لعل المتتبع في صفحات التاريخ يجد بأن التحولات التاريخية الكبرى لم تحدث هكذا جزافا، بل وراءها جهد عظيم قد بذل وتضحيات جسام قد ضحى بها كثير من الناس، منهم من مجدهم التاريخ وذكر فضلهم وعطاءهم، ومنهم من ذكر على هامش التاريخ.
هذا القائد الكردي العظيم صلاح الدين الأيوبي الذي قهر الصليبيين ودك حصونهم، أعاد بيت المقدس للمسلمين بعد غياب عنها دام 90 سنة، هذا الإنجاز العظيم لم يحدث فجأة ولم يكن ليتحقق لولا الجهود التي بذلت منذ عدة سنوات، بدءا بمودود حاكم الموصل الذي يعتبر أول من بدأ بمهاجمة الإمارات الصليبية، مرورا بعماد الدين زنكي الذي أسقط إمارة الصليبيين في مدن المشرق ووحد حلب والموصل، وصولا إلى إبنه نور الدين زنكي الذي قضى على الداء الذي كان ينخر بالأمة آنذاك وهو دولة الفاطميين في مصر، فضم مصر ودمشق الى الموصل وحلب، هذا في المجال العسكري.
أما في المجال الدعوي فلا ننسى الدور الكبير الذي لعبته الحركة التجديدية التي قام بها الشيخ عبد القادر الجيلاني بتأسيسه مدارس الوحدة التي تخرج منها 400 عالم فتحوا مدارس بعددهم في أغلب البلدان الإسلامية، وكان هدف هذه المدارس كلها هو تأهيل جيل تحرير بيت المقدس، مما هيأ الأمة نفسيًا لمعركة الفتح، كما أورد الدكتور ماجد عرسان الجيلاني في كتابه "هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس"، فكان فتح بيت المقدس نتاج حركة إصلاحية وجهادية دامت عشرات السنين.
ونضرب مثالا آخر بالسلطان العظيم محمد الثاني الملقب بمحمد الفاتح الذي قام بإنجاز كبير بفتحه القسطنطينية عاصمة الحضارة الغربية آنذاك، إنجاز عظيم فعلا غير مجرى التاريخ وبه قويت الأمة واشتد ساعدها، هذا الفتح المبين لم يكن ليتحقق لولا الجهود التراكمية التي قام بها المسلمون منذ العصور الأولى للإسلام، رغبة من تلك الأجيال في تحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد الاهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور دولة بني عثمان التي عمل مشايخها وعلماؤها الربانيون على تربية الجيش وإعداده إعدادًا ربانيًا فتربى على معاني الإيمان والتقوى، وتحمل الأمانة، وأداء الرسالة المنوطة به، ولقد جعلوا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه منهجًا لهم في تربية الأفراد.
لقد آن للتفكير عندنا أن يتغير من انتظار عبقري فذ موهوب يصنع المعجزات ويتخطى المستحيلات: للتوجه لحركة شعبية جماعية، تقوم بقيادة سفينة التغيير والإصلاح.
ومن بين هؤلاء المشايخ نجد الشيخ الجليل آق شمس الدين الذي علم محمد الفاتح ورباه على حب الإسلام وحب الجهاد، وغرس في ذهنه بأنه هو الأمير الذي يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها"، من هنا بدأت الفكرة ومن هنا تأسس المشروع حتى تحقق ذلك سنة 1453م بدخول الجيش العثماني إليها، حيث نودي بالشيخ آق شمس الدين ليعلي الآذان في مسجد آيا صوفيا، لذلك كان هذا الفتح نتاج عملية تربوية دامت لسنوات.
هذه الأحداث التاريخية الكبرى ذكرناها كي نأخذ منها العبرة والفائدة التي تلزمنا والتي نحتاجها لإقامة نهضة شاملة لهذه الأمة، هذه النهضة المرجوة لطالما كانت وما زالت غاية كثير من الناس بمختلف أطيافهم فقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه 'الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد' بقوله: " لقد آن للتفكير عندنا أن يتغير من انتظار عبقري فذ موهوب يصنع المعجزات ويتخطى المستحيلات: للتوجه لحركة شعبية جماعية، تقوم بقيادة سفينة التغيير والإصلاح".
لذلك علينا من الآن أن نفكر ونعمل ونجتهد في إعداد جيل قيادي رباني، جيل يخرج لنا أمثال صلاح الدين وأمثال محمد الفاتح، جيلا عدلا يحمل هم هذه الأمة وهم هذا الدين، جيلا يحدث نهضة حضارية شاملة وينشر العدل ويضيء نور الإسلام في أرجاء المعمورة.