وإذا رأيتَ انكسار الفروع الباسقة، وانحسار البحور الزاخرة، وخفوت النجوم الزاهرة فإن ذلك يعني أن البطحاء لا صناديد فيها، وذلك أن أهل السؤدد والكرم قد اعتَسَف حالُهم لتمكُّن اللؤم واعتياد الوضاعة.
ولذلك ترى أن الجوع قد تمكّن من أهل الشمال فلا يجدون مواساةً ممن يملك القدرة على جَبْر الناس، وفتح طريق المواساة إليهم، وكنتُ أظنّ ذلك جبناً من هؤلاء القادرين فإذا به لؤمٌ !
وقد رأيناه لؤماً لأننا لا نأخذ الطعام منهم صدقةً ولا نفقةً، بل نشتريه بأغلى الأثمان التي يفرضونها علينا برسوم الشُّحّ فيها، كما تعهّد بالنفقة فيها أهل الجود والسخاء من الأقطار النائية.
ونحن هنا لا نتحدث عن جائع أو اثنين أو عشرة أو مائة... بل نتحدث عن مدن كاملة تجوع، والطعام على مسافة قريبة منه، تفصله عنه حواجز اللؤم، ومعابر العار، ونفوذ الدول التي تصرّ على إبادتنا.
كما أنّهم يعلمون عن حالنا يقين العلم، وهم يرون أنّ الناس عندنا بدأت تموت، وقد ظهرت عليهم علائم الفاقة وتضاريس الجوع، وهم لا يجدون طعام المضطرّ إذ لا توجد ميتة ولا نجاسة ليغْتَذوا منها، ولم يبق لهم إلا صيد القطط الضاوية والكلاب الجائعة بلا ملح أيضاً، وحتى العصافير باتت لا تحلّق فوق النار التي تضربنا من كلّ جانب.
وكنّا إذا قرأنا في دواوين الفقه عن فقه الجوع فسنرى أنّه إن امتنع صاحب القدرة على إدخال الطعام عن إدخاله فإن للمضطر المحاصَر أن يستعمل كل ما يتوفّر بين يديه لانتزاع الطعام منه، وإن حصل منه ما يستوجب القصاص فلا قصاص عليه ولا دية، بل يُقتصّ للمضطر إن أحدث فيه الممتنِعُ إصابةً لأن الممتنع ظالمٌ ومعتدٍ، وكان يسعه أن يأخذ العوض حاضراً.
ومن الفقه أيضاً أن أهل البلد الممتنِع إن رأوا حاكمهم يجوّع الناسَ، ولا يُدخل عليهم الطعام في الحصار، وهو قادر على ذلك، فلم يضربوا على يديه، ولم يعترضوا عليه، ويضغطوا بكل سبيل فهم شركاء في الإثم، لأنّ ذلك منهم يشبه الرضا بما يفعل فصاروا مثله.
ولا أدري كيف سيقابلون ربّهم، و"إزّاي" يلقونه بالحساب العسير الذي سيناقشه معهم "ومَن نُوقش الحسابَ عُذِّب"، وقد بلغهم وعيدُ رسول الله صلوات ربي وسلامه عليهم: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع"، و"لا يشبع المؤمن دون جاره"، و"ما آمن من بات شبعاناً، وجاره طاوِياً"، و"مَن كان عنده فضلُ زادٍ فليعُدْ به على من لا زاد له".
وأين منهم أمر رسول الله: "يا أبا ذر! إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءَها، وتعهّدْ جيرانَك".
هؤلاء أقلّ ما فيهم غير اللؤم أنّهم حُرموا الإيمان، ولو ادّعوه وأقسموا على ذلك: "ما آمن بي مَن بات شبعان وجارُه جائعٌ إلى جانبه، وهو يعلم".
وأخشى أن تصيبكم براءة الله من ذمّتكم كما أخبر سيدي رسول الله: "أيما أهل عَرْصَةٍ أصبح فيهم امرؤٌ جائعاً فقد برِئت منهم ذِمّة الله عزّ وجلّ". رُفِعت الأقلام، وجفّت الصحف.