تقرؤون في هذا المقال تفريغ محاضرة (من ملامح التجديد الفكري عند مالك بن نبي) والتي قدمها د. حُذيفة عكاش يوم الخميس 17 أغسطس 2020م / الموافق 28 من ذي الحجة 1144هـ ضمن فعاليات الندوة الافتراضية لمالك بن نبي والتي بثتها صفحة مدونات عمران بالتعاون مع مؤسسة مالك بن نبي للأبحاث وقناة الأنيس الفضائية.
انشغل المفكر مالك بن نبي بالفكر والحضارة، خاصة والوقت الذي جاء فيه كان وقت المستَعمِر ومُعظم الدول العربية كانت مُستَعمَرة، لذا الفكرالذي جاء به كان يُعتبر جديدًا تمامًا، يُحدثنا الدكتور حُذيفة عكاش عن هذه الملامح التجديدية عند مالك بن نبي..
«سأعود بعد 30 سنة».. صفاته التي جعلته مدرسة!
سأتكلم بداية عن صفات هذا الرجل، من صفاته رحمه الله تعالى الإيمان، وكل من ترجم له وذكرياته المكتوبة تتكلم عن الإيمان الذي يتصف به هذا الرجل، إيمانه العميق بالإسلام ودفاعه عن الإسلام كقيمة حضارية وكمكون حضاري ودافع للحضارة، الفكرة المركزية التي يتكلم عنها بن نبي رحمه الله تعالى والقوة الدافعة للحضارة عندنا يعتبرها هي الإسلام وعند غيرنا قد تكون أديان أخرى وأفكار أخرى ولكن في الحضارة الإسلامية القيمة الدافعة هي الإسلام.
الصفة الثانية التي أُريد الحديث عنها هي الإستقامة فالرجل كما قرأنا وسمعنا عنه رجُل مُستقيم السيرة، واستقامته تتجسد بشيئين بسلوكه الشخصي بنظافته الشخصية بترتيبه بهندامه، إبنته لها مقطع رائع عى اليوتيوب تتكلم فيه عن والدها رحمه الله تعالى تقول: "لم أستيقظ يومًا ليلًا إلا ووجدت الوالد حريصًا على قيام الليل"، ثانيًا تظهر هذه الاستقامة بتنظيره فيتكلم عن الغريزة وعن الجمال وكيف أننا بالإسلام نجد الجمال تحت الأخلاق بينما في الحضارة الغربية ربما نجد أن الجمال يتفوق على الأخلاق ويستطرد بهذه المعاني كثيرًا.
الصفة الثالثة التي أُريد التنويه عنها هي صفة الرحمة فالرجل يروي حتى في مذكراته أنه حتى مع المُخالف كان رحيمًا، ففي مرة من المرات شاهد جنود المستعمر ينسحبون فالمشهد أثر فيه لدرجة أنه استعبر أو بكى فيقول: أنا أنكرت نفسي، يعني كيف أتفاعل وأشعر بالعطف والرحمة لهؤلاء، لأنه إنسان بالنهاية فقيمة الرحمة عنده موجودة.
ومن صفاته الوفاء حيث يذكر في مذكراته أن أحد أصدقائه كان معه في القاهرة وأراد أن يُسافر فأبى أن يُودعه في القاهرة وإنما ذهب معه إلى البحر الإسكندرية تقريبًا فودعه عند الباخرة، فالرجل صاحب شيم.
ومن صفاته الواضحة العقلانية والمقاصدية في فهم الدين، تروي عنه إبنته أنه في مرة من المرات كان في الحج ولم يُزاحم الناس لرجم إبليس ويبدو أنه كان يرجم من بعيد وكان معروف خلال تلك السنوات قبل هذه التوسعات في الحرم الشريف أنه يموت سنويًا العديد من المُسلمين في ذلك الزحام، فسأله صديقه لماذا لا تقترب فقال: لا أريد موتًا غبيًا، ففهمه للدين فهم مقاصد فالبعض ربما يزاحم وربما يؤذي أخاه من أجل أن يُطبق نسك من المناسك وربما يدوس على أخيه بقصدً أو بغير قصد، فالرجل عنده هذا الحس المقاصدي والعقلاني في فهم الدين وهذا ما ينقصنا في عصرنا.
