ولدتُ مسلمًا من عائلة مسلمة، كنتُ مؤمنًا تمامًا أننا على الدين الحق، إيمانًا فطريًا ولم أكن لأسمح لنفسي ابدًا بالتشكيك في هذا الأمر، ببساطة..كانت فطرتي تتماشى مع هذا الدين، تربيت على أنّ هذا الدين له أعداء؛ الشيطان وأعوانه من الصهاينة المحتلين.
وبرغم الاختلافات التي وجدتها في أطياف المجتمع الإسلامي، إلا أن "القضية الفلسطينية" كانت هي القضية الوحيدة التي أجمعت عليها الأمة -على الأقل في الخيال الذي عشته-فأحببتُ القضية حبًا شديدًا، ليس لأني أعرف ما هو الأقصى أو أين تكمن أهميته، فقد كانت ثقافتي الدينية ضعيفة جدا، وإنما لأني كرهت الظلم وعشقت توحد الأمة. كنت أتساءل دائما: أيُقتل ولد صغير في حضن أبيه ويُبث لنا مباشرةً عبر التلفاز ولا نسمع من مجيب!! ونكتفي ببعض الإجابات السرية المنفردة ونعتقد أنها الحل؟! كان ذلك ألماً يقطر له القلب.
اليمن بلدي الحبيب وعالمي الجميل، من كان سكانها في عالمي ثلة من المسلمين والغيورين على هذا الدين، كيف لا وقد كانت أغلب نقاشاتهم ومهرجاناتهم وتبرعاتهم دعما للقضية الفلسطينية.. حلي نسائنا تشتري السلاح لفلسطين، ودماء شبابنا تسقي لواء فلسطين، صرخات شيوخنا تردد "يا فلسطين"، كيف لا ونحن يمن المدد..! كيف لا نكون مددا؟! لمن تربطنا بهم رابطة مقدسة..
تفوق رابطة الدم .. رابطة (أمة حنيفة مسلمة).
آمنت بالمسلم وبأخلاقه، ولم أتخيل أن المسلم يملك الاختيار في عمل المعاصي، كنت أعتقد أننا أشبه بالملائكة، لا نعصي الله ما أمر! فالمسلم لا يكذب ولا يظلم ولا يسرق ولا ينتهك حرمة النفس العظيمة، ألسنا جميعا مسلمون!
وجاء "الربيع العربي"، بوركتَ من ربيع، كنتَ ولا زلتَ وستظل شُعلة ثورية لهذه الأمة.. حين وصلتْ نسماته لموطني علا الصوت "الشعب يريد اسقاط النظام"، فكشف الظلم المتوغل منذ زمن.. عن أنيابه، نعم.. إنه لم يكن وليد اللحظة، وهنا.. توالت الأسئلة.. وأوشكت كل المسلمات التي عشت بها.. أن تتحول إلى سراب كيف يوجد الظلم في نظام أُنزل علينا من السماء من عند خالق هذا الكون! أيعقل أن يكون الخلل في هذا النظام؟
كيف يعقل ذلك!؟ والدستور ينطق في أول ثلاث مواد بالتالي:
- المادة (1) الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، وهي وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها، والشعب اليمني جزء من الأمة العربية والإسلامية.
- المادة (2) الإسلام دين الدولة، واللغـة العربيـة لغتها الرسميـة.
- المادة (3) الشريعـة الإسلاميـة مصـدر جميـع التشريعات.
مستحيل!! هذا نظام إلهي لا توجد فيه أخطاء! أهم البشر إذا؟! كيف تراق الدماء! ألم نتعلم في مهدنا "أن هدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون من قتل نفس مسلمة"؟! كيف يوجد الظلم في نظام بُني على المنهج الإسلامي الذي أنزله الله لنا عبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم…. وورثناه نحن!
هنالك خلل...خللٌ لا أستطيع أن أغُضَّ الطرف عنه.
وفي خضم هذا الصراع الجذري.. تسارعت الأحداث في بلدي، وأجبرت على الرحيل، وانتهى بي المطاف في القُسْطَنْطِيْنِيَّة اسطنبول سابع أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان.
دخلتُ عالمًا جديدًا اسمه "تركيا"، عقول جديدة، أفكار جديدة، جنسيات متعددة، ديانات مختلفة، وأشخاص بلا ديانات، قابلتُ الملحدين واستمعت لهم وتفاجأت بجُرأتهم في الحديث عن أشياء كنت لا أسمح لنفسي بمُجرد التفكير بها!
قناعات غريبة دفعتني إلى طرح أسئلة عميقة، أجوبتها تُحتّم علي الغوص عميقًا.. بالطبع لم تكن ببساطة الأسئلة التي أتذكرها من امتحانات مادة التربية الإسلامية في مدرستي، هذه المرة الأسئلة أصعب، وتُهدد بداخلي أُسس هذا الدين الجميل الذي أحببته، وتهدد أهم شيء في معتقداتي وهو وجود رب لهذا الكون.
أضف إلى ذلك الحملة الإعلامية التي شكّكت بكتب "صحيح البخاري" الذي كنت أعرف أنه أصحُّ كتاب بعد كتاب الله..أحسستُ بفجوة كبيرة في عقلي وبخوف شديد وقلق من انهيار كُل ما آمنتُ به واعتقدته.
عندها فقط أيقنتُ أنَّ العقل هو مخرجي الوحيد لمعرفة الحقيقة، العقل الذي نتميّز به عن باقي المخلوقات، العقل الذي بنى حضارات متقدمة، العقل الذي استطاع تنظيم 15 مليون نسمة في مدينةٍ واحدة "اسطنبول"، العقل الذي استخدمه أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم ليعرف ربه.
عزمت على إيجاد الحقيقة، وقلبي موقن بأن الحق لا بد له أن يظهر، فأمرتُ عقلي أن يُفعّل عقله
وهنا ابتدت رحلة الإنطلاق من الجهل، إلى العلم، وتستمرُّ الحكاية..