ما هو التطور؟ هل الإنسان في العصور الحالية أكثر تطورا من الإنسان في العصور السابقة؟
عندما تُطرح هذه الأسئلة على عينة من الأشخاص، تنقسم الآراء وتختلف الأجوبة، وقد يزداد الانقسام ويتعمق كلما تم التوسع أكثر في هذا الموضوع؛ فالفئة الأولى وهي الأكبر ترى أن الإنسان يتدهور؛ والدليل على ذلك تراجع الأخلاق وتزايد الدمار، أما الفئة الثانية فتَعتقد أن الإنسان يتطور أو قادر على التطور، ما دام يملك إرادة وقدرة على المقاومة، وبين الفئتين المُتعارضتين تتموضع الفئة الأقل نسبة، والتي تقول بأن الإنسان يتَطور ويتَدهور في الآن نفسه؛ لأن هناك تطور تكنولوجي سريع مقابل تدهور أخلاقي كبير.
لكن هل يعود الفضل في هذا التطور التكنولوجي لجِيل أو عصر معين؟ طبعا لا، لأن الجميع ساهم في إحداث هذا التطور وعبر جميع العصور، لذلك لا يمكن ربط تطور جيل معين بالتطور التكنولوجي، كما أن الاستعمال السيء وغير الأخلاقي لهذه التكنولوجيا لا يؤدي دائما إلى التطور، بل قد يؤدي إلى التدمير وتدهور الوسط واختلال نظامه، وبالتالي يمكن القول بأن مقومات ومحفزات التطور موجودة في داخل الإنسان، في إرادته وأخلاقه وأفكاره وقدرته على المقاومة والتوازن، وليس في الوسائل والآلات أو التمدن.
و قد أشار المفكر مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة"، إلى هذه النتائج، عندما قال بأن دورة الحضارة تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة أو مبدأ أخلاقي معين، كما تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت على الغرائز، وفي نهاية الدورة، الإنسان يكون قد تفسخ حضاريا وسلبت منه الحضارة تماما، لذلك فإن رجل المدينة هو نقطة الانتهاء في التاريخ وفي الحضارة وفي التطور.
لقد ارتكبت المدينة خطأ كبيرا بتضحية العقل في سبيل المادة، كما يقول الكسيس كاريل في كتابه "الانسان ذلك المجهول"، خطأ تزداد خطورته يوما بعد يوم، لأن الجميع يقبلونه بسهولة كما يتقبلون الحياة غير الصحية في المدن الكبرى، والسجن في المصانع، فالصِناعة بشكلها الحالي حرمت الإنسان من استخدام وجوه نشاطه العقلي، التي يمكن أن تجلب له قسطا من المتعة كل يوم.
إن الحضارة، يضيف الكسيس كاريل، لم تفلح حتى الآن في خلق بيئة مناسبة للنشاط العقلي، وتراجع القيمة العقلية والروحية المنخفضة لأغلب بني الإنسان، إلى حد كبير للنَقائص الموجودة في جوهم السيكولوجي؛ اذ أن تفوق المادة ومبادئ دنيا الصناعة حطمت الثقافة والجمال والأخلاق.
كما أن المجموعات الاجتماعية الصغيرة التي لها شخصيتها وتقاليدها الخاصة تحطمت بفعل التغيرات التي طرأت على عاداتها، وتدهورت الطبقات المثقفة لانتشار الصحف انتشارا واسع المدى، وكذا الأدب الرخيص والراديو ودور السينما.
ومن ثمة فإن ازدياد الطبقة الغنية آخذ في الازدياد أكثر فأكثر بالرغم من كمال المناهج التي تدرس في المدارس والكليات والجامعات، ومن العجيب أن بلادة الذهن توجد غالبا حيثما تتقدم المعرفة العلمية.