من صفاته رحمه الله أنه يُمثل مثال رائع للمُثقف الفاعل وبتعبير أنطونيو غرامشي الماركسي الإيطالي المثقف العضوي هو الملتحم مع مجتمعه وقضاياه والذي يؤلمه ما يؤلم هذا المجتمع ويعيش آلام وآمال فهو مثال رائع لهذا الأمر.
من صفات مالك رحمه الله تعالى أنه يُعالج جذور المشكلة ولا يقف عند الأوراق، فكثيرون يأتون إلى الأوراق الصفراء يُلمعونها ويتركون الجذور، ما لم تُعالج الجذور لن تخضر الأوراق.
فهذه من مزايا مالك بن نبي رحنه الله تعالى ولذلك دائمًا يُركز على موضوع الثقافة، موضوع الأفكار، وموضوع ثقافة الإبداع، ودائما يركز أن الحضارة لا يُمكن أن تتكون من منتجات الحضارة، فاستيراد هذه الآليات والبرمجيات وحتى النظم استيرادها من الغرب دون إرادة ودون معرفة لما نريد لا تكفي مالم نعرف الهدف من هذه الآليات.
ومن صفاته رحمه الله تعالى أنك تعرفه من ثماره، فمالك بن نبي رحمه الله الذي لفت نظري أن المفكرون والعلماء الذيت تأثروا بمالك بن نبي تجد عندهم فكرًا واقعيًا فكرًا عمليًا فكرًا فعالًا فلو سألتهم بمن تأثرت يقولون لك مالك بن نبي رحمه الله، فكما ورد عنه تقول إحدى بناته أنه كان يقول: سوف أعود بعد ثلاثين سنة وهذه من مآسيه رحمه الله تعالى أنه يتعرض للإضطهاد وسأذكر هذا.
الصفة الأخرى التي أريد التنويه لها أن فكره سابق لزمانه وآن لنا أن نستفيد من مدرسة هذا الرجل العملاق، جربنا الأفكار المؤدلجة المعلبة الأفكار الجاهزة جربناها كلها آن لنا أن نعرف قيمة هذا الرجل وأن نثق بتشخيصه لأمراضنا فالذين شخصوا أمراض هذه الأمة كثيرون ومنهم مالك بن نبي رحمه الله تعالى، آن لنا أن نجرب تشخيصه وعلاجه الذي وصفه لنا.
«كذرة وحيدة تُقاوم قوى عملاقة»
لا كرامة لنبي في قومه، لكن الحمد لله الجزائريون حطموا هذه القاعدة وأعادوا الإهتمام بهذا الفيلسوف الكبير ونحن الآن في ندوة في الجزائر.
حتى مالك بن نبي رحمه الله تعالى كان يقول: "أشعر أني كذرة وحيدة تُقاوم قوى عملاقة"، فالرجل وقف في وجه الإستعمار وفي وجه الجمود، وعندنا أفكار جامدة وقف في وجهها رحمه الله تعالى.
ومن صفاته أيضًا أنه المسلم المعاصر، بمعنى أنه يرتبط بالهوية والدين وثقافة هذا المجتمع، أما المعاصر أقصد بها اختلاطه بالغرب واستفادته من المدرسة الغربية، وهذا يذكره الرجل فقد كان رجلًا منصفًا وذكر تأثره حتى بالمعلمين الذين كانوا يعلمونه في الجزائر، فيوجد معلم فرنسي كان يعلمه فقال: "استفدت منه العقلية الديكارتية النقدية وهذه العقلية كانت تبدد عندي العقلية الأسطورية التي كانت تتعاطف مع الخرافات المنتشرة في الجزائر في وقتها، وأنا انتميت في فترة من حياتي إلى طائفة صوفية تعود جذورها إلى الجزائر وقرأت بأدبيات هذه المدرسة الصوفية، وفي ذلك الوقت كانت جميع المدارس الصوفية حول العالم تحمل نفس الطابع كأنها نسخ عن بعضها نفس الجمود نفس البدع نفس الخرافات".
قد أشار مالك بن نبي إلى هذه النقطة وقد انفصل رحمه الله عن هذا الواقع التقليدي الجامد ودائمًا يُشيد بالمدرسة الإصلاحية مدرسة محمد عبده ومدرسة ابن باديس ودائمًا يُشيد بالأفغاني رحمه الله تعالى حتى أنه يقول: "ظهر الأفغاني ليوقظ الأمة لنهضة جديدة وعصر جديد"، فكان يحن لهذه المدرسة.
