في البداية، فكرة هذا المقال جاءت بعدما أنهيت قراءة كتاب: "الحوار أفقا للفكر" للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان والذي أتبعه بملحقين، لكن الذي يهمّنا هو الملحق الأول الذي عنونه: "حرية التعبير وحقّ الاختلاف"، جاء هذا السؤال بعد قراءتي الرابعة لهذا الكتاب الذي لا يُمَلّ لاسيما وأنه يحكي على أهم المشاريع التي جاء بها فيلسوف الأخلاق.
تعدّ مسألة مطلقية الاعتقاد من أشهر مخلّفات الحداثة وما بعدها، إذ ما فتئ الإنسان الغربي وتابعه بعض الممسوخين ثقافيا من بني جلدتنا تبنّي هذا الاتجاه دون أن يدركوا مآلات هذا الخطاب التحرري وما يترتب عليه، إذ كل خطاب له مآل، ولعل مآلات هذا الخطاب من دون تقييد، له أبعاده الدينية والأخلاقية على حدّ سواء.
هل الإنسان حرٌّ في اعتقاده مطلقا؟ هو في الحقيقة سؤال حقّ يراد له باطل، وذلك من وجهين: أولاهما، أن المُطْلَقية هي رتبة لا يُتصّف بها إلا الإله، ولا شكّ أن مقتضى تبنّي هذا الخطاب هي منازعة الإله في صفة من صفاته، وهنا المنازعة في الجزء منازعة في الكل. وثانيهما: أن أصحاب هذا الخطاب قد جمعوا بين نقيضين في آن الواحد، مطلقية الاعتقاد من وجه، وتقييد الفعل من وجه، وهاهنا يجوز لنا أن نتساءل: هل يصح الجمع بين ما هو مطلق وما هو مقيد فيآن واحد؟!
والمتأمل في هذا الخطاب يتبين له أنّهم يقولون: لا يضرّ اعتقاد حرّ مع فعل مقيد كما لا ينفع فعل حرّ مع اعتقاد مقيد. وليس ببعيد أن يقال: كما أن هناك إرجاء عقدي فكذلك هناك إرجاء فلسفي، لأن الذي لا يجمع إيمانه مع عمله، هو إرجائي، فكذلك الذي لا يجمع بين النظر والعمل على مقتضى القول الفلسفي، فهو إرجائي، تشابهت قلوبهم!
وقد نتج عن القول بحرّية الاعتقاد مطلقا ما يسمى بحرية التعبير، إذ لا يُتصور في آن واحد حرية في الاعتقاد وتقييد في التعبير عنها، وإلا كان ضربا من السفه، والعلاقة بينهما تلازمية، وأحدهما دال على وجود الآخر.
لكن المفارقة عند أصحاب هذا الاتجاه أنهم قد يقبلون قول: "حرية الاعتقاد غير مطلقة"، لكنهم ينكرون قول: "إن حرية الاعتقاد مقيدة"، بحجة أن التقييد يصادم الحرية. كما أنهم قد يقبلون قول: "إن حرية التعبير غير مطلقة"، لكنهم ينكرون قول: "إن حرية التعبير مقيدة" بحجة أن التقييد يصادم الحق، مع أن عدم الإطلاق هنا هو نفسه مدلول التقييد.
ولما أضحى الإنسان المعاصر أحرص على الحقوق منه إلى واجبات، وأعلق بالحريات منه إلى المسؤوليات، صار يطالب بالحق (الحرية) متجاهلا الواجب (المسؤولية)، وليس يبعد عن الصواب إذا قلنا: أن دلالة الإطلاق (الحرية) هنا هي التخلص من القيود (المسؤولية).
ولا شك أن غاية التخلص من القيد الدال على المسؤولية هو التخلص من القيد الدال على الأخلاقية، لأن لسان الحال يشهد أنه ما فتئ أصحاب هذا الاتجاه يتهجمون على مقدسات الغير، كالدين الإسلامي بدعوى حرية التعبير النابعة عن مطلقية حرية الاعتقاد.
ولا شيء يدفع هذا الاعتقاد السائد البائد إلا بمقابلة المطلق ـتنزّلًا ـ للمطلق، فإن أقر هؤلاء والتزموا به جاز لغيرهم الإقرار والالتزام بهذا المبدأ، وليقل كل من شاء بما شاء، ولا شك أن نتيجة هذه المقابلة لا يقبلونها، اذ قبولها ينّم عن مدى العبثية المغلفة بهذه الحرية، وإن هم لم يقبلوا هذه المقابلة، فقد وجب التقييد!