إن أطفال وطلبة المدارس يغذون عقولهم من البرامج السخيفة التي تضعها وسائل التسلية العامة ومن ثمة فإن البيئة الاجتماعية تناهض نمو العقل بكل قوتها بدلا من أن تعمل على هذا النمو. أما أولئك الذين يميزون الخير من الشر ويعملون، يظلون فقراء وينظر إليهم بضيق وتأفف، والمرأة التي أنجبت عدة اطفال، وأوقفت نفسها على تعليمهم بدلا من الاهتمام بمستقبلها الخاص تعتبر ضعيفة العقل.
إن الأطباء عاجزون عجزا تاما عن حماية العقل من أعدائه المجهولين، فنحن نجهل تماما طبيعة هذه الاضطرابات، ومن الجائز أن ضعف العقل والجنون هما الثمن الذي تدفعه المدنية الصناعية والتغييرات التي طرأت على وسائلنا في الحياة.
إن الحياة العصرية، بتعبير الدكتور كاريل، تخفي نقصا جوهريا، ففِي البيئة التي خلقتها تكنولوجيا وظائفنا النوعية تنمو نموا غير كامل. وعلى الرغم من عجائب الحضارة العلمية فإن الشخصية البشرية تميل إلى التحلل.
إن المجتمع الغربي، كما جاء في كتاب "الإنسان المَهدور" لمُصطفى حجازي، عبر إلى مرحلة المجتمع المدني القائم على المؤسسات التي يتصدر فيها الاقتصاد والإنتاج على السلطة، بينما لا زالت مجتمعاتنا في مرحلة سابقة على تحقيق هذه النقلة، التي أخذت ثلاثة قرون من عمر الثورة الصناعية، والتحولات المؤسسية والفكرية التي واكبتها وخدمتها.
إننا لا زلنا بصدد مجتمعات تتصدر فيها أولوية السلطة على الإنتاج والاقتصاد، وتحكمها في الأعم الأغلب علاقات الولاء والتبعية، الراسخة في قوى العصبيات وتنازعها على السلطة والثروات، وفي هذه الحالة نحن بصدد كارثة وجودية من هدر الإنسان، التي تضرب مشروع وجود المرء، وتستبيح حياته بإعتباره لاشيء.
إن التطور بالنسبة لبعض الباحثين هو مرادف لمفهوم أو ظاهرة التعقيد، وتتجلى هذه الظاهرة في تحول شيء بسيط إلى شيء معقد أو أكثر قدرة على التكيف مع البيئة، لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع المراحل التي مر عبرها هذا الشيء أو الكائن، فإنه سيتبين أنه قبل التحول هناك مراحل أو ظواهر أكثر تعقيدا؛ لأنها تمكن من تشكل الشيء من اللاشيء، ومن ثمة لا يمكن القول أن مسار الحياة يتحرك من البسيط إلى المعقد؛ لأن الظواهر التي يعتقدون بأنها تتسم بالتعقيد، بناء على دراسات أو ملاحظات، تسبقها ظواهر أكثر تعقيد، و يصعب ملاحظتها أو دراستها بالوسائل المتوفرة.
إن الباحثين لم يتجاهلوا هذه الظواهر أو المراحل السابقة عن قصد، بل طبيعة العلم القائم على التجريب والملاحظة هي التي حتمت عليهم بناء استنتاجات ونظريات انطلاقا من معطيات قابلة للملاحظة والقياس، ولا يعني هذا أن العلم ضد الدين، لكن ما يجعلهما يبدوان كأنهما متعارضان هو محاولة اثبات خطأ نظرية علمية بتفسير ديني أو العكس، فالنظريات العلمية تسقط بنظريات علمية مضادة.
إن الحقيقة المستمدة من العلم تختلف اختلافا تاما عن تلك المستمدة من الإيمان، كما يقول الكسيس كاريل، فالأخيِرة أكثر عمقا ولا يمكن التشكيك فيها بالمُجادلات، ولكن ما يدعو للغرابة أن هذه الحقيقة ليست غريبة على العلم، وإذ من الواضح أن الاكتشافات الكبيرة ليست نتاج العقل فقط، فإن العباقرة يملكون إلى جانب قوتهم في الملاحظة والفهم صفات أخرى.
