"الخبرة" يغريني هذا المصطلح كثيرًا! ويشعرني دائمًا بالأمن ثم الأمل العميق بتحقيق الحلم، فمن سحائب هذا المصطلح المهيب تستدر المؤسسات على تنوعها والمجتمعات والأوطان مداد الرقي والنمو والتقدم، وبه تؤسس ركائز كيان جيل جديد، قوامه العلم الرصين والمعرفة النافذة والمعلومات المتراكمة، ثم تقديم نماذج زاهية من المشاريع والأفكار والرؤى التي تنير لأوطاننا الحياة وتفتح لها بوابة الإبداع والازدهار.
لكن، مُخطئ من يظن أن الخبرة هي مجرد هرمون بدائي صغير! يُشترى بالثمن الزهيد فيُحقن على عجل في عقول الأفراد؛ لنُنتج بهذه السطحية البريئة العقول الفذة، والقامات العملاقة، والقيادات النادرة، التي تمنح مؤسساتنا أنواعًا فريدة ورائدة من الأفكار والمشاريع، مع إتقان ومهارة عالية في حُسن إدارتها وتنظيمها وتنفيذها.
إنما الأمر مختلف تمامًا، فالخبرة ليست إلا نتاجًا لمسيرة طويلة، طويلة بكل المقاييس، تحفها مجالدة السنين المتعاقبة، وتراكم المعارف النادرة، مع قهر التجارب، ومعاناة الممارسة والتعلم والتمرين.
ولعل من أسوأ الأفكار التي راجت في مجتمعاتنا اليوم وتبناها جمهور ليس بالقليل من أبناء الجيل الجديد هي خرافة تولية القيادات الشابة، وتصديرها في مختلف المواقع المؤسساتية المركزية، والاستغناء عن الجيل المتقدم العتيق، الذي هرم في جمع المعرفة واكتنازها، وأفنى العمر جهدًا وكدحًا في تنفيذها على واقع الحياة، مع خطوات لا تُحصى من الصواب والخطأ، شابت منها الرؤوس! وشاخت بسببها الأجساد! حتى تعلموا واختمرت أصول المعارف في أذهانهم، ومن الصعب –مع هذه المسيرة- أن تنافسها خبرة شاب يافع لم يزل يتعرف على معنى الحياة الأول.
ما يحملني على كتابة هذه السطور هو ما ألمحه من روح الثورة وأفكار الانقلاب والغيظ في عقول وصدور جيل شاب، لا يكاد يتجاوز العشرين! متحامل ملء الصدر على أحقية جيل عتيق بالقيادة، والشعور المتواصل بأنه جيل قمعي سلطوي قد سلب سعادة الشباب، ومنعه من تحقيق أحلامه بالزعامة وتولي المسؤولية.
وكل ذلك على ما يبدو من شظايا بعض أوهام "التنمية البشرية" ومدربيها، حين يسوقون دعاوى لا شكل لها ولا طعم، ويزودون الشاب بجرعات لا يحتملها عقله ولا قدراته ولا واقعه، حول فتح المجال للشباب وإعطاء الفرصة لهم في القيادة وتسليمهم زمام الأمر! وتنحية الجيل العتيق بعيدًا عن القرار، الجيل الذي نعوِّل عليه نحن في إيجاد الحلول لمشكلاتنا العميقة والمتشابكة بما استنار العقل به من علوم ومعارف وخبرات.
شباب لم يتخرج من الجامعة بعد، أو تخرج حديثًا! ثم يكافح مستقتلًا بعد دورة أو دورتين ليكون رئيسًا أو وزيرًا أو مديرًا عامًا في مؤسسات تحتاج الكَمَّ الهائل من الخبرات لإدارتها فضلًا عن تطويرها والارتقاء بها، ثم ينادي ذلك الشاب بمظلومية مريرة؛ لأنه لم يُعطَ الفرصة الكافية في القيادة والزعامة.. مسكين حقًّا! هرمون الخبرة الذي استقاه من "إعجابات فيس بوك" ومشاهدات "أنستغرام" جعلته رمزًا فريدًا من نوعه! وقائدًا يزاحم على مقاعد الصف الأول في إدارة المؤسسات! دون مراعاة لما يعرفه العالم كله حول أهمية الخبرة وسبل اكتسابها بمرور السنين والأيام.
إن ما نُشاهده في العالم المتقدم اليوم وما نقرأه في تاريخنا من نماذج نادرة واستثناءات طارئة تخالف القاعدة الأصلية في القيادة والتولية لا يمكن جعله حكمًا عامًا مطردًا، خصوصًا وأن العالم المتقدم بمؤسساته وسُلَّم صناعة القرار فيه مختلف تمامًا عمَّا نتوهمه نحن ونعبث به، فتلك النماذج مصحوبة عادةً بحشود من المستشارين والخبراء ومراكز الدراسات والأبحاث الجادة التي بمجموعها تُقدِّم نتاج الخبرة الرصينة على طباق مُذَهَّبة، يستند إليها أخيرًا من تصدر أمام الأنظار ليتخذ القرار الحكيم المؤسَّس على الخبرة العتيقة، وهذا ما لا نملكه في أوطاننا غالبًا.
أيها الشباب الحالم الطموح في فضاء أوطاننا المنهكة المتعبة وفي ميدان مؤسساتنا المترهلة المفككة، لا تُضللوا عقولكم بمثل هذه النداءات العشوائية، ولا تُلوِّثوا أحلامكم وأهدافكم بمثل هذه القرارات العبثية والمزورة، لتُطاردوا محطات ليست لكم! ولا من مسؤوليتكم! فالحياة بأيامها وسنينها تجارب! والشهادات والجامعات وخبرة السنين القليلة مهما عظمت هي واحدة من هذه التجارب فقط! لا تُغنيكم للاستقلال والتصدر واستلام زمام القرار والقيادة بارتجال.
خبرة الأجيال التي سبقتنا بالتجارب وتحمل الأخطاء وأثقال المعلومات التي تجتمع بمرور الوقت هي الثراء الذي نستقي منه ونستند إليه وننتفع من معينه ونبني على خطاه، جنودًا أوفياء! وطُلابًا مخلصين! وبدونه سنعاني التلكؤ والتخبط وبداية المشوار من الصفر، وسنزيد من معاناة الأجيال التي نحلم بانتشالها والأوطان التي نسعى إلى ارتقائها وتقدمها.
ولمجمل هذا ولغيره فإنني أربأ بنفسي وبمن أحبهم من أبناء جيلي وممن يلينا من أبناء الأجيال القادمة عن التخبط في مثل هذا الوحل العميق! والمنزلق الخطير! الذي لا يزيدنا إلا وهنًا وضعفًا وتراجعًا في مختلف الميادين بدل تحقيق الأحلام التي ننشدها جميعًا في سياق نهضة أمتنا وقيادتها.