في يوم 11 يوليو( تموز) جويلية 1995؛ العالم أجمع يتابع بصمت مطبقٍ فصول إحدى أبشع المجازر التي ترتكب في التاريخ باعتراف منظمات حقوق الإنسان وبالإجماع، بأنها أسوأ مذبحة تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر يتعلّق بمذبحة سربرنيتشا بالبوسنة والتي راح ضحيتها أزيد من 8 آلاف مسلم في مجزرة واحدة فقط، بجانب المذابح الأخرى التي تعرضها لها البوسنيون.
السفاح ومجرم الحرب قائد القوات الصربية راتكو ملاديتش الملقب بدراكولا البلقان، كان المسؤول الأوّل عن تنفيذ هذه المجزرة بأمرٍ من زعيم صرب البوسنة السفاح رادوفان كاراديتش، وبمباركة الراعي الأول للحرب ضد مسلمي البلقان السفاح الراحل ورئيس يوغوسلافيا آنذاك سلوبودان ميلوسيفيتش.
مجزرة سربرينتشا.. جريمة تُلطخ تاريخ أوروبا الحديث
مجزرة سربرينيتشا قتل فيها أكثر من ثمانية آلاف قتيل من مسلمي البوسنة (الأوروبية- أرشيف)
وكانت مدينة سربرنيتشا (شرق) تشكل أحد أهم المناطق التي يوجد بها مسلمو الجمهورية، فضلًا عن كونها على رأس المدن المستهدفة من الصرب وخاصة بعد التغلغل الصربي في شرق البوسنة 1992، ومن ثم لم يجد الصربيون حرجًا في محاولة السيطرة عليها أيًا كانت الخسائر.
ولفهم سياقات حدوث تلك المجزرة نرجع قليلًا بعجلة التاريخ إلى الوراء، فسنة 1990 شهدت تفكك الاتحاد اليوغسلافي متأثرًا بسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الشرقي، فبرزت تطلعاتٌ استقلالية للشعوب المكونة للفيدرالية بعد عقود من الهيمنة الصربية في إطارِ الاتحاد الذي أسسه الجنرال جوزيف بروز تيتو عام 1941.
وقبل نهاية عام 1990 أعلنت كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما ردًا على خططٍ صربيةٍ لضمّ جميع أقاليم الدولة في كونفدرالية واحدة يكون لبلغراد النصيب الأكبر من السلطة فيها، وهو ما حفّز العرقيات الأخرى للمطالبة بالاستقلال وإقامة كياناتها السياسية الخاصة بها، وهكذا أعلنت كل من مقدونيا والبوسنة والهرسك استقلالهما.
عُقد الاستفتاء على استقلال البوسنة عن صربيا يوميْ 29 فبراير (شباط)، والأول من مارس (آذار) عام 1992، واستجابت الغالبية العظمى من الصرب لدعوة المقاطعة التي أصدرها زعيمهم رادوفان كاراديتش.
شارك ثُلثا الناخبين البوسنيين في التصويت (الكل سوى الصرب)، وجاءت النتيجة نعم باكتساح.
أعلن عزت بيجوفيتش استقلال بلاده في الثالث من مارس من العام نفسه، لكن لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية بهذا الاستقلال إلا يوم السابع من أبريل (نيسان) 1991.
وقفت صربيا بقوةٍ في وجه استقلال البوسنة والهرسك بشدة متحججةً بتخوفها على صرب البوسنة الذين يُشكلون مكونًا في الإقليم ذي الأغلبية المسلمة.ليعمل صرب البوسنة وكرواتيا على قطع مسار الاستقلال، بدعم مباشرٍ من سلطات بلغراد، ليفسح المجال إلى البنادق لإصدار قرار الإستقلال من عدمه.
في الخامس من أبريل(نيسان) عام 1992؛ خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع العاصمة البوسنية سراييفو، للمطالبة بإحلال السلام، ورافضين مخطط تقسيم البوسنة والهرسك، حاول المتظاهرون اجتياح فندق الهوليداي إن، حيث مقر زعيم صرب البوسنة الراديكالي رادوفان كاراديتش، فأطلق قنّاصته النار على المتظاهرين.