واليوم نجد رجالا كثيرين يشتغلون بالعلم، لكن قلما نجد علماء حقيقين، ومن الواضح طبعا أنه لا يوجد عالم يستطيع أن يتحكم ويتفوق في جميع الفنون التي لا غنى عنها لدراسة مشكلة واحدة من مشاكل الإنسان؛ ومعنى ذلك أنه لا مفر من التخصص، ومع ذلك فإن الأمر لا يخلو من خطورة، فالإغْراق في التخصص، قد أدى إلى انكماش الذكاء.
إن مصدر التعقيد ليس الظواهر المدروسة، بل أحيانا تفسيرنا للظاهرة هو الذي يجعلها أكثر تعقيد، وغير قابلة للفهم، والتفسيرات الخاطئة لفكرة ما تؤدي حتما الى تطبيقات خاطئة ونتائج مدمرة.
وقد أشار روبرت داونز إلى هذا الموضوع عندما تحدث في كتابه "كتب غيرت العالم" عن تطبيقات سيئة لنظرية التطور، من طرف بعض الأنظمة الشمولية التي استخدمت فكرة بقاء الأصلح أو الأقوى لتبرير تصفية أجناس بعينها، وبنفس الطريقة بررت الحروب بين الأمم، بأنها وسيلة لإبادة الضعفاء واستمرار بقاء الأقوياء.
إن تطور الشيء يتطلب ثبات الظروف والشروط المحيطة بهذا الشيء، لكن هذه الظروف الثابتة غير متوفرة في الوسط الذي نعيش فيه؛ لأنه وسط متغير ومتقلب، وتغير الظروف ينعكس على حال الإنسان، الذي يسعى باستمرار إلى تحقيق نوع من الاستقرار أو التوازن مع الوسط، فالإنسان ثابت قابل للتغيير ومتغير قابل للثبات في الآن نفسه؛ هو من جهة نظام مغلق يميل إلى التكرار وإلى إعادة إنتاج ذاته، مدفوع بدينامية العادة والتقليد، حيث يغذي حالته الثباتية، وهو ما يعزز قوة مقاومة التغيير، ومن جهة أخرى قد يكون منفتحا على العالم الخارجي؛ يغذيه ويتغذى منه، وبالتالي ينمو ويتغير ويتطور.
إن الطرق الحالية للحياة قد كيفت نفسها لأنها سهلة وسارة، إنها تختلف اختلافا كبيرا عن حياة أسلافنا والجماعات البشرية التي قاومت الحضارة الصناعية حتى الآن، ونحن لا نعلم إذا كانت هذه الجماعات أحسن أو أسوأ منا؛ لكن طريقة الحياة التي أوجدتها المدينة العلمية جعلت عدد من الميكانيكيات التي لم يتوقف نشاطها خلال آلاف السنين من حياة الجنس البشري تغدو عديمة النفع، كما عبر عن ذلك الكسيس كاريل، ففي المدن الكبيرة يوجد كثيرون يظل نشاطهم خاملا دائما، لا يبذلون أي مجهود عضلي، ويتعلمون فقط ما يسليهم و لا يكافحون، فضلا عن أنانيتهم التي لا حد لها، وتجردهم من حدة الذكاء، وحينما ينقل هؤلاء المترهلين من بيئتهم المعتادة ويوضعون في أكثر أحوال الحياة بدائية فإنهم يتغيرون أحيانا إلى ماهو أفضل، ويسْتردون حياتهم، فقد أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين يترعرعون في وسط الطبيعة أكثر ذكاء وأقل عدوانية من نظرائهم الذين ينشؤون في الأماكن الأقل خضرة أو أكثر مدنية.