أيضًا من صفات مالك بن نبي أنه امتداد لمدرسة بن خلدون رحمه الله تعالى، فكلاهما انطلق من علم الإجتماع فأغلب الإسلاميين انطلقوا من النصوص ومن التصور المثالي للدولة التي يتخيلونها ويريدون صياغة الواقع من هذه الناحية المثالية التي تصوروها بأذهانهم، بينما مالك بن نبي أتى من السنن الكونية ومن واقع المسلمين وأراد النهوض بهم، مالك بن نبي يمثل مذهبًا فكريا خاصًا فكما يقول الدكتور عبد الكريم بكار أنّ مالك بن نبي شق طريقًا خاصًا.
من أهم ملامح مدرسة مالك نبي رحمه الله تعالى وهي عالجت عندنا مثلي ومثل الكثير من الشباب أننا تأثرنا بالحركة الإسلامية والأدبيات الإسلامية، ولكن هنالك مُشكلة تجسدت بالخلاف الفكري بين مالك بن نبي وسيد قطب بتعريف الحضارة فالقصة معروفة وشهيرة ولكن أذكرها لأنه ينبغي أن نستحضرها جميعا لأنها تُريحنا جميعًا بالحكم على الأفكار.
وهي أن سيد قطب رحمه الله تعالى ألف كتاب عنوانه نحو مجتمع إسلامي متحضر فبعدها فكر وغير العنوان وسماه نحو مجتمع إسلامي وذكر بالمقدمة أنني حذفت كلمة متحضر لأنني أعتبر بأن الإسلام بنفسه حضارة فلا داعي لإضافة كلمة متحضر، طبعًا هذا الكلام نحن كمسلمين يعجبنا فهو كلام جميل لكن لو دققنا فيه لوجدنا أنه مجرد كلام ولا يخرج عن كونه كلاما عاطفيا وهذا هو مكمن الخلاف.
وفعلًا بعد تفكير وتأمل نجد أن مذهب مالك بن نبي هو الأرجح، يقول رحمه الله تعالى بالمعنى وليس بالحرف، يمكن أن يكون المجتمع متخلفًا ومتدينًا ويمكن أن يكون المجتمع متحضرًا وغير متدين ولكن ليس هناك ارتباط بين التدين وبين الحضارة.
وهذا واقعنا يوجد دول مُتدينة يغلب عليها التدين ولكنها متخلفة وكذلك يوجد دول مُتَحضرة ولكنها ليست مُتدينة وغير مسلمة فليست الحضارة تُساوي الإسلام، فإن هذا مصطلح خاص وليس عام حسب تعريف الحضارة، وهذا أمر مهم جدًا لأن بعض أو أكثر الحركات الإسلامية همها في تدين المجتمع، هذا أمر جميل ورائع ولكن الإكتفاء بهذا الأمر لا يجدي، حتى بعض الإسلاميين يدخل إلى البرلمانات ويدخل إلى الحكومات وهمه فقط تطبيق الشريعة الإسلامية بمعنى الحدود وبعض القوانين، ولا يوجد عندهم مشروع نهضوي، مشروع تنموي، مشروع يُنقذ الإنسان.
أعتقد أن المشكلة هنا، في الخلط بين الإسلام والمسلمين وبين الدين والإنسان، هناك مهام لا يقوم بها إلا الإنسان، هناك مهام لا يقوم بها إلا المسلمون، الدين إرشادات هدايات تعليمات.
التخلف والفاعلية.. «من شركِ القُبور إلى شرك الصناديق»
وهنا نقطة الإختلاف، ملاحظة دقيقة لا ينتبه الكثيرون إليها فقد أكون أنا مسلما ملتزما بكل تعاليم الإسلام وأحوالي عادية وضيقة جدًا، صحيح أن الإسلام يشجع فالمؤمن القوي خير من الضعيف ولكن في كل خير، فالإسلام يحثك على أن تكون شجاعًا وقويًا وأن تتوسع لكن لو لم تفعل فإن الإسلام لا يقول لك هذا حرام.
لكن مدرسة مالك بن نبي تقول مشكلة المسلمين ليست بتطبيق الشريعة فقط فمشكلة المسلمين تكمن في التخلف الذي يعيشونه وهنا الفرق بين الحركات الإسلامية وبين مالك بن نبي رحمه الله تعالى.
