إن وسطية الشريعة الإسلامية في التشريع والتكليف قد قرره القرآن في أكثر من موضع. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 286].
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في التشريع، والتكاليف في فقرات متتالية؛ ليسهل فهم القضية، واستيعابها.
1 ـ امتنَّ الله على هذه الأمة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر، والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحمِّلها ما حمَّل من قبلها
فكان ذلك مظهراً من مظاهر وسطيَّة هذا الدين. يقول تعالى في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كلامه عز وجل مع قوم موسى عليه السلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] كما أن من جملة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين:{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}[البقرة: 286] وقد جاء في الحديث: «قال الله: قد فعلت»، وفي رواية: «قال: نعم».
والإصر: هو العهد الثقيل الذي في تحمله أشدُّ المشقة، والأغلال: هي الشدائد التي كانت في عبادتهم. روى الطبري عن الربيع في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] يقول: التشديد الذي شدَّدْته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ.
وقال سعيد: الإصر: شدة العمل.
وقال مجاهد: من اتبع محمداً ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم.
وفي آيتي البقرة، والأعراف إشارة إلى أنه عليه السلام قد جاء بالتيسير، والسماحة، والوسطيَّة، ودلت آية الأعراف على أن شريعتنا أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمتنا كل إصر، وثقل كان في الأمم الماضية.
ولبيان وسطيَّة القرآن في التكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله (ص) أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبيَّن منها الأغلال، والاصار التي كانت عليهم.
جاء في سفر الخروج: (من شتم أباه وأمه يقتل قتلاً، إذا نطح ثور رجلاً أو امرأة وكان الثور نطاحاً من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه، فقتل رجلاً، أو امرأة فالثور يرجم، وصاحبه يقتل).
(ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل).
وفي سفر اللاويين: (كل من مسَّ حائضاً يكون نجساً إلى المساء، وكلُّ ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً، وكل من مسَّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحمُّ بماء ويكون نجساً إلى المساء).
وفي سفر التثنية: (لا تحرث على ثورٍ، وحمار معاً، ولا تلبس ثوباً مختلطاً صوفاً، وكتاناً معاً).
وأصدق من ذلك، وأبين، وأدق قول الحق تبارك وتعالى في الكتاب العزيز: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } [النساء: 160]. وقوله سبحانه في بيان أنواع المحرمات عليهم بسبب بغيهم: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ *}[الأنعام: 146].
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتنَّ به على هذه الأمة من التخفيف، والتيسير، والتسهيل، ونعت نبيه (ص) بأنه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: 157].
وقد ذكر علماؤنا ـ رحمهم الله ـ شيئاً من الاصار، والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب، أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء المخطئة، وتعيُّن القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيام الصوم بعد العتمة والنوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الليل بالصبح على الباب.
وممَّا سبق يتضح دلالة آيتي البقرة، والأعراف على تقرير منهج الوسطيَّة في التشريع، والتكليف.
2 ـ وردت آيات كثيرة تبين: أنَّ الله لا يكلف نفساً فوق طاقتها، ولا يكلف نفساً إلا وسعها، وقدرتها.
قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 286]. وقال تعالى: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [المؤمنون:62].
وعلى الرغم من أنَّ قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ظاهر الدلالة على عدم التكليف إلا في حدود القدرة، والميسرة، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يبين فيه ما امتن به عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ، والنسيان، وحط الاصار، والأغلال، وعدم التكليف بما لا يطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
الأول: قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة: 286].
الثاني: قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } [البقرة: 286] وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة: 286].
قال البقاعي تعليقاً على هذه الآية: (وقد عرَّف الله عباده المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف على سبيل التعلي، إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلاً، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حمَّلهم فوق طاقتهم، مع أنه له جميع ذلك، وأنه عفا عنهم في سترهم، فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم)
قال الدكتور صالح بن حميد معلقاً على آيات عدم التكليف بما لا يطاق: ولا شك: أن الأحكام الشرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع، والاستطاعة دون بلوغ غاية الطاقة ففي ذلك الدلالة الظاهرة على أن الحرج مرفوع، وأن الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفية سهلة سمحة (وسطيَّة)، فللَّه الحمد والمنة!
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: فلا يتعبدها إلا {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} يسعها، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها.
ففي كلام الطبري ـ رحمه الله ـ الدلالة على أن هناك تكليفاً وأمراً بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه، ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطيَّة.
وقال رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: ولا يحاسبها إلا على {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} كلفها، والتكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج، ولا عسر. وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته. والمعنى: أن شأنه تعالى، وسنته في شرع الدين ألا يكلف عباده ما لا يطيقون.
وخلاصة القول: إنَّ هذه الآيات تقرر منهج الوسطيَّة في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقة، وليس فيها تضييق، وعسر، وإحراج.
3 ـ ومما يؤكد، ويقرر منهج الوسطيَّة في التشريع، والتكليف الآيات التي وردت برفع الحرج
كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[المائدة: 6].
وقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
وقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}[الأحزاب:38].
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[الفتح: 17].
وبعد أن بيَّن سبحانه جواز الزواج من زوجة الابن المتبنى حيث زواج رسول الله (ص) من زينب بعد طلاق زيد لها قال سبحانه: {لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37].
قال الدكتور صالح بن حميد: (إنَّ رفع الحرج، والسماحة والسهولة راجع إلى التوسط والاعتدال، فلا إفراط، ولا تفريط، فالتنطع، والتشديد حرج في جانب عسر التكاليف، والإفراط، والتفريط حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح، وعدم تحقيق مقاصد الشرع. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فالتوسط هو منبع الكمالات، والتخفيف، والسماحة، ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل).
فالله سبحانه وتعالى لم يكلف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشق عليهم إلا جعل الله لهم فرجاً، ومخرجاً. ولقد كانت الشدائد، والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحداً قبلها رحمة من الله وفضلاً.
يقول ابن العربي: (ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج؛ لطال المرام).
وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. (أي: ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية، ولا في غيرها أيضاً حرجاً ما. أي: أدنى ضيق، وأقل مشقة ؛ لأنه ـ تعالى ـ غني عنكم، رؤوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير، والنفع لكم)
قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال لمعاذ، وأبي موسى رضي الله عنهما ـ حين بعثهما أميرين إلى اليمن: «بشرا، ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا».
والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ} [الحج: 78]. يعني: من ضيق.
وقد اتَّضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطيَّة هذا الدين في تشريعه، وتكاليفه.
4 ـ آيات التخفيف والتيسير
نواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التشريع، والتكليف التي تقرِّر منهج الوسطيَّة، وأنه سمة هذا الدين، وسرٌّ من أسرار عظمته، وهذه الآيات هي آيات التخفيف والتيسير: قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] وقال جل في علاه: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى *}[الأعلى: 8] وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *}[الشرح: 5 ـ 6] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} [النساء: 28].
فهذه الآيات تبين: أن الله أراد بهذه الأمة اليسر، والتخفيف، ونفي إرادة العسر، والمشقة، وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسرين، وقد صرح كثير من المفسرين في الآيات السابقة: أن المراد عموم التخفيف في الشريعة، وإرادة التيسير، ورفع المشقة.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} [النساء: 28] (أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدِّره لكم).
قال مجاهد ـ رحمه الله ـ: (أي: في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر).
ومن هنا نخلص إلى أنَّ آيات التيسير، والتخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدين العظيم وعالميته، وأنه يلاءم كل زمان ومكان، ويناسب كل عصر ودهر، فهو الدين الرباني، والحكم الإلهي، تنزيل من حكيم خبير.