هذا المقال الفرص والتحديات والعقبات التي واجهت عملية النهوض، مع لمحة ووقفات عن سيرها نحو النهضة الحديثة، ومن خلال ذلك سنُعرف أسرار النهضة التركية الحديثة.
إن تجربة النهضة لدولة ما لا يمكن استيرادها، أو تصديرها كاملة، فليس هناك تطابق ما، بل هناك تمايز، فالنهضة نظرية قد تطبق عمليا في بيئة ما، وقد تختلف في بيئة أخرى، وهي علم قبل أن تنفذ على أرض الواقع، والتجربة قد تصلح في بلد وقد تفشل في بلد آخر.
لا يجب على أي أمة التقيد بما ورثته، وما وصل إليها فقط، ولا يجب عليها التقليد الأعمى بل الوعي بمشاريع النهضة والتطوير والابتكار في جميع المجالات واختيار الأنسب للبيئة.
ما قبل النهضة
لقد عانت الدولة التركية من تدهور كبير بعد انهيار الخلافة العثمانية، وبدء ميلاد الجمهورية، ولم تكن مجالات الحياة أو مؤشرات النهضة تلوح في الأفق، بل كانت هناك تحدياتٍ أثقلت كاهل الدولة، وكانت الشركات الأجنبية تسيطر على السوق المحلي في تلبية الاحتياجات الضرورية والأساسية للشعب بعد الإنهاك، والضغط والشروط المفروضة على الدولة لما يسمونه بشروط الاستسلام.
بدأت الدولة عهدا جديدا مع جهود جديدة لإعادة ترميم العلاقات الدولية، وبناء تحالفات جديدة وشراكات محلية وإقليمية لاستعادة بعض التوازن الاقتصادي والاجتماعي للدولة بشكل عام.
"ولقد تعافى الاقتصاد التركي بشكل ملحوظ بعد انتهاء القتال، وارتفع الناتج الزراعي بنسبة 87% من عام 1923 حتى عام 1926، حيث عاد الإنتاج الزراعي إلى مستويات ما قبل الحرب، ونمى القطاع الصناعي والخدمات بمعدل يفوق 9% سنوياً من عام 1923 حتى عام 1929، إلا أن الدخل القومي ظل ضئيلاً في نهاية عقد العشرينيات."
تدخلت الحكومة في مطلع عقد الثلاثينيات لدعم الاقتصاد، متبعةً مبدأ يُعرف بإسم سيطرة الدولة، وتباطأ النمو أثناء أسوأ سنوات الكساد، ما عدا السنوات بين 1935 و1939 حين بلغت 6% سنوياً؛ وتعطل الاقتصاد أثناء عقد الأربعينيات، وذلك بسبب الاحتفاظ بحياد مسلح أثناء الحرب العالمية الثانية مما زاد من نفقات البلد العسكرية، بينما سجل جمود شبه تام للتجارة الخارجية."
وتعرضت لأزمات متفاوتة، وكعادة صندوق النقد الدولي في سياساته وإدارته لأزمات الدول ذات المديونية فقد ساهم في توازن الاقتصاد، فقط في جميع فترات الأزمات -والتي كانت تحدث كل عدة سنوات- تحدث أزمة مالية تؤدي إلى تدخل كبير من صندوق النقد الدولي لإعادة الأمور إلى نصابها، والسماح بمديونية أخرى تجعل الدولة مدينة له دائما، إلى أن أتى عهد جديد، وسياسة جديدة، ذات منهجية إسلامية، وفِكر معاصر يواكب الحداثة، ويرسخ الدور المشترك للجميع في بناء الدولة التركية الحديثة.
وفي بداية القرن العشرين عام 2001م وخصوصاً في المجال المالي، والاقتصادي، وهو العام الذي حدث فيه أسوأ انهيار اقتصادي مرت به تركيا "وبعد الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي شهدتها تركيا في ذلك العام، اضطرت أنقرة إلى وضع برنامج للتجديد الاقتصادي، أعده خبير اقتصادي تركي عمل طويلا في البنك الدولي وهو كمال درويش."
