الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين.
بعد المحن تأتي المنح، قاعدة من القواعد الذهبية التي يمكن استفادتها من قصة يوسف عليه السلام. فمما هو معلوم أن حياة نبي الله الصديق كانت مليئة بالمحن، ومنها محنة رميه في غيابات الجب. قال تعالى "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" [يوسف، 15]. وتوالت بعدها محن أخرى بدءا من بيعه إلى عزيز مصر بدراهم معدودة "وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِين" [يوسف، 20]، مرورا بما أقدمت عليه امرأة العزيز من العمل القبيح المتمثل في حدث المراودة" وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" [يوسف، 23] وانتهاء بالظلم الكبير الذي لحق يوسف عليه السلام والمتمثل في إدخاله السجن "ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِين" [يوسف، 35].
وبعد المحن السالفة الذكر التي تعرض لها يوسف عليه، يمن عليه الله عز وجل بعظيم فضله بأن مكن له في الأرض حيث صار مسؤولا ساميا، بلغة عصرنا، قائما على ميزانية دولة آنذاك. يقول تعالى في تأكيد هذه الحقيقة والمنة التي شملت نبي الله يوسف عليه السلام: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ". [يوسف].
وجدير بالذكر أن الإنسان المؤمن تتوق نفسه لبلوغ ما بلغه نبي الله يوسف من المكانة العلية عند الله وعند الناس، وكل ذلك من الأمور المحمودة شرعا وعقلا، إذ الطباع السلمية تكاد تتفق على ذلك المبتغى، ولما كان الأمر كذلك من وجود رغبة المسلم في الوصول أو مقاربة الوصول إلى مقام يوسف الصديق عليه السلام، كان من الضروري أن يتحقق كل فرد مسلم بمجموعة من القيم، يمكن اعتبارها شروطا في سبيل إدراك درجة التمكين التي أنعم الله تعالى بها على نبي الله يوسف، ومن ذلك ما يلي: (للأمانة العلمية، فهذه الأفكار التي ستعرض جزء منها مرجعه وثيقة "القيم المتضمنة في السور المؤطرة لمداخل منهاج مادة التربية الإسلامية" وهي عبارة عن عمل مشترك قام بإعداده أساتذة مادة التربية الإسلامية مديرية ورزازات بإشراف الدكتور حميد الصغير)
- العلم: فلا سبيل للتمكين بالجهل بمختلف تجلياته. وفي هذا الصدد نطالع عددا من الآيات التي أشارت إلى هذا الشرط منها قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ" [يوسف، 6]. وقوله عز وجل "ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ" [يوسف، 37].
- الإحسان: بما هو اتصاف بالعبودية لله تعالى، فهو من الطرائق التي تسلك بصاحبها إلى المنزلة العليا عند ربه. قال تعالى: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" [يوسف، 14].
- الوفاء: ويظهر جليا في قوله تعالى "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" [يوسف، 23].
- الإخلاص: بما هو تخليص القلب من شائبة الشوب المكدر لصفاته، وقد عبر عنه في قوله تعالى "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" [يوسف، 24].
- الصدق: ومما اتصف به عليه السلام صدقه الذي عرف عنه. قال تعالى: "قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي" [يوسف، 26] وقال جل شأنه "قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ" [يوسف، 51].
- الاعتصام بالله تعالى عند كل محنة وشدة تحل بالإنسان المسلم، ألم تر إلى يوسف عليه السلام كيف لجأ إلى ربه عندما ضاقت به السبل مما أحاط به من كيد امرأة العزيز ونسوة المدينة؟ قال تعالى: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" [يوسف، 33].
- التوحيد: وهو رأس الأمر كله. قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ" [يوسف، 38].
- الشكر: فمن واجب المؤمن تجاه ربه شكره على أنعمه حتى يتفضل على الشاكر بالزيادة. وقد جاء في قوله تعالى: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ" [يوسف، 38].
- التفكر والتأمل وإعمال العقل الذي أنعم الله به على المرء. فمتى كان التفكر كان معه التمكين، وليس كل تفكر يوصل إلى منزلة يوسف عليه السلام، وإن كان الإنسان يتوهم المماثلة بين ما قد يدركه من منزلة دنيوية زائلة يحسبها مثل منزلة يوسف عليه السلام. فهذا الصديق عليه السلام يصرح بأن أجر الأخرة خير مما بلغه من التمكين، فكأنما لسان حاله يقول إن متاع الدنيا ليس هو التمكين على وجه الحقيقة، بل الفوز كل الفوز هو نيل الثواب في الآخرة الباقية. وقد حكى الله تعالى عن التفكر فقال: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" [يوسف، 39].
- العفة: وهي مفهومة من قوله تعالى "قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ" [يوسف، 51].
ختاما، تلك عشرة شروط، يمكن القول إنها تمثلها يحقق للإنسان المؤمن منازل الأنبياء بدليل قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" وقوله تعالى "نجزي" جاء مضارعا مؤكدا لهذه الحقيقة. ذلك أننا نفهم منه أن الجزاء يبقى مستمرا في حق كل محسن مادامت السماوات والأرض.