لم يكن أكثرُ المتشائمين يتوقّع مثل هذه الصّدمة العالمية من مخلوقٍ خفي بكلّ هذه السّرعة والفجائية، حيث تحدّى الإنسان في عنفوانه وكبريائه في عصر التقنية والتطوّر التكنولوجي المذهل، وهو الفيروس الصّغير وغير المرئي الذي اخترق منظومات الدول خِلسة ومن غير استئذان، وأسقط عديد الأوهام والمسلّمات والأساطير، ولقّن العالم درسًا في التواضع، وعبّر بوضوحٍ عن حجم ضعف الإنسان أمام قوّةٍ إلهية قاهرة، فعادت البيولوجيا لتتحدّى التكنولوجيا، وتعلن بأنه هناك كائناتٌ متقدّمةٌ أكثر من الإنسان المتقدّم.
وسيكون هذا الوباء مثل غيره من الأحداث الاستثنائية التي غيرّت مجرى التاريخ وأعادت ترتيب موازين القوة في العالم، والمؤكد أنّ ما قبل كورونا لن يكون متصالحًا مع ما بعده، لأننا نواجه خطرًا خفيًّا وتحدّيًّا مجهولاً، فرَض عدلاً بين الجميع في نفس الهمّ، لا يفرّق بين الغني والفقير ولا بين القوي والضعيف ولا بين المتطوّر والمتخلّف، وهي حالةٌ نادرة في تاريخ الصّراع والتنافس بين البشر.
والظاهر أنه لن يرحل حتى يستكمل مهمته التغييرية الشاملة، يعاقب الضّعفاء على صمتهم، ويؤدّب الأقوياء على ظلمهم، ويبتلي المؤمنين في عقائدهم، ويختبر العلماء في ذكائهم، وقد تجرّأ على المقدّس فأجبر الجميع على تغيير عباداتهم، وتجرّأ على الثابت فألزم الجميع بتغيير عاداتهم.
فمن النتائج المذهلة لهذا الحدث الكوني الكبير من هذا الفيروس الصغير: تغيير وجه العالم بتغيير عديد الثوابت التي لم تصمد أمامه، فقد فرض على الملايين حظر التجوال، وأغلق الحدود بين الدول، وفرض الإقامة الجبرية في البيوت، وأوقف صخب التظاهرات الرّياضية والثقافية، وأعتقل المناسبات الاجتماعية والترفيهية، وأوقف زخم المشاعر بين الناس بالمصافحة والمعانقة والقُبَل، وعلّق حقّ الحرّية في التنقل والسّفر، وعطّل الشركات والمؤسسات والإدارات، ولم يستأذن في غلق الجامعات والمعاهد والمدارس، ولم يقنع بأن فضح منظوماتنا الصّحية والتعليمية، ولم يرض بمجرد إعلان حالة الطوارئ وتحريك الجيوش، ولم يشفِ غروره بسجن قادة دول تحت الحجر الصحي بأمر الله تعالى، وهوَى بالنفط والبورصة والاقتصاد، وصادر السّكينة العامّة بالخوف والقلق، ولن يهدأ له بالٌ حتى يرتفع منسوب الوعي بين الشعوب والدول، وتنهزم عولمة الرّأسمالية المتوحّشة أمام عولمة القيم الإسلامية والإنسانية، ولله الحكمة البالغة، فقد ارتبطت الأحداث التاريخية الكبرى بالعِبر والنتائج الكبيرة، كما قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عِبرةٌ لأولي الألباب."(يوسف:111)
وبعيدًا عن الخطاب الوَعظي في التفسير الغيبي القدري للكوارث وكأنّ الله تعالى عدوٌّ للبشر، وبين نظريّة المؤامرة لهذا الفيروس في صراع الكبار بين أمريكا والصّين، وبين الحكمة الإلهية فيه كابتلاءٍ للإنسان في نظرته لله والكون والحياة، وبين العقوبة الرّبانية به كبَلاءٍ على الظّالمين والمتكبّرين في الأرض فإنّ العالم يقف مندهشًا من سياقه الزّماني وانسيابيته المكانية، لتبقى حقيقتُه سرًّا محيّرًا ولغزًا غامضًا إلى الآن، فما وراء كورونا؟
سيبقى عقل الإنسان قاصرًا عن إدراك بعض الأسرار عمّا يحدث في هذا الكون، والحقيقة القرآنية تقول: "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا."(الإسراء:85)، وسيرحل هذا الفيروس لا محالة كما رحل غيرُه، لكنه سيفرض منطقًا تغييريًّا جديدًا، وخاصة في علاقتنا بالدّين والصحّة والنظافة والغذاء والبيئة.
1- عودة الإنسان إلى الفطرة والدّين
فالعقلانية الإيمانية تثبت نطق الفطرة بأهوال المصيبة فتعود إلى الدّين، لأنها تطرح أسئلةً وجودية ملحّة، كما نطق فرعون في مثل قوله تعالى: "حتى إذا أدرَكه الغرَق قال: آمنت أنه لا إلـه إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين." (يونس:90).
فعواصم العالم تغلق شوارع ونوادي وفنادق الدّعارة، وتمنع نوادي العراة والشواذ والحانات والعلب الليلية، وسيردَع كورونا البعض عن الظلم والفساد والقتل والجريمة والمعصية، وكأنك تقرأ هذه الآية لأول مرّة: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازَّيَّنت، وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغنَ بالأمس، كذلك نفصّل الآيات لقومٍ يتفكرون." (يونس:24).
2- صداقة الإنسان مع البيئة
فقد شهدت النّظم البيئية تدهورًا خطيرًا لأسبابٍ كثيرة، أهمها: النّمط الاستهلاكي الذي أورثته الرأسمالية، الذي ربط بين التدهور البيئي وانتشار الأوبئة بسبب شحّ المياه وأزمة الصّرف الصّحي وتلوّث الهواء والاعتداء على الطبيعة، فجاء المعلِّم كورونا ليعيد علاقة الصداقة بين الإنسان والبيئة كأولويةٍ عاجلة، وهو ما ينسجم مع قواعد الشريعة الإسلامية في الحفاظ على الأمن البيئي في الأحكام المتعلّقة بالطهارة في الماء والتوازن في الغداء والنقاوة في الهواء والنظافة في الأرض، فحرّم الإسلام الفساد بكلّ مظاهره فقال تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا.."(الأعراف:56)، وحرّم التلوّث بكلّ أشكاله، فقال صلى الله عليه وسلّم: "إنّ الله طيّب يحبّ الطيّب، نظيفٌ يحبّ النظافة، فنظّفوا أفنيتكم وساحاتكم.."، ومنع انتقال العدوى مهما كانت، فقال صلى الله عليه وسلّم: "إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا.
3- فرَض الثقافة الصّحية وتغيير العادات السّيئة:
فقد فرض هذا الوباء عولمةً صحيّة، وأكّد على العودة إلى العناية بتقوية جهاز المناعة الذاتية، وخاصة أمام حالة الصّدمة نتيجة إفراط الإنسان المعاصر في الثقافة الاستهلاكية والاتكالية المتفاقمة، وهو ما يعني إعادة هندسة العقل البشري في مواجهة العادات السيّئة والتصرّفات غير الصحيّة والسّلوكات غير الحضارية، مثل: التوتر العصبي، والنظام الغذائي السيء، وقلّة النوم، وأسباب السّمنة، وعدم ممارسة الرياضة، وضعف الاهتمام بالنظافة، والإدمان على الأدوية، والتعرّ ض للمواد الكيمياوية، وتعاطي التدخين والكحول، والبخل على الجسم بالماء.
- عودة الإنسان إلى الأهل: بإعادة الترابط العائلي وأهمية الدّفء الأسري، بعد أن كاد صخب الحياة وطغيان التقنية واللّهث وراء المادة والجري خلف المتعة أن يقضي عليها.
وأمّا على المستوى الاستراتيجي الدولي فقد كان من نتائج هذه الحرب العالمية البيولوجية الصامتة:
1. فضح هشاشة العولمة والعصف بأساساتها، وتعزيز فكرة الانتماء والدولة الوطنية والنزعة القومية بما فرضه هذا الوباء من العزلة الذاتية للدول، وهو ما يُعدّ إسقاطًا إجباريًّا للعولمة، التي تغوّلت على الحدود الجغرافية والقيمية للشعوب، واغتالت الحكمة والأخلاق الإنسانية، وقتلت مشاعر العقلانية في العلاقات.
2. التغيير الجذري في المنظومة الدولية بولادة عالمٍ جديد، وتغيير مركز الهيمنة وخارطة القوة ومحور العولمة من الغرب إلى الشرق، وإعادة تشكيل هيكلٍ جديد للقوى والتحالفات الدولية. فقد كشف هذا الوباء عن زيف تلك الهالة التي أحاطت بالدول الغربية: أمريكا وأوروبا المرتجفة، والتي أُخِذت على حين غِرّة، وبدأت أسطورة التقدّم الغربي في التآكل. وبالمقابل فقد أثبت صلابة وصعود الصين وبعض الدول الآسيوية سياسيًّا وتقنيًّا وطبيًّا، وهو ما سيفقد أمريكا زعامة العالم، بعدما فشلت في اختبار القيادة وواجبات الزّعامة في تعاطيها مع هذه الأزمة، وأنّ التاريخ سيكتبه المنتصرون على كورونا ممن كسبوا العقول والقلوب في هذه الحرب البيولوجية، في إطار الصّراع من أجل المستقبل.