هناك حركات إسلامية إستفادت من الأستاذ مالك بن نبي مثل الأستاذ راشد الغنوشي عندما قال نحن في النهضة إنتهينا من سؤال الهوية والآن ننتقل إلى سؤال النهضة، فقد إنتهينا من موضوع الهوية وحسمناه فهل ليس عندنا إسلاميين إلا مشروع الهوية والحفاظ على الإسلام فقط هذا هو مشروعنا؟ أم عندنا مشروع حضاري نهضوي وتنموي؟ وأعتقد أن هذا الموضوع هو أهم فكرة جاء بها مالك بن نبي رحمه الله تعالى.
مالك بن نبي أيضا جاء بتمييز بين الإتكالية والإعتمادية وجاء بنقد هذه الفكرة إلى الفاعلية، فنقد الإعتمادية والإتكالية حتى على السياسيين، وعنده عبارات رائعة يقول: نحن انتهينا من شرك القبور –ويقصد التصوف الخرافي – وانتقلنا إلى شرك الصناديق– يقصد أن المسلمين كانوا يستنجدون بالقبور لتنقذهم من واقعهم وشرك الصناديق بمعنى إنتظار الإنجازات من الحكومات التي سينتخبونها – وهنا مالك بن نبي دائمًا يركز على الفاعلية.
كل واحد منا على ثغرة من ثغور الإسلام، الطبيب في عيادته، العامل في معمله، المعلم في مدرسته، المخترع في مخبره وهكذا، فجاء بمفهوم جميل جدًا للحضارة بدل نختزل مشروعنا كله للعبادات جاء وقال أنت في عبادة أنت في خدمة الأمة.
عندما تكون في مزرعتك حتى الراعي جاء به في مثال رائع يقول: يوجد مدارس في فرنسا لتدريب الرعاة، وإذا أردت أن تعرف الفرق قارن بين الراعي الفرنسي الذي تخرج من هذه المدرسة ورعاة ديارنا، فهذا من إبداعات مالك بن نبي رحمه الله تعالى من الإتكالية إلى الفاعلية. إذًا اخواني الشأن الحضاري جاء فيه الإسلام بمبادئ مرشدة أما بناء الحضارة فالمسلمون هم من سيقومون بها، الإسلام وحده لن يقوم بها لو تدينا فقط دون إلتفات لهذه المعاني لن نكون حضارة.
من أهم أفكاره رحمه الله تعالى الأفكار الميتة والأفكار المميتة وهذا المصطلح براءة اختراع لمالك بن نبي رحمه الله تعالى، يقصد مالك بن نبي رحمه الله تعالى بالأفكار الميتة أنها هي الأفكار الموجودة عندنا كمسلمين لكنها فقدت صلاحيتها في زماننا، نتيجة التطور هذه الآليات القديمة فقدت فاعليتها في زماننا فعلينا أن نتجاوزها.
ويوجد عندنا بثقافتنا القديمة أفكار ميتة ولو نقلناها إلينا، نفعت في زمانها لن تنفع في زماننا حتى علمائنا الذين أوجدوا هذه الأفكار لو جاءوا لزماننا لقالوا كيف تتمسكون بهذه الأفكار البالية، لو عرفنا أفكاركم الجديدة لما تمسكنا بها.
الأفكار المُميتة يقصد بها مالك بن نبي رحمه الله تعالى هي الأفكار الموجودة عند الآخر والآخر المقصود به غير المسلمسن كحضارة كونية مهيمن عليها وهي الحضارة الغربية ففيها أفكار مُميتة لو نقلناها كما هي، لذلك مالك بن نبي يركز ويقول لا يمكننا استيراد هذه الأفكار كما هي لنضعها في مجتمعاتنا ونطبقها لا نستطيع.
وفعلًا هذه هي النظرة الصحيحة، مشكلتنا في الصراع بين الفكر التراثي والفكر الحداثي، التراثيون يريدون جر الأقوال القديمة ليلبسوها لواقعنا وهذه الأقوال مثل ثوب صغير يُريدون لواقعنا الكبير أن يلبسها وهذا لا يصح، فلا بد من التمحيص الثوابت والأفكار التي ما زالت صالحة لابد أن نأخذها.
لا يوجد أمة عاقلة تتنكر لتراث 1400 سنة ولكن لا يوجد أمة عاقلة تستورد الأفكار القديمة لتطبقها في عصرنا فلو الأفكار القديمة صلحت لما ألف علمائنا أفكارًا جديدة ودائمًا يجددون ويطورون بالفهم الديني وبالعلوم نفس الشئ فالعلوم تتقدم.
الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يقول: طالب الطب للسنة الثانية في أيامنا طبه أوثق من طب ابن سينا، هذا ليس لأن الطالب ذكي أكثر من ابن سينا فابن سينا لو كان في زماننا لكان بروفيسورًا بالطب لكن لن يسمح لأحد بقراءة كتابه القانون، سيؤلف كُتبًا جديدة وموسوعات.
هذه هي الأفكار الميتة والمميتة فليست أفكار التراث كلها للردم وللتخلي وليست كلها صالحة، أيضًا الحضارة الغربية ليست كل أفكارها فاسدة وليست كلها صالحة لزماننا ولمكاننا ولثقافتنا ولهويتنا، حتى أوروبا نفسها لو جئت إليها تجد كل دولة أوروبية لها خصوصيتها لها نموذجها لها بصمتها وهم متقاربون جدًا، فكيف ونحن ننتمي إلى حضارة مختلفة عنهم هل نستطيع أن نستنسخ كل شئ وهل كل أفكارهم رجس من عمل الشيطان أيضًا لا، هذا الموقف الوسط حقيقة موقف صعب يحتاج إلى تمحيص وإلى عمل وإلى اجتهاد وأخذ ما صفى من هنا ومن هناك والإتيان بأفكار جديدة أيضًا.
كيف نُميّز بين المنهج والمُنتج؟
مُلاحظة مُهمة جدًا أحب أن أعممها على كل المفكرين بإطلاق وكل العلماء وهي أنه ينبغي التمييز بين المنهج والمنتج، المنهج غالبًا متعوب عليه فمنهج مالك بن نبي رحمه الله تعالى تنبناه ونأخذ منه كل صالح فلا نريد أن نكون متعصبين أو متحيزين نحوه، نحن نعيب التعصب عند غيره فلا نريد أن نخلق تعصبًا مقابلًا، فنحن ينبغي أن نميز بين منهج مالك بن نبي رحمه الله تعالى وبين منتجه، فماذا نقصد بمنتجه؟
يوجد بعض المبادرات الواقعية السياسية التي طرحها مالك بن نبي، مثلًا فكرة كومونلوث إسلامي، الفكرة الإفريقية الآسيوية، فكرة مجلس الخلافة، موقفه من عبد الناصر رحمه الله تعالى، هذه المبادرات والمشاريع التي أتى بها وغيرها الكثير ربما نتفق أو نختلف مع مالك بن نبي رحمه الله تعالى لكن هذا لا يجعلنا ننسى منهجه الرائع فلا نخلط بين منهجه ومنتجه، قد تختلف بعض المشروعات تجدها حالمة أو خاطئة، لا مشكلة بهذا لكن نحن يهمنا منهج الرجل، أعتقد أن هذا يحل إشكال كبير عند كثير من الإخوة.
من الأفكار الرائعة التي أتى بها مالك بن نبي وهذه أحد معالم مدرسة مالك بن نبي رحمه الله تعالى ومذهبه هي نظرية المؤامرة، هذا الرجل حطم نظرية المؤامرة حطمها تحطيمًا ليس بمعنى أنه غفل عن المؤامرات بالعكس فإنه يذكر في كتبه الخطط التي يفعلها الآخرون، لكن أزال الشماعة التي نضع عليها أخطائنا وإنتكاساتنا وخيباتنا، أزالها وقال: أنتم المسؤولون حتى الإستعمار أنتم السبب لو لم تكونوا قابلين للإستعمار لما استُعمرتم لو لم تكونوا ضعفاء لما استطاع أن يستعمركم أحد، فإذا أردتم أن تتخلصوا من الإستعمار فتخلصوا من أسباب الإستعمار.
الخلافة انهدمت للأسباب الموضوعية التي جعلتها تنهار فلو كانت قوية لاستمرت، وهكذا الرجل قلب العقول بعكس منطق الكثير من الناس الآن، عندنا عقلية تبريرية جبرية نلقي بها اللوم على غيرنا.
عاشق الحضارة «إبحث عن دليل وجودك»
الرجل حث على العمل والمسئولية، فلا يُذكر مالك بن نبي إلا يذكر الإنسان والأفكار والفاعلية ومنظومة الأفكار بمعنى الثقافة بمعنى العلم بمعنى التفكير وضرب مثالًا رائعًا: أنه إذا كان هنالك قبائل بدائية في أدغال افريقيا تم نقلهم إلى منطقة في ألمانيا وجيء بمجموعة ألمانية تم وضعها في أدغال إفريقيا وعدنا بعد زمن لوجدنا أن أدغال إفريقيا قد تحولت إلى قطعة من ألمانيا ولوجدنا القطعة من ألمانيا قد تحولت إلى أدغال إفريقية، فالمعول عليه هو عقل الإنسان وما فيه من ثقافة وفكر وعلم.
