وقد كتب لي أحدهم عن هذا الويل المصبوب على أهلنا في قـطــاع غــزة، وأنّها كارثة غير مسبوقة، وظنّ أنها النهاية، وأن الحياة قد انقطعت، فكتبت إليه شذرة من ذاكرة الأيام لعل خاطره ينجبر، وفؤادَه يَسْكن:
فكيفَ إذا علمتَ يا صديقي أن الفرنجة الصليبيين في عام 492 هـ/ 1099م لمّا وصلوا إلى الرملة وكانت عامرة بالناس، وعاصمةَ حاضرتها وريفها خرج منها جميع أهلها خائفين، وتركوا حقولهم التي كانت في موسم حصادها، وتشرّدوا: بعضهم إلى الـقـــدس القريبة، وأكثرهم إلى عسقلان ومصر، ونهبت الفرنجة كل شيء في المدينة وما حولها.
ثم زحف الفرنجة إلى الـقــــدس فحاصروها أربعين يوماً ثم دخلوها بعد دفاع شرس من حاميتها، ثم وضعوا السيف في عامة الناس كباراً وصغاراً، ورجالاً ونساءً، وخصّوا أهل الذكر والعبادة والعلم ومَن لجأ إلى ساحات المسجد إثر تعهّد بعض قادة الفرنجة بتأمينهم، واقتحموا البيوت، وجرّوا الناس منها إلى ميادين القتل، فقتلوا خلائق لا يقع عليهم حصرٌ من كثرتهم، وأفنوهم عن آخرهم، ثم حاصروا قلعة داود نيفاً وأربعين يوماً وقتلوا حاميتها بعد أن تسلّموها بعقد أمان، ويتحدث بعض مؤرخي هذه الحملات الفرنجيّة أنهم لم يكونوا يستطيعون عبور الشوارع في اليوم التالي لكثرة الأشلاء، وأن الدماء كانت تجري من كثرة ما أراقوه من دمــاء المدنيين، وداسوا بخيولهم الجثث الملقاة والمتكوّمة.
ثم تعقّبوا الفارّين من هذا الجحيم مسيرةَ أسبوعٍ، وقتلوا كل من أدركوه؛ وكان القتلى نحو سبعين ألفاً، وهذا الرقم ليس إحصاءً دقيقاً وإنما تنويهاً مقدّراً أنهم أبادوا الناس إبادة شنيعةً، ولم يتركوا أحداً.
وذكَروا من الفظائع التي ارتكبوها أنهم لحقوا بعض الجند المنسحبين من المعركة حتى أدركوهم عند عسقلان فتعلّق أكثرهم هنالك في شجر الجمّيز العالية، فأضرموا النار عليهم حتى احترقت بمن تسلّقها، وتعلّق فيها، أو احتمى بين الحقول حولها.
ولمّا تمكنوا من المسجد أحرقوا كل ما فيه من المصاحف والكتب، وهدموا الكثير من المواضع الدينية فيها، وأحرقوا ما فيها، ونهبوا الخزائن والأسواق، واستولوا على الأوقاف ومحتوياتها.
وكان أحدهم إذا وصل إلى بيتٍ مــــــقدسيّ قبل صاحبه تملّكه بوضع السيف، وصار حقّاً خالصاً له، وصار كل شيء فيه له، وثبتوا حقوق الملكية بأسبقية الاستيلاء على البيت، ولهذا كان القتل شنيعاً للاستئثار بكل ما يمكن الاستيلاء عليه.
وغيّروا أسماء الأماكن ووضعوا لها مسميات صليبية جديدة، ولم يبق في المدينة أيّ معالم تدل على هويتها وإسلامها، وحتى تلك القبة على الصخرة نشروا عليها شعائر الصليب.
وحوّلوا المسجد ذا القبّة إلى كنيسة وشحنوها بتماثيلهم وأيقوناتهم ونقوشهم، وحوّلوا بقيّة المسجد إلى إسطبلات لخيولهم وحميرهم ومستودعات لخمورهم وأسلحتهم، وممرات لعسكرهم كما يريد أوغاد اليوم أن يفعلوا.
ولهذا فإن هذا الشعب الذي وعى الدرس مرتين بالنار: مرّة من أجداده الذين اجتاحتهم جحافل الأوروبيين الصليبيين، ومرة في أحداث الــ.ــنكبـة قبل نحو ستة وسبعين عاماً لن يترك أرضه، ولن يتوقف عن بذل كل نفيس من أجل البقاء فيها واستعادة ما فقده من قبل، والرأي الوحيد عنده أنه إنْ كان سيموت فلن يموت إلا واقفاً مناضلاً يُنْكِي العدو نكايةً مدوّية، وأنّه سيريهم نجوم الظهر في رابعة السماء عهداً وثيقاً مانعاً.