وكان رئيس الوزراء التركي في تلك الفترة، أي مارس 2001، بولنت أجاويد قد عين درويش وزيرا للشؤون الاقتصادية والمالية، حيث أصبح مسؤولا عن برنامج الإنعاش في تركيا، ومنح صلاحيات واسعة تستهدف "إنقاذ الاقتصاد وإعداد خطة اقتصادية جديدة بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي".
وقد حدث بالفعل كبداية موفقة للإصلاحات الاقتصادية، ولكنها طغت المصالح الشخصية، والانتماءات السياسية فاستقال درويش من منصبه كوزير، وعاد للمعارضة مع اليساريين وفاز كنائب للبرلمان التركي كعضو في حزب الشعب الجمهوري في عام 2002م .
وفي العام 2002م تصدر حزب العدالة والتنمية الانتخابات ليفوز ويبدأ عهد جديد، وينقش تاريخ ميلاد جديد للدولة التركية الحديثة، وبدأ التاريخ يسطر مؤشرات النهضة التي بدت ملامحها كخيوط شمس جديدة لتشهد أسرع تقدم عرفته تركيا.
بداية النهضة
وبعد فوز حزب العدالة والتنمية بدأ الاقتصاد بالتعافي تدريجيا، وبدأت رؤية الحزب الإصلاحية تتجلى وتترجم على أرض الواقع، وليس هذا فقط بل كان للشعب التركي دور كبير في دوران عجلة التنمية والتعافي الاقتصادي، والاجتماعي، فقد انتظر طويلا حتى رأى النموذج اللائق الذي يلبي احتياجاته، ويؤمن مستقبله ومستقبل الأجيال المتعاقبة، والمقصود بالشعب ليس فقط مناصري حزب العدالة والتنمية كشخصية اعتبارية أو أحد ممثليه، بل الشعب التركي بمختلف انتماءاته، وتوجهاته العلمانية والليبرالية والإسلامية، فقد كان الشعب متعطش لنظام يسوده وسلام يعُمه وصعود منظم للأمام.
لقد استقى حزب العدالة والتنمية أفكاره ورؤاه من نبع إسلامي وواقع منشود لكل تركي يؤمن بقدراته وإمكاناته، وأكد الحزب انتهاج طريق الانفتاح الاقتصادي، تضمن العديد من النقاط من أهمها ما يلي:
آليات اقتصادية لكسب ثقة العالم الغربي وفق رؤية شاملة
ظهر مشروع حزب العدالة والتنمية في الإصلاح الاقتصادي من خلال فرض نظام رقابة مالي على المؤسسات الحكومية وميزانية الدولة، ومحاربة الفساد مع اعتماد سياسة مالية لمحاربة التضخم، وأيضا مكافحة التهرب الضريبي والتجارة الغير مسجلة، وفتح المجال أمام الشركات الاقتصادية والخصخصة، بالإضافة إلى تسهيل الاستثمار وإنجاز المشاريع، وكانت لحزب العدالة والتنمية علاقة بالشركات الكبرى، وهذه السياسة تدخل في إطار الاستثمار الخارجي بهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد تم مقابظة الجنسية بالاستثمار الذي يطور البنية التحتية ويوسعها، مع دعم التعليم والبحث العلمي.
وهناك الكثير من النقاط التي لا يسع المجال لذكرها، ويمكن أن نلخص تجربة النهضة التركية في عدد من المراحل والمشاريع التي كان لها دور مهم في النهضة التركية الحديثة.
التعافي والنمو الاقتصادي: في خضم الأحداث المتسارعة وبدء التعافي وتطبيق المبادئ التي أسست قواعد مهمة للإصلاح الاقتصادي، والتي لا تبتعد عن قواعد الشريعة الإسلامية الغراء، وتعد إنجازات تركيا أكثر من رائعة عندما ينظر المرء إلى جاراتها، فَجيرانها الغربيون – قبرص واليونان – في بؤرة أزمة منطقة اليورو، وإذا نظرنا إلي الجنوب الشرقي نجد سوريا التي مزقتها الحرب، وإلى الشرق سنجد العراق وإيران، وإلى الشمال الشرقي أرمينيا وجورجيا.
وبالرغم من ذلك حققت تركيا تقدماً ملحوظاً في خضم الاضطرابات الإقليمية، فبعد التراجع الاقتصادي الحاد في الفترة ما بين 1999 و2001، نما الاقتصاد بنسبة 5% في المتوسط سنويا من عام 2002 حتى عام 2012، وظلت تنعم بالسلام بالرغم من الحروب الإقليمية، ونجحت بنوكها في تجنب دورة الازدهار والكساد في السنوات الماضية نظراً لما تعلمته من الانهيار المصرفي في الفترة 2000-2001، وكانت فجوة التفاوت في تضاؤل مستمر، وفازت الحكومة في ثلاثة انتخابات عامة متتالية، وفي كل مرة بحصة أكبر من الأصوات ،وليس ذلك فحسب بل تحسن دخل الفرد عندما وصل حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة عام 2002، حيث كان متوسط دخل الفرد عند نحو 5556 دولارا، وارتفع إلى 9656 دولارا في عام 2007، ثم وصل إلى ذروته في عام 2019 عند 19000 دولارا.
وزيادة الإنتاج، والرقابة المالية، سبب رئيسي لتعافي العملة والتعافي الاقتصادي، وكل هذا نتيجة حتمية للإصلاحات الاقتصادية التي ساعدت على النمو والحد من الفساد المالي والإداري، وتشديد الرقابة وتسهيل الاستثمارات وخفض الفائدة، ويمكننا أن نطلق على فترة النمو الإقتصادي فترة الأحقية والمصداقية التي تعتبر دليلا واضحا ومهما على قدرة الاقتصاد على التعافي باتباع الإصلاحات الحقيقية، والرقابة الفعلية وتشجيع الاستثمار والإنتاج المحلي الذي ساهم بشكل ملحوظ في نمو الاقتصاد المحلي وتقوية الروابط، وغرس الثقة به في الاقتصاد العالمي حتى أصبح قوة اقتصادية كبيرة وفي المرتبة الثامنة عشر عالميا والسادسة أوروبيا وهو ترجمة الأقوال إلى أفعال واقعية.
ويطمح صناع القرار الأتراك إلى أن يكون مستوى دخل الفرد التركي 25000 دولار في عام 2023م، وهي الذكرى المئوية لقيام الدولة التركية الحديثة ويطمحون أيضا أن تكون تركيا من ضمن العشر دول الأولى اقتصاديا في العالم" وتعتبر تركيا متقدمة كثيرا في الرؤية، والطموح، والواقع الملموس، أكثر إثباتا وتأكيدا لما تصبوا إليه.
بالإضافة إلى التعافي الاقتصادي، والنمو المتسارع خلال 20 عاما أيضا، فقد تم تصفير الديون التركية مما يؤكد قدرة الاقتصاد التركي على تماسكه وقوته أمام الأزمات العالمية، ومنها أزمة انخفاض سعر الليرة، وأزمة كورونا، وبعض الأزمات المحلية والإقليمية التي تواجه تركيا.
الاستثمار والإنتاج: فتحت الحكومة التركية أبواب الاستثمارات، وعملت على تسهيلها، وانفتحت على التجارة العالمية، وعملت أيضا على تسهيل سبل الاستثمار للمستثمرين، وكذلك خصخصة الشركات مع الرقابة والمتابعة المثالية، من قبل الحكومة وتسيير شؤون الاستثمار بما يخدم التنمية، والنهضة التركية، ومواكبة المجتمع المحلي، وتلبية متطلباته، وجلب الاستثمارات الأجنبية، مع مميزات التنمية المستدامة، والحفاظ عليها بمنح الجنسية للمستثمرين في حدود معينة، وتسهيل التراخيص، والتجارة المحلية، والدولية وعقد شراكات تجارية مع القطاع الخاص، وكذلك اتفاقات تجارية مع الدول الإقليمية، وقوى التجارة العالمية مما جعلها في صعود مستمر في قائمة القوى التجارية، والصناعية الأقوى عالميا.
ولأن تركيا تعتبر مركزا تجاريا هاما من العهد العثماني، والفتوحات فقد شجعت الإنتاج، والصناعات المحلية ودعمت القطاع الخاص، ووفرت كل التسهيلات التي أدت إلى رفع القدرة الإنتاجية، والصناعية لدى الشعب التركي وتعتبر تركيا ذات إنتاج زراعي، وصناعي له مكانته عالميا وإقليميا، إذ تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج العسل بعد الصين حيث تنتج 85.6% من إجمالي الإنتاج العالمي، ووفقا لإحصائيات العام 2016؛ فإن عدد أماكن العمل المُزاولة لمِهنة تربية النحل في تركيا تبلغ 84047، أنتجت 105727 طناً من العسل".
الإنتاج الزراعي الضخم فقد احتلت المرتبة السابعة عالمياً لزراعة الحنطة بالإضافة للشعير، الفواكه، الخضروات، القطن، الزيتون، الحمضيات فقد كان للإنتاج الزراعي الدور الأكبر في تطور الاقتصاد التركي، وكذلك صناعة النسيج، والسيارات، واستخراج المعادن، وصناعة الإلكترونيات، وصناعة السفن، وتعتبر السابعة عالميا في هذا المجال وكذلك صناعة الحديد الصلب الممتاز، وتعتبر الأولى عالميا حتى في تصنيع وتعليب الغذاء، وتعتبر قدوة في مجال الاستثمار والإنتاج يحتذى بها.
التعليم والبحث العلمي: أولت الحكومة التركية منذ بزوغ فجر النهضة التركية اهتماما كبيرا في للتعليم ودعم مشاريعه، وسخرت الكثير من الإمكانات التي تسهل العملية التعليمية، وجعلت التعليم حقا واجبا، ومنطلقا أساسيا في طريق التنمية، والنهضة الحديثة، وقد تساوى راتب المعلم، مع راتب الطبيب، وكذلك تم وضع مصروف شهري لكل طفل فقير يعطى لأمه لأنها أحرص الناس على تعليمه، وتم بناء الجامعات والمدارس الحكومية.
ويعتبر التعليم مجاني حتى أن تركيا تستقبل آلاف الطلاب عبر منح دراسية مقدمة من الحكومة التركية من مختلف دول العالم، كما أنها تضع ميزانية كبيرة للبحث العلمي تفوق النفقة في المجال العسكري، وكذلك بنت أكثر من "125 جامعة و169 ألف فصل دراسي (غرفة صفية حديثة مزودة بالإنترنت والحواسيب)"، تقع أعباء الدراسة في تركيا على نفقة الدولة، بالإضافة لبناء مدينة مزودة بالمختبرات المجهزة للأبحاث والاختراعات، وهذا إن دل فإنما يدل على أن النهضة أساسها التعليم، الذي هو مفتاح التنمية ودليل الشعوب إلى التقدم والازدهار.
وبعد أن أثبت فشل استيراد الأفكار الغربية وعلمنة الدولة وإقصاء المدارس الدينية والمعاهد الشرعية ومنعها من تخريج العلماء والوعاظ الذين لهم الدور الأكبر في الإرشاد، وكذلك التربية، وتأسيس جيل يقدر العلم، ويحافظ على القيم، فبعد أن تم فتحها أثبتت قدرتها على مواكبة الحداثة، والمساهمة الكبيرة في مشاريع النهضة، والتنمية ولا يخفى على أي مطلع على التقدم والنهضة في تركيا في مجال التعليم، والتكنولوجيا والطب، أنها قد أصبحت محل اهتمام عالمي سواء في طرق التدريس، أو التحديث والتجديد، وكذلك التطوير الحاصل سواء في التعليم الجامعي، أو التعليم العام، وتعتبر تركيا فريدة من نوعها في مجال التعليم، والتكنولوجيا بقفزة نوعية لتتصدر عالميا وتصبح قبلة طلاب العلم، ومنبع صاف للتزود من العلوم التي تتبناها تركيا، وتعمل على نشرها وإكسابها لكل من يرغب النهل منها.
وفي تقرير كتبه كل من دانيال كارو وجيني لينكيت الباحثين في مركز جامعة أوكسفورد للتقييم التربوي الذي تم نشره في موقع «كونفرزيشن» وترجمه موقع ترك برس العربي جاء فيه:
"أن النظام التعليمي في كل من تركيا وتايلاند من أفضل النظم التعليمية في العالم، ولا تقل جودة التعليم في هاتين الدولتين عن التعليم في كل من سنغافورة واليابان، مشيرة إلى أن تصنيفات التعليم العالمية ليست أفضل مقياس لأداء التعليم في العالم".
وهذا رأي واقعي للمستوى الذي وصل اليه التعليم في تركيا وكذلك المخرجات في العالم العربي والإسلامي الذين احتضنتهم تركيا فكانوا خير مثال للنهضة التعليمية فيها.
البنية التحتية والمسؤولية الاجتماعية: مما يميز تركيا هو موقعها الجغرافي الذي ساعدها لتكون حلقة وصل بين الثقافات، والقارات، وملتقى يجمع مختلف الأعراق، ومن مختلف الدول والجنسيات، من سحر بيئتها، واعتدال مناخها، وحواضر مدنها، وتاريخها الذي عزز مكانتها عالميا، وكذلك قدرتها على احتواء أكبر قدر من المشاريع العالمية الكبرى التي ساهمت في ترجمة المعنى الحقيقي للنهضة التركية، والنمو المتسارع فيها مما جعلها ملاذا آمنا للمشاريع الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة، وأيضا العملاقة التي تعمل على جذب رؤوس الأموال، وتسخير أموال الدولة لتطوير البنية، التحتية وكذلك نشر ثقافة المسؤولية الاجتماعية بين الشركات المحلية للمساهمة في التطوير مع خطط الدولة، فشكل ذلك إنجازات كبيرة على المستوى المحلي، والدولي وأصبحت تركيا مثالا للدولة المؤسسية الحديثة من حيث النظام، والإدارة، والقوانين، والبيئة الخصبة لكثير من المشاريع.
و تعمل تركيا على تحسين وانشاء عدة مشاريع، لتوفير بنية تحتية قوية من طرق، وجسور، ومشافي، وحدائق للشعب، وقطارات، وسكك حديدية، وساحات ضخمة كمشروع ميدان باشاك شهير، وفي تركيا أكبر مطار في العالم وأكثر من 10 مدن طبية مجهزة بأحدث التجهيزات بمساحة واسعة، واحتواء آلاف المرضى وكذلك هناك الكثير من المشاريع العملاقة التي تستعد لافتتاحها في مطلع العام 2023م، مثل قناة إسطنبول المائية وعدد من المدن الطبية وعدد من الطرق المحلية والدولية، والجسور، والأنفاق، وكذلك في مجال الطاقة، والتنقيب".
وتتميز أيضا تركيا بفعالية استغلال الموارد المتاحة، وكيفية الاستفادة منها بأكبر قدر ممكن، وكذلك تتميز بالكفاءة، والقدرة العالية في تحويل الأزمات والصعوبات التي تسبب مشاكل اجتماعية إلى فرص وفوائد تستفيد منها الدولة والمجتمع مثل:
- مشروع تدوير النفايات والاستفادة منها في الكهرباء، والنفط، والمياه، وعوائد مالية ضخمة، وتعتبر الأولى في هذا المجال حتى أنها تصدر تجربتها للعديد من البلدان ليس النامية فقط بل حتى الدول المتقدمة.
وتعتبر تركيا الأولى عالميا من حيث حجم الاستثمارات في البنية التحتية بنسبة 40 % عالميا منفردة وسبب ذلك يعود إلى عمل المشاريع العملاقة مثل:
- مشروع مطار إسطنبول الثالث الذي كان سببا جوهريا ومثالا لمشاريع البنية التحتية التي تتبناها الدولة التركية الحديثة.
الخدمات والعلاقات الدولية: كل الدول ملزمة بتقديم الخدمات لمواطنيها ولكل من يقطن فيها بحسب القدرة الاستيعابية للدولة وخططها التنموية، وهناك الكثير من حقوق المواطنين التي تكفلها حكوماتهم وتركيا من أنجح الدول، ويمكن أن نصفها أنها الأولى عالميا حتى وإن لم تكن غنية بما يكفي أو يوازي الدول المتقدمة إلا أنها قدمت خدمات أفضل من أي دولة أخرى متقدمة.
وفي مجال الرعاية الاجتماعية تنص المادة 60 من الدستور التركي على أن "الجميع يتمتع بالضمان الاجتماعي في تركيا، والدولة تتخذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق هذا الضمان، من خلال مؤسسات تقيمها". ويغطي الضمان الاجتماعي ما نسبته 81% من عدد السكان في عام 2007م وتجاوز هذه النسبة في الأعوام اللاحقة.
وتم تأسيس مؤسسة التأمينات الاجتماعية مما أدى إلى إرساء نظام عامل أكثر كفاءة وسرعة، يستند إلى مركزية التحكم في صناديق الضمان الاجتماعي المختلفة داخل مؤسسة واحدة والتي تكونت من دمج ثلاث مؤسسات هي مؤسسة التأمينات، وصندوق التقاعد، ومؤسسة أرباب الحرف والمهن الحرة، بموجب القانون رقم 5502 لعام 2007م والتي سهلت الرعاية الاجتماعية لمختلف فئات المجتمع (الأطفال والنساء والمسنين والمعاقين...وكل المحتاجين) بمعايير محددة للمؤسسة .
أما المادة 10 من الدستور التركي فتنصّ على أنّ: "جميع الأفراد متساوون أمام القانون دونما تمييز، بصرف النظر عن اللغة، أو العِرق، أو اللون، أو الجنس، وللرجال والنساء حقوق متساوية، والدولة ملزمة بضمان تحقيق هذه المساواة على الصعيد العملي، ولا تُفسَّر التدابير التي تُتَّخذ لصالح الأطفال والمسنين والمعاقين وأرامل الشهداء وأبنائهم، وكذلك لصالح مصابي الحرب وقدامى المحاربين، لا تُعتبر مخالفة لمبدأ المساواة".
وهذا يعني الدور الفعال، والقيمة العظيمة، والخدمات الكبيرة، التي ينص عليها الدستور التركي وتكفلها الحكومة وتعمل على تنفيذها، وترجمتها على أرض الواقع بمسؤولية وشفافية لا نظير لها.
وقدمت الدولة كافة الخدمات التي تجعل منها دولة مثالية في مجال الصحة، والتوظيف، والأسرة، وكذلك رعاية الأطفال المشردين، والأيتام، وحتى محدودي الدخل، وقدمت رواتب للمسنين بعد سن 65 عام، وكذلك تقديم رواتب للمعاقين فوق سن 18 عام، والذين هم مكلفون بإعالة أسرهم وهم محتاجون".
وتعمل على إرساء قواعد العدالة الاجتماعية والحريات الشخصية مع الاحتفاظ بالهوية والقيم الإسلامية والإنسانية، كما تقدم بعض المؤسسات العامة الكثير من المساعدات، وحتى إعطاء مصاريف للمرضى المحتاجين مثل المديرية العامة للأوقاف، وكذلك ما تقدمه وزارة الصحة من مساعدات لكل من لم تشمله أي مؤسسة وهو محتاج ولا يستطيع دفع النفقات الصحية.
إعداد برامج، وخطط للتقليل من نسبة البطالة، واعتماد استراتيجية طويلة المدى والتي كانت ثمارها جلية فبعد أن كانت البطالة كبيرة جدا قبل عام 2002م أصبحت في العام 2015م 6% وحصل انخفاض كبير في نسبها.
ولتُركيا علاقات واسعة بدول العالم العربي والإسلامي خصوصا، وبدول أوروبا وبقية دول العالم ولها بصمات واضحة في القرارات الدولية، والسياسات المتبعة من تركيا، وتجاه تركيا، ولها مواقف مشرفة وخصوصا التي تهتم بالإنسان، وتحارب الظلم، والإرهاب، والتسلط، والاستبداد، الذي تمارسه بعض الأنظمة في العالم مع شعوبها أو مع البلدان المجاورة لها.
وقد فتحت تركيا صدرا رحبا للعلاقات الدبلوماسية، والتجارية لتنفتح معها آفاق النهضة وكما ذكر الدكتور أحمد داود أوغلو بما سماه دولة المركز وحددها بعدة نقاط وهي :
- العمق الجغرافي.
- الاستمرارية التاريخية.
- التأثير الثقافي المتبادل.
- الترابط الاقتصادي المتبادل.
وهذا ما جعل لتُركيا روابط قوية مكنتها من السير قدما في مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة، وبعد أن كانت تركيا مقلدة للحضارة الغربية أصبحت نموذجا حضاريا للتنمية والنهضة في الكثير من مجالاتها.
التجربة التركية نموذج مثالي لأسس النهضة، فقد جعلت الصعب ممكناً، وقد جعلت القدرات البشرية محركا للتنمية، وجعلت من الموارد المادية المتاحة فرصة، ومن بيئتها وموقعها الجغرافي حافزا وقصة، ولقد جعلت من فلسفة العلمانية نظاما للحرية والمساواة، ومن غربة المواطنة إلى حب الانتماء، والفخر وجود العطاء؛ وجعلت من رأي الجمهور قانونا ودستور، وأبدلت التبعية والانطواء والتقليد، ببديل الاستقلالية والقيادة والتجديد، جعلت من العلم منارا وفي الحضارة ازدهارا، وأكدت أن طريق النهضة ماهو إلا قرار وحسن تدبير واختيار.
ومما يحسب للتجربة التركية أن نهضتها بدأت وتقدمت لأنها ثبتت على أصولها الإسلامية ورسخت في تاريخها أن الإسلام دين حضارة وتقدم؛ ليس كما يصوره أعداء الإسلام بالتخلف، والتبعية لقد أثبتت التجربة التركية "أن النظام الإسلامي صالح في كل زمان ومكان، ومواكب لكل عصر، ومتجدد دائما، يتناسب مع كل بيئة ومع مختلف الثقافات والتغيرات"
ملخص لأسرار النهضة التركية الحديثة
السعي الحثيث نحو التعافي الاقتصادي والاهتمام بالوعي المجتمعي، ودعم التعليم بالاضافة إلى دعم البنية التحتية وتطويرها، وتوفير مشاريع تنمية شاملة ومستدامة، وجذب الاستثمارات الأجنبية ودعم الاستثمارات المحلية، مساعدة المجتمع وسد حاجاته، وتحسين العلاقات الإقليمية والدولية وتطويرها، مقابل الحفاظ على الهوية الوطنية والإسلامية وتعزيز مكانتها محليا ودوليا، ودعم البحث العلمي وبراءات الإختراع والصناعات، وتعزيز القدرات والموارد البشرية والمادية والطاقات، لتعزيز البحث المستمر عن موارد جديدة في شتى المجالات.
ولا زالت التجربة التركية محل اهتمام الكثير من المفكرين والباحثين، ولا زالت مؤشرات نهضتها في دراسة مستمرة كنموذج مثالي عام للنهضة السريعة والمنظمة للدولة التركية الحديثة.