أما الأشياء فيقصد بها كل الموارد المادية فهذه من إنتاج الإنسان وليس العكس، وطبعًا المواد الأولية من خلق الله سبحانه وتعالى فالمقصود هي التي دخلتها الصناعات والزراعات وغيرها، طبعًا يذكر وأنه لابد حاصل وأنه لابد أن نقود نحن هذا التغيير بدل أن يقوده غيرنا.
الرجل أريد أن ألخصه بعاشق الحضارة وأنقل له هذا النص والذي يقول فيه: أن الحضارة هي الإحسان في كل شيء، الإحسان بالأفكار، الإحسان بالإختراعات، ويذكر مثلًا في إحدى العبارات الرائعة يقول: ينبغي أن نتألم للصوت المزعج والمنظر المزعج والرائحة المزعجة فهذا وجه الوطن.
فالرجل يفهم الحضارة بمفهومها الواسع الكبير جدًا، فأي شيء يلوث الأرض ويلوث الجمال فهذا ضد الحضارة، فما يسمونه اليوم بالتلوث السمعي هذا مضاد للحضارة. والذي أردت أن أختم به هو عبارة لمالك بن نبي رحمه الله تعالى: إذا أردت تلخيص حياتي منذ سنة 1936 ميلادية أعتقد أن المفهوم الأصلح الذي أراه هو طبيعة الحب، الحب الذي طالما حملته للصور السامية للحياة والتي أوجزها في كلمة الحضارة، دائمًا ما أثر في مشهد الحضارة فإذا لخصتُ حياتي الآن فهي محاولة لتمرير هذه العاطفة إلى من حولي.
من هيام هذا الرجل بالحضارة والفاعلية أنه جاءه مرة رجل وقال له أعطني دليلًا على وجود الله، فقال: الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى دليل فكل شيء يدل عليه أنت إبحث عن دليل على وجودك وأثرك وفاعليتك في هذه الحياة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
ما قصدكم بالقول أننا لو تدينا فقط لا يمكننا صنع الحضارة؟
أضرب مثال بنفسي، تخيل أنني ولدت وتعلمت التعليم الإلزامي الذي تلزمني به الدولة فعندنا في سوريا كان التعليم إلزامي حتى الصف السادس إبتدائي، هل الإسلام يلزمني بالتعليم؟ لا يلزمني وإنما يستحب هذا، أنا متدين لأقصى الدرجات درست التعليم الإلزامي ثم نزلت أعمل مع أحد التجار وكنت أمينًا صادقًا مُلتزمًا بعبادتي كلها وبأخلاقي وبالتعاملات المالية على أتم وجه، هل أنا لو مت يكون تديني ناقصًا؟ أكيد لا إذًا الإسلام لا يُلزمني بأن أكون مشروعا حضاريا ونفس الأمر في المجتمعات لو المجتمع كله تدين وفعل العبادات كلها والتزم بتعاملاته المالية والأسرية وبكل تعاليم الإسلام، فالإسلام وحده لا يلزمه أن يكون مجتمعًا متحضرًا، لدينا أنواع من التدين ولكن أنا أقول الإسلام الصافي هل يأمرنا بالتحضر؟ لا يأمرنا، هل فيه قيم حضارية؟ نعم فيه قيم حضارية لكن التحضر فعل بشري، فنحن كبشر علينا أن نتحضر، لو نحن متنا ولم نتحضر هل سيحاسبنا الله؟ هل سيسألنا الله لماذا لم تقيموا حضارة لن يسألنا، لكن لو أقمنا حضارة هل سنستطيع خدمة الإسلام بشكل أكبر؟ نعم هل نكون قدوة لغيرنا؟ نعم، نحن بتخلفنا هل نصد عن الإسلام؟ نعم نصد عن الإسلام. كما ذكر مالك بن نبي رحمه الله تعالى حيث سأله مرة المذيع وقال له: نريد أن ندعو للإسلام وكذا وكذا، فقال له: أنتم إلتزموا بالإسلام بشكل جيد وليس فقط بالكلام وعندها سيتقدم مجتمعنا ونقول للناس كونوا مثلنا، فنحن الآن مثلما يقول مالك بن نبي وبعده الشيخ محمد الغزالي الحمد لله أن الإسلام ينتشر برغم جهود المسلمين.