تدخلت قوات الشرطة التي تأتمر بأوامر الرئيس علي عزّت بيجوفيتش، واقتحمت الفندق، وألقت القبض على بعض هؤلاء القناصة، بينما فرّ كاراديتش إلى التلال المحيطة بسراييفو، حيث مواقع ميليشيات صرب البوسنة، وأعطى أوامره ببدء القصف العشوائي على العاصمة.
وأمام هذا الواقع؛ شنت المليشيات الصربية في أبريل(نيسان) 1992 أوّل حملةٍ عسكرية قصد السيطرة على البوسنة والهرسك، مركزةً على المناطق الحدودية، كما كان لمدينة سربرنيتشا نصيبٌ من الحملة حتى أوشكت على السقوط في يد الميليشيات الصربية التي تدعمت بمدنيين صرب قاموا بنهب المدن البوسنية الحدودية وإغتصاب البوسنيات بوحشية، لتنتهي الحملة العسكرية تلك بإطباق الحصار على مدينة سربرنيتشا.
من جهةٍ أخرى أعلنت الأمم المتحدة في أبريل( نيسان) عام 1993 أن مدينة سربرنيتشا البوسنية منطقة آمنة تحت حمايتها وأرسلت القوات الهولندية التي كان عددها نحو 400 عنصر إلى المدينة لحمايتها، وفي مقابل ذلك فرضت الأمم المتحدة على المقاتلين البوسنيين الذين كانوا يحمون المدينة من المد الصربي نزع السلاح وتسليمه.
في مارس 1995 أصدر الزعيم الصربي رادوفان كراديتش قرارًا بتطويق مدينة سربرنيتشا من أجل الضغط على الشعب للخروج من المدينة لإحكام السيطرة عليها بعدما أعلنت استقلالها، وبات مسلموها العائق الوحيد أمام الصرب لإعادة تشكيل ما تبقى من الاتحاد اليوغسلافي.
حملات التطهير العرقي الممنهجة ضد المسلمين البوسنيين
وعلى مرأى ومسمع من الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الأممية التي طلبت قبل ليلةٍ من موعد المجزرة من البوسنيين المسلمين تسليم أسلحتهم مقابل ضمان أمن البلدة، دخلت في 11 من يوليو (تموز) جويلية 1995؛ القوات الصربية بقيادة راتكو ملاديتش البلدة ذات الأغلبية المسلمة.
فور دخول الصرب المدينة شنوا عمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد المسلمين البوسنيين المعروفين باسم "البوشناق" قامت الميليشيات الصربية بعزل الذكور بين 14 و 50 عامًا عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تمت تصفية كل الذكور بين 14 و 50 عامًا ودفنهم في مقابر جماعية بمحيط البلدة، كما تمت عمليات اغتصاب جماعية ممنهجة ضد المسلمات، قاصرات أو بالغات ولم تسلم حتى العجائز.
وفي 14 يوليو(تموز) قام الجيش الصربي بمعية ميليشياته بإعدام ما بين 4000 و5000 شخص في عمليات تصفية ممنهجة ومنظمة، وفق تقديرات المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا، في حين قُتل 4000 آخرين خلال اقتحام القوات الصربية للمدينة.
اعتبرت المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا مجزرة سربرينيتشا "إبادة عرقية"، لكنَّها رفضت عام 2006 تحميل المسؤولية للدولة الصربية مكتفية باتهامها بالتراخي في منع الإبادة.
وفي المقابل، أدانت المحكمة زعيميْ صرب البوسنة رادوفان كراديتش ورَاتكو ملاديتش بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
وكانت مدينة سربرنيتشا (شرق) تشكل أحد أهم المناطق التي يوجد بها مسلمو الجمهورية، فضلًا عن كونها على رأس المدن المستهدفة من الصرب وخاصة بعد التغلغل الصربي في شرق البوسنة 1992، ومن ثم لم يجد الصربيون حرجًا في محاولة السيطرة عليها أيًا كانت الخسائر.