ما هو مقياس التقدم والتخلف عند مالك بن نبي؟
هو مثل مقياس كل الناس، الحقيقة يوجد مقاييس ذكرها مالك بن نبي رحمه الله تعالى فيذكر من عوامل تشكل الحضارة في تفكر الإنسان وتأمله من ثلاثة أشياء، أولًا الوجود بالتحدي والإستجابة للخطر الطبيعي فالطبيعة تتحدانا ببعض الأشياء فنطور ممانع لها. ثانيًا الإستقرار فالإنسان يتفكر بعمله للإستقرار والراحة وتلبية إحتياجاته ويذكر مالك رحمه الله مثل بناء المسجد وتطوير المسجد والبيوت وكل المرافق، إذًا وجود ثم إستقرار وبعد ذلك إزدهار فالإنسان بعد ذلك يريد أن يترفه فينتقل بسعيه للتميز والتغوق على أقرانه، وكما يذكرون بالشريعة الإسلامية الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فالضروريات تحفظ الوجود والحاجيات تحفظ الإنسان من التعب والتحسينيات ترفه حياته، هذه عوامل تشكل الحضارة فكيف تأفُل الحضارة عند مالك بن نبي رحمه الله تعالى، تأفل الحضارة عندما تفقد قيمة الإنسان، عندما تفقد التوازن بين المادة والروح والكم والنوع، فهذه بعض معالم أفول الحضارة عند مالك بن نبي رحمه الله تعالى.
كيف نحكم على فكرة قديمة ميتة تصبح مميتة لو طبقناها بما في ذلك أفكار مالك بن نبي نفسه؟
لذلك ذكرت صفة مهمة جدًا وهي لا نكن متعصبين لمالك بن نبي رحمه الله تعالى، فمالك بن نبي لو عاش في زماننا لطور بعض أفكاره لأن المستجدات كبيرة بين السبعينات والآن.
هل للمذهب الفكري الخاص بابن نبي يوفق بين الدين والحضارة كعاملين أساسيين دون عوامل أخرى أم هناك ما يجب أن يضاف إليهما؟
لا شك طبعًا = معادلة مالك بن نبي رحمه الله الإنسان والتراب والوقت زائد الفكرة الحافزة تؤدي إلى الحضارة، فهذه المعادلة شهيرة جدًا لا يذكر مالك بن نبي إلا وتذكر هذه الثلاثية حيث عبر بها عن الحضارة، ويحضرني بهذا مثال عايشته بحياتي كان عندنا مزرعة ليس فيها إلا الأرض والسور فكنا نخرج إليها في موسم الربيع مع جدتي رحمها الله تعالى وجدتي كانت قيادية نوعًا ما فكانت توجهنا لتركيب الخيمة والعديد من الأشياء ضعوا حجارة هناك وخشب هنا وهكذا، بعد أيام نذهب ونكون فعلًا قد أوجدنا ظروف ملائمة أكثر للحياة، فالإنسان حينما يوضع مع موارد ووقت ويفكر كما قلنا بالوجود والإستقرار والإزدهار يبني حضارة.
إسلام أقيس: للتوضيح أكثر حول هذه النقطة نريد أن نشير إلى أن الأستاذ مالك بن نبي في العديد من كتبه: شروط النهضة ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي هذين الكتابين تحديدًا تحدث فيهما مالك بن نبي عن علاقة الإسلام كدين مباشرة بالبناء الحضاري، حتى لا يتصور من طرح الدكتور حذيفة أن الحضارة عند مالك بن نبي منفصلة عن الإسلام، أبدًا مالك بن نبي لما تحدث عن بداية الحضارة الإسلامية قال أن العالم الإسلامي أو العالم قبل الإسلام كان في جاهلية وبعد ذلك بدأت الحضارة الإسلامية.
الشرارة عند مالك بن نبي سماها القرآن وقال بأن شرارة إنطلاق الحضارة الإسلامية هي القرآن فربط مباشرة بين البناء الحضاري وبين القرآن، لكن ما أراد الدكتور حذيفة عكاش والدكتور مالك بن نبي أن يبيناه وما تريد الجهود الفكرية المعاصرة التجديدية أن تبينه هي كالتالي: ليس مجرد كون الإنسان مسلمًا يستلزم بالضرورة أن يكون متحضرًا لكن الإسلام في ذاته في فروعه يدعو بشكل مباشر ويحث على قيم الحضارة.
فالحضارة لا يجب أن نفهمها على أنها كتلة واحدة فهي عبارة عن عملية تركيبية من مجموعة من العناصر، هذه المجموعة عند مالك بن نبي وغيره تنتمي إلى حكم يسمى الحضارة، في الإسلام لدينا حكم آخر تركيبي ويتنهي بنفس الطريقة إلى الحكم، هذا التركيب في الإسلام هو العقيدة مجموعة من العناصر تنتهي إلى مسمى الإيمان ومسمى الإسلام، مالك بن نبي يريد أن يقول أن مركبات صناعة العقيدة حتى يسمى الإنسان مسلمًا ليست هي بالضرورة المركبات التي يطلق عليه بها حكم الحضارة.
فإذا قلنا أن حكم الحضارة هو نفسه حكم العقيدة فمعنى هذا أن الشخص إذا تخلق وإذا لم يكن متحضرًا يرفع عنه إستلزامًا وضرورة حكم الإسلام فيعني أن نكفره وهذا خاطئ وهذا لا يقول به عاقل ولا يقول به أي شخص، هذا ما يريد مالك بن نبي أن يوضحه أن الحضارة لا تستلزم الإيمان والإيمان لا يستلزم، لأننا إذا قلنا هذا فإننا نحكم بالكفر على من لم بتحلى بشروط الحضارة وبالتالي نحكم بالكفر على أنفسنا وعلى الكثير من المسلمين مع الأسف الشديد.
لكن الإسلام في ذاته كقيم عليا كمبادئ كقرآن كسنة يدعو في تفاصيله وفي آحاد تفاصيله إلى ما نقيم به الحضارة وإلى ما تكون نتيجته هي الحضارة، هذه النقطة فقط أردت توضيحها، أختم هذه المداخلة وأعتذر بما بدأت به وهو أن مالك بن نبي يعتبر أن شرارة إنطلاق الحضارة الإسلامية ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بغار حراء وسماها بهذا المصطلح وقال في غار حراء وقال بأن الشرارة التي بعثت التحضر الإسلامي هي القرآن الكريم بهذا المصطلح، حتى لا نفهم أن هنالك انفصالًا عند مالك بن نبي أو عند الدكتور الفاضل أو عند هذه الطروح التجديدية بين الإسلام وبين ما نريد أن نصل إليه من البناء الحضاري وجزاكم الله خيرًا.
لماذا لم تصل أفكار مالك بن نبي إلى حيز التنفيذ للآن؟ هل أفكاره قديمة أم غير قابلة للتنفيذ؟
الحقيقة أن أفكار مالك بن نبي رحمه الله تعالى وصلت وبالعكس فهو من المؤثرين في عصرنا في عالم الفكر، حتى تأثيره لا يقل عن تأثير الحركات الإسلامية، فكثير من المفكرين المعاصرين غرفوا من بحر هذا الرجل وبدأوا يضعون أفكاره ويطورونها.
كيف لنا في العالم الإسلامي أن نُخرج بأمثال مالك بن نبي في العالم الإسلامي؟
الحل هو ما تقومون به الآن، ندوات عن فكر هذا الرجل، طباعة كتب هذا الرجل ذكر ونقل أفكار هذا الرجل وهكذا إحياء ذكره، الإمام الأستاذ نورالدين عتر أستاذ معروف بعلم الحديث كان يقول: ترجموا للعلماء وتكلموا عنهم ويذكر أن الإمام الترمزي كيف كان دائمًا يذكر شيخه البخاري رحمه الله تعالى، فدائمًا ينبغي أن نقرأ لهؤلاء أن نبث فكرهم وأن نطور فكرهم وهذا الأهم، فهو نفسه يقول لك لا تقف عندي فكما أنا طورت أنت طور وشق الطريق وهذا ما فعله كبار المفكرين والمتأثرين بمالك بن نبي رحمه الله تعالى.
مالك بن نبي مات وترك لنا أولاده فلنحسن الإستفادة من أولاده والمقصود بأولاده كتبه فكتب العالم هي أولاده، من تجربتي الخاصة ألفتُ عدة كتب فالمنتج المكتوب هو أفضل ما ينتجه المرء، لأن الإنسان يعطي أفضل أوقاته لوقت